تخطي إلى المحتوى
الروائية ميرال الطحاوي: الكتابة الحقيقية حفر معرفي في التجارب الإنسانية الروائية ميرال الطحاوي: الكتابة الحقيقية حفر معرفي في التجارب الإنسانية > الروائية ميرال الطحاوي: الكتابة الحقيقية حفر معرفي في التجارب الإنسانية

الروائية ميرال الطحاوي: الكتابة الحقيقية حفر معرفي في التجارب الإنسانية

عكس العنوان "أيام الشمس المشرقة" -الذي قد يوهم القارئ بالتفاؤل والشروق والضوء والأمل- نكتشف داخل متن الرواية الأخيرة للكاتبة المصرية ميرال الطحاوي ظلاما دامسا وعوالم متناقضة وصادمة وقصصا إنسانية لمهاجرين ولاجئين يعيشون البؤس والتشظي والاغتراب والظلم ويعانون الويلات في العالم الخلفي والسفلي بالساحل الغربي الأميركي، في رسائل فنية تخييلية تحفز على التفكير وتلعب على المتناقضات والصدمة.

واستطاعت الطحاوي من خلال أسلوبها الفني المتميز ولغتها الصادمة وعوالمها الغريبة أن تصل بهذه الرواية إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2023.

ولدت ميرال الطحاوي سنة 1968، وتربت في بيئة بدوية صحراوية بمدينة الحسينية في محافظة الشرقية المصرية، ولفتت إليها الأنظار في الساحة الثقافية منذ روايتها الأولى "الخباء" التي حصلت على جائزة الدولة التقديرية، كما فازت رائعتها "بروكلين هايتس" بجائزة نجيب محفوظ للرواية العربية.

وصدر لها في الرواية أيضا "الباذنجانة الزرقاء"، و"نقرات الظباء"، و"امرأة الأرق"، وفي النقد أصدرت الطحاوي عدة كتب استلهمتها من بيئتها البدوية واشتغلت فيها على المخيال الشعبي، مثل "الأنثى المقدسة.. أساطير المرأة في الصحراء"، و"بنت العربان"، و"بعيدة برقة على المرسال".

وعن عوالم روايتها الأخيرة "أيام الشمس المشرقة" وما تركه أثر وصولها إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، وعن قيمة الجوائز في الساحة الثقافية العربية كان للجزيرة نت هذا الحوار مع الكاتبة المصرية المقيمة في أميركا ميرال الطحاوي، انفتح على تأثيرات مواضيع الغربة والهجرة على الكتّاب العرب في المهجر والمنفى، فضلا عن عدة قضايا ثقافية أخرى.

·وصلت روايتك "أيام الشمس المشرقة" للقائمة القصيرة إلى جائزة عربية مؤخرا، فكيف تلقيت وتقبلت هذا الخبر؟ وما هو شعورك بهذا التتويج الأول؟

مر وقت طويل بين روايتي "بروكلين هايتس" والأخيرة "أيام الشمس المشرقة"، لم أكتب خلال تلك السنوات العشر أي عمل أدبي، انشغلت كل هذا الوقت بالكتابة الأكاديمية.

بالطبع، اختلفت مشاعري من الترشح الأول للجائزة، في كل مرة الكثير من الفرح والكثير من القناعة بأن الجوائز نصيب، والتنافس عليها تجربة جميلة وثرية للكاتب والكتابة، لكنها ليست هدفا وليست دافعا للكتابة.

الجوائز تخلق رواجا للمكتوب، وتخلق مناخا للتنافس اللطيف، وفي الحقيقة تقدم الجوائز مائدة عامرة ودماء جديدة تثري الكتابة العربية، أنا حريصة على قراءة كل القوائم، وأشعر أنها تعطيني معرفة بتجارب الزملاء وتسمح لي بمتابعة حركة الإبداع العربي واتجاهاتها.

