تخطي إلى المحتوى
أفضل الكتب السيئة أفضل الكتب السيئة > أفضل الكتب السيئة

أفضل الكتب السيئة

سنة 1945 كتب جورج أورويل مقالة بهذا العنوان عن أعمال روائية حققت نجاحا جماهيريا، رغم أنها أعمال سيئة. كتب مقالته هذه من منطلق أنه قارئ وبائع كتب وناقد أدبي، معبِّرا فيها عن رأيه الحكيم مع روح الدعابة المدمِّرة التي تميز بها. عادت هذه المقالة إلى الظهور مرة أخرى، حين جُمعت أربع مقالات له في كتيب صغير ضمن سلسلة من الكتب التي تتحدّث عن القراءة وتأثيرها إيجابا أو سلبا على قرائها حسب نوعيتها.

عن الكتب السيئة التي تحقق انتشارا واسعا أعرف نماذج كثيرة، ولا أدري إن كان بعضكم يوافق على أن رواية «يوليسيس» أو «عوليس» لجيمس جويس – على سبيل المثال لا الحصر- رواية يصعب إنهاؤها، وإنها مصنّفة تصنيفا غريبا على سلم نسبة المقروئية فهي منتشرة بكثرة، لكن من يقرأها ينتهي إلى كراهيتها. هي ليست رواية ماتعة كما قد يتوقع البعض، فقد قالت عنها فرجينيا وولف، إنها رواية بذيئة عند صدورها عام 1922. ومع هذا فقد اثارت الكثير من الجدل والنقاشات، وتصدّرت عام 1998 قائمة أفضل رواية مكتوبة باللغة الإنكليزية في القرن العشرين، ما يجعلها تبقى في قائمة الكتب الأكثر مبيعا إلى يومنا هذا، وأكثر من ذلك فقد قرأت أن محبي جويس يحتفلون كل سنة في السادس عشر من يونيو/حزيران بـ»البلومز داي» أو يوم بلوم، كون أحداث الرواية تحدث في يوم واحد هو 16 يونيو 1904، وتروي سيرة شخص اسمه بلوم في دبلن.
هذا المختصر جيد وقد يسيل لعاب القراء الذين يعشقون التحدي لكن مهلا، فهذه الرواية تتطلب قاعدة وخلفية ثقافية مهمة يجب أن يتسلّح بها القارئ، معرفته بملحمة هوميروس مثلا، اطلاعه على الإنجيل بعهديه القديم والجديد، وأدب شكسبير، وغيرها من المعارف، وكأنّ الكاتب قرّر منذ البداية انتقاء قارئه.
وقد تذكّرت هذه الرواية حين أهداني صديق رواية التونسي الصافي سعيد «قبعة الكومندانتي» الصادرة عن منشورات سوتيميديا في سبتمبر/أيلول الماضي في تونس، إذ لم أتخطّ عتبة الخمسين صفحة في قراءتها، علما أنها تتكوّن من 613 صفحة، وكنّا قبل أن تصل الرواية إلى يديّ قد تحمّست لقراءة هذا الكاتب الذي وُصِف بالمثقف العظيم، الذي لا يتكرّر في العالم العربي، لا بسبب متانة ركائزه المعرفية في ميادين الأدب والسياسة والاقتصاد، بل لشجاعته أيضا لخوض تجارب نجد المثقف عموما يبتعد عنها ما استطاع.
الصافي سعيد سياسي محنّك وإعلامي مستقل، ومؤثر بالمعنى المتعارف عليه الآن عبر منصات التواصل الاجتماعي، فمثلا لم أكن أعرف أنه مطلق اسم «الربيع العربي» على الحراك الشعبي العربي في عدد من الدول العربية، حتى أصبح وصفا ثابتا لهذه المرحلة، سواء قبلنا به أم لم نقبل.
مقارنة بأهل المغرب العربي فأنا أجهل الرجل تماما، رغم خوضه الانتخابات الرئاسية في تونس وتكرر ذكر اسمه كثيرا، وما سمعته عنه لا يمكنني اختصاره، فقد صال وجال في العالم، وتعرّض لتجارب قاسية في بعضها، كما لمس عن قرب طبيعة الأنظمة العربية والافريقية والأمريكية اللاتينية، بالتالي لمن يريد أن يدخل عالمه الروائي (لديه أكثر من عشرين كتابا) عليه أن يتسلّح بثقافة عالية، واطلاع كاف بتاريخ اليسار الذي هيمن في حقبة معينة على دول بعينها، وجذب مثقفين من الوزن الثقيل في كل بقاع العالم، وهذا ما يبدو صعبا حاليا على الفئة القارئة في العالم العربي، فقد أصبحنا مثل ذوي التّخصصات، كل تخصص بعيد تماما عن تخصص غيره، لكن إن أردنا أن نكون صريحين أمام أنفسنا، فنحن نمثل اليوم أكبر نسبة من المتعلمين الذين يقرأون ويكتبون، لكنهم لا يملكون عقلا نقديا. هناك كتب نقتنيها لمجرّد أن أصحابها اشتهروا، وبعد قراءة عدد من الصفحات فيها نتركها جانبا، ولا نعود إليها ثانية، حدث هذا كثيرا مع روايات مثل «مئة عام من العزلة» لماركيز، «بينما أرقد محتضرة» لوليم فوكنر، والقائمة طويلة إن فتحت بابا عليها كلها.

في «قبعة الكومندانتي» تأكدت أني أحتاج لعطلة لقراءة الكتاب، وليس إلى ساعة قراءة يومية بعد يوم طويل من العمل يلتهم نصف ليلي أحيانا فأعود منهكة، مشوّشة الأفكار، غير قادرة على إعادة قراءة بعض الصفحات التي سبق لي قراءتها لدخول أجواء الرواية من جديد. ومع هذا سأخبركم أن كمّ المعلومات الواردة في الرواية، وطريقة حبكتها التي تشبه أفلام وودي آلان، تجعلها صعبة القراءة، وممتعة في الوقت نفسه. يحيي الصافي سعيد مجد اليسار، دون تمجيده، بل ربما انتقده بشدة، ويقدّم لنا نصا تحليليا قلّما نجده اليوم في النصوص العربية التي تتنافس على بقعة الضوء. طيب هل يحق لي أن أقول هذا الكلام بعد قراءة خمسين صفحة لا غير؟

سأخبركم كيف وقعت في فخ هذه الرواية، وأنتظر آراءكم الكريمة بشأن حكايتي، لقد فتحت الكتاب على الصفحة الأولى وواجهتني هذه الفقرة الساحرة: «أنا فرديناندز ماشاشو. لا وطن لي الآن، ولا حتى عائلة /…/ ما يحزنني حقا الآن أني فقدت الشخص الذي كنت أروي له حكاياتي. لا أجد من يسمعني. كذلك لا أجد الرّغبة في الحديث إلى أي كان. وفيما أنا أشعر بفضائل الصمت، فإنني أجد نفسي مثقلا بحكايات رائعة لم أروها بعد، ولم أتجرّأ إلى حدّ الآن على كتابتها».
إن كان هذا المدخل لا يشعركم أنكم أصبحتم «البديل» الأقرب للشخص الذي فقده الرّاوي، فهذا يعني أنكم لم تقعوا تحت سحر هذا النوع من الكتابة، وهي تلك التي ترفع القارئ من مرتبة «المتسوّق في المكتبات بحثا عن كتاب مسلٍّ» إلى مرتبة صديق، وهذه حيلة برع فيها قلّة من الأدباء الذين يستعملون ضمير «الأنا» في السرد. يخفق بعضهم لأنهم يكتبون من باب الحيلة لا من باب الشغف، وهذا النص حقيقة مختلف. ثم يتميّز الكاتب هنا بآرائه، ويتفرّد بها، غير آبه بالنّقد الذي قد يلحق به وبنصه، يخبرنا بما يرد في رأسه من قصص، ويربطها برابط خيالي محض، ليفصّل رؤيته السياسية لما حدث ويحدث في العالم، وكأنه يضع خريطة العالم أمامه، معلّمة ببيانات أدبية ثقافية، فيذكّرنا بمغامرات الكُتّاب على هذه الجغرافيا الشاسعة، وبمصائرهم التي اختلفت عن غيرهم من شعوبهم. متسائلين أحيانا لماذا يبقى الكاتب الحقيقي في الواجهة بعد مئة عام من غيابه؟ لماذا لا يفتك الموت بالنص بعد انطلاقه ككائن غير مرئي؟ لماذا علينا أن نقرأ غاليانو لنفهم عالم كرة القدم وتنبؤاته الخطيرة مثلا، أو كارلوس فوينتس لنفهم ثورة زباتا في جنوب المكسيك على أنها ردة فعل على موت العالم المكسيكي القديم، أو غياب شمس الهنود وهم السكان الأصليون!
ينتقل بنا الصافي سعيد بين مثقفي الحقبة اليسارية الذهبية، مثلما التقى وودي آلان في ليله الباريسي بأدباء وصناع المشهد الثقافي دفعة واحدة، ويصف لنا ما يحدث بلغة حادّة لا حياد فيها ولا مجاملة: «القتلة لا ينظرون إلى وجوههم في المرآة» كما يرد على لسان الأب لابنه فرديناندز قبل أن يرد هذا الأخير: «للكلاب أرواح متعددة، إنّها لا تموت دفعة واحدة»!
سأبلغ الفصل الرابع لاهثة، وأنا على يقين أن فرديناند سيلتقي الكاتب الألماني غونتر غراس، وأن هذا اللقاء مهم، لكن حجم النص يرعبني وأنا بحاجة للنوم، أغلق الرواية التي لم أستوعب بعد بنيتها، ولا معالمها الحقيقية، واعدة نفسي بالعودة إليها حين أكون في عطلة من كل ارتباطاتي. اعتذرت من صديقي الذي أهداني الرواية، وسألته: «هل هذا هو النوع الذي وصفه جورج أورويل بأفضل الكتب السيئة»؟ فأجابني: «ربما يقصد أسوأ الكتب الجيدة، وأورويل نفسه واحد منهم»!

المصدر: 
القدس العربي