حملت نهاية العام الماضي أخبارا لم تكن سارّة على الإطلاق للثقافة العربية في بريطانيا، حيث أعلن مَعلمان ثقافيان عربيّان إغلاقهما، مما شكّل صدمة للقرّاء والمتابعين من أبناء الجاليات العربية، والدارسين والمستشرقين الذين كانوا يجدون فيهما نوافذ يطلّون منها على الحركة الثقافية والأدبية في العالم العربيّ ويتعرّفون عبرها إلى الأدباء والمبدعين العرب.
جاء إسدال الستار على مجلة "بانيبال" نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي التي كانت تصدر باللغة الإنجليزية في لندن منذ ربع قرن، بالتزامن تقريبا مع إعلان إغلاق مكتبة "الساقي" العريقة التي اشتهرت بأنّها أحد أهمّ المعالم الثقافية العربية في لندن، ليثير أسئلة عن واقع المشاريع الثقافية العربية ومستقبلها في بريطانيا خصوصا وفي الغرب عموما، وكيف أنّها وصلت إلى نقطة النهاية التي لا تخلو من تراجيديا مصاحبة.
وعلى الرغم من أنّ الجاليات العربية في بريطانيا في الوقت الحالي أضعاف أعدادها قبل عقود إلا أنّ إغلاق بعض المشاريع الثقافية وهجرة بعضها الآخر يطرحان إشكاليات ثقافية وأسئلة عن اللغة والهوية وكيف يمكن تعزيز الحضور الثقافي من دون وجود أو استمرار مثل هذه المشاريع التي حقّقت حضورا لافتا في الغرب وعزّزت تأثير الثقافة العربية أو ساهمت في ترويجها وتسويقها بشكل كبير.
أدوار ريادية
هل نشهد أزمة للثقافة العربية في الغرب؟ هل يعكس ذلك يأسا متفاقما من لا جدوى المشاريع الثقافية في عالم ينحو نحو التسويق والاستهلاك أكثر فأكثر؟ إلى أيّ حدّ تعبّر هذه الأوضاع عن بؤس يُخشى طغيانه شيئا فشيئا في الأوقات اللاحقة؟ هل ارتبطت مشاريع ثقافية عربية بأصحابها بحيث بات من المستحيل فكّ الارتباط إلّا بالإغلاق أو التوقّف؟ هل يمكن القول إنّ الأمر يعود إلى عامل الزمن وما يخلّفه من إرهاق، وكيف أنّ الجيل المؤسس خاض التجربة وحيدا في مواجهة المشقّات والمصاعب ووجد نفسه مرهقا بعد عناء ومقاومة فآثر الإقرار بسطوة الواقع أمام الحلم والمثال والطموح الرومانسيّ بالاستمرار؟
مكتبة "الساقي" التي أسسها الزوجان أندره وسلوى كسبار منذ خمسة وأربعين عاما، لم تكن متجرا للكتب فحسب، بل كانت رئة ثقافية عربيّة تنبض في قلب العاصمة الإنجليزية وتمنح زوّارها، من العرب المقيمين والسائحين والدارسين وغير العرب، فرصة للاطلاع على أبرز الإصدارات الحديثة في العالم العربيّ، ومواكبة المشهد الثقافي العربيّ بحيث يشعر المرء بأنّه على صلة وثيقة بحركة النشر العربية، وعلى ما يهمّ العرب أو يتناول تفصيلا من تفاصيلهم التاريخية أو السياسية أو الجغرافية، وكانت تشكّل ملتقى لما يكتب وينشر عربيا ولما يكتب وينشر غربيّا عن العالم العربي كذلك.
كان الدور الذي أدته "الساقي" في حينه رياديا وهو استمرّ في التجدّد مع الزمن، لكن يبدو أنّ المتغيّرات والمستجدّات التي اجتاحت عالم النشر وصناعة الكتاب في العالم لم تستثنِ هذه المكتبة من تأثيراتها، وانعكست عليها بشكل أثقل كاهلها بالتقادم والتراكم، وكانت "التحديات الاقتصادية الصعبة" في مقدمة الضغوط التي دفعتها إلى الإغلاق، بحسب ما أعلن.
أوقفت المكتبة نشاطها المكتبي، لكن "إرثها يستمر"، بحسب تغريدة نشرها حساب "دار الساقي" على تويتر، "مع داري النشر المستقلتين: دار الساقي للنشر العربي في بيروت وSaqi Booksللنشر الإنكليزي في لندن، اللتين تستمران في العمل ونشر الكتب كالمعتاد".
من جهتها، لعبت مجلة "بانيبال" كذلك دورا رياديّا مميّزا وسجّلت اسمها في تاريخ الأدب العربي المترجم كأوّل مجلة متخصّصة بترجمة الأدب العربي إلى الإنجليزية، وعرّفت العالم بإبداعات الأدباء العرب، كما عرّفت الأدباء العرب من مختلف الدول بعضهم ببعض أيضا، عبر نشرها ملفّات متخصّصة تكفّلت التعريف بالمنجز الأدبي العربيّ الحديث ونقله باحترافية إلى الإنجليزية.
أوقفت "بانيبال" نسختها الإنجليزية مختتمة بالعدد الأخير والوداعي رقم 75، خريف 2022،لكنّها ستواصل النشر والصدور باللغة الإسبانية، مما يعني أن المشروع سيكمل ولكن بعيدا عن لندن التي تأسّس فيها وانطلق منها إلى العالم، وسيواصل تعريف العالم بالمنجز الإبداعي العربيّ ولكن بالإسبانية هذه المرّة. كما ستواصل منشورات "بانيبال" أيضا إصدار الكتب بحيث يتحوّل النشاط في جانب منه إلى الكتب بعيدا من ضغط العمل الإعلامي المتواصل الذي يحتاج إلى كثير من الجهود لإتمامه.
كتبت مارغريت أوبانك في افتتاحية العدد الأخير: "هل انتهى دور المجلة؟ قطعا لا. فالأدب العربي يحتاج دائما إلى مجلة مثل "بانيبال"، لا بل يحتاج إلى أكثر من "بانيبال". وها نحن نختتم عملنا بالعدد 75 من المجلة، لا لأنها لم تعد ضرورية، بل لأننا، أنا وصموئيل، وبصفتنا العاملين الرئيسيين فيها، لم نعد قادرين على مواصلة العمل، مؤمنين في الوقت نفسه بضرورة ضخّ دماء جديدة من الشباب الذين يتمتعون بالحماسة نفسها التي رافقتنا خلال هذه الرحلة، نحن وجميع من عمل معنا منذ صدور العدد الأول في فبراير/شباط 1998".
استراحة المحارب
يبدو أنّ الأمر لا يتعلّق بالقدرة المادّية فقط بل يعود في شقّ كبير منه إلى الوهن والرغبة في أخذ استراحة المحارب المستحقّة وتسليم الراية إلى الجيل الجديد الذي سيكون ملتزما تقديم رؤاه وتصوّراته للعالم الغربي عن ثقافته وأدبه ومنجزه الحضاري والتاريخيّ.
بعيدا من حالة البكائية التي قد تستحضر في أحيان كالتي تعلن نهاية مشاريع شكّلت منعطفات مهمّة في الذاكرة الثقافية المعاصرة في الغرب، تتجدّد الحاجة للوقوف على راهن الثقافة العربية وحضورها في الغرب، وكيف يمكن تكريس هذا الحضور في الوقت الذي نشهد انكفاء وتراجعا من دون وجود إجابات شافية.
لعلّ الإجابات المفترضة بدورها تثير أسئلة عن جدوى الاستمرارية في عالم لا يكترث للثقافة والأدب والكتاب ويعتبرها من المكمّلات، ولزوم ما لا يلزم، إلى جانب الحضور الإعلاميّ أو السياسيّ الذي يلقي بأثقاله وظلاله على الثقافي ويدفعه إلى الوراء.
أصبح كثير من المتابعين يحصل على الكتب إلكترونيا، ناهيك بركود حركة بيع الكتاب العربي نفسه في الغرب بفعل التكنولوجيا ووسائل التواصل، وربّما بسبب تغيّر أنماط الحياة المعاصرة نفسها، كما أنّ أسعار الكتب المرتفعة انعكست على حركة البيع وأضعفت القدرات على الاستمرارية في المستقبل.
لعبت التطبيقات الحديثة للكتب، وتوافر النسخ الإلكترونية، سواء بصيغ مقرصنة أو نظامية، وتطوّر وسائل الإعلام والتواصل، وتغيّر عادات القراءة، ولا سيما بعد جائحة كورونا، أدوارا في الحدّ من دور المكتبة والمجلّة، وظهر إيقاع حياتيّ مختلف بحكم المتغيرات الكثيرة التي تصاحب حياتنا المعاصرة المتسمة بالسرعة والاستهلاك.
لا يخفى أنّ أفول نجوم مشاريع نهضت بأعباء المسؤولية على مدار عقود لا يعني نهاية الجسور الثقافية بين العرب والغرب، لأنّ هناك مساعيَ لسدّ الفراغ سواء عبر المتاجر الإلكترونية ووسائل الإعلام الرقمية، أو عبر أفكار تبحث لنفسها عن موطئ قدم للانطلاق لاحقا.
الفخر بما أنجزته كلّ من "الساقي" و"بانيبال"، يفرض التقدير والاحترام، ويمهّد الطريق لتكريس مشاريع موجودة أو أخرى تخطّط للانطلاق لاحقا، بحيث تكمل الرحلة التي لا تخلو من العراقيل والعقبات، لكنّها تستحقّ المغامرة لأنّ الإبداع الثقافي والحضاريّ والأدبيّ العربيّ يستحقّ أن يواصل حضوره في مختلف اللغات والثقافات ويعزّز مكانته التاريخية بعيدا من أحكام نمطية جاهزة من شأنها رفع السدود والقيود التي يحطّمها الأدب.