·برأيك، هل الحصول على جائزة هو فخ كبير للمبدع الحقيقي يمكن أن يلهيه ويسقطه في الشهرة الزائفة وحب الظهور والابتعاد عن العمق في قادم أعماله، هذا البعد المفخخ للجوائز كيف تقيّمينه؟

النجاح والشهرة وعدد الطبعات والكتابة التي تستهدف رضا القارئ فقط وأرقام المبيعات هي فخ كبير وليس الجوائز الأدبية.

الجوائز الأدبية رغم تحفظات البعض على نتائجها أو اعتراض البعض واتهامها بأنها غير عادلة أحيانا وخضوعها إلى ذوق لجنة التحكيم أحيانا كثيرة فإنها تظل معبرة عن حركة الإبداع.

التفتت الجوائز للكثير من الكتّاب الكبار مبكرا بأعظم الجوائز، لكن ذلك لم يؤثر على مشروعهم الأدبي واستمروا في التنافس على غيرها، والكثير منهم رفض بعضها والكثير منهم انتظروها لكنها ذهبت لمن هم أقل منهم قيمة، نتابع ذلك الضجيج كل عام حول نوبل وغيرها من الجوائز، لكن ذلك لا يقلل من أهميتها.

لقد حظيت بالكثير من الجوائز في مسيرتي، روايتي الأولى "الخباء" اختيرت مؤخرا ضمن أفضل 100 رواية في الأدب العربي الحديث، وهذا شرف كبير، حصلت على جائزة الدولة مبكرا عن روايتي "الباذنجانة الزرقاء"، وجائزة نجيب محفوظ وغيرها، لكن تظل مصداقية الكاتب ووزنه الحقيقي في التقدير الأدبي الذي يحصل عليه من أبناء مهنته.

·"أيها المسافر، اشتر الورد لعلك تقابل في الطريق من يستحقه" عكس هذا القول الرومنطيقي لشمس الدين التبريزي -الذي صدرت به روايتك "أيام الشمس المشرقة"- نكتشف داخل المتن ظلاما دامسا وعوالم متناقضة وصادمة، فأي رسائل فنية تخييلية تريدين إبلاغها من خلال اللعب على التضادات والتناقضات والمفارقات الصادمة المحفزة على التفكير والتنوير؟

أتفق معك تماما، الرواية فعلا تلعب طوال الوقت على المفارقة، فالجنة الأبدية ليست جنة، والشمس المشرقة جحيم طبقي وعنصر بالغ القتامة، وأطواق النجاة هي أطواق عبودية جديدة في المجتمع الرأسمالي بكل أطيافه، والناجون ليسوا ناجين بالضرورة، بل أسرى أحلامهم المجهضة، ذلك الجحيم بدأ يتكشف بكل صوره في أوروبا وأميركا، تكشفه شهادات الهاربين من جنة اللجوء، وهي مجتمعات صارت غير مرحبة بقوافل المهاجرين التي تقتحم شواطئها ولا تخجل من مطاردتهم في البحار والمحيطات رغم كل ادعاءات التسامح والتقبل المحتمل.

نعم، اشتغلت على هذا التناقض، وهو تناقض سريعا ما يكتشفه المهاجر واللاجئ، يكتشفان ذلك وبالضرورة، لكن بعد أن تصبح خيراته أقل، فلا هو يستطيع أن يندمج بكليته في هذا العالم الجديد، ولا هو قادر على العودة إلى عالمه القديم، يظل عالقا بين العالمين بلا أمل في النجاة.

اللغة مؤشر مهم على تطور تجربة الكاتب، اللغة كاشفة لثقافته ورؤيته، وزاوية نظره للعالم، اللغة وتطورها كاشفة عن نضج الكاتب أو فشله في تطوير تجربته الأدبية، واللغة في سياق آخر ابنة النص، التجربة تفرض لغتها على النص، والشخصيات المكتوبة أيضا تفرض معجمها وأداءها اللغوي وطرق تعبيرها

·من السمات اللافتة في رواية "أيام الشمس المشرقة" لغتها الجريئة العنيفة المستفزة، فضلا عن الصور والمشهدية البصرية السينمائية التي كتبت بها ورسمت بها اللوحات، فهل الشخصيات المنتمية للهامش والقاع هي من خلقت لغتها وتحررت عنك وثارت وتمردت عليك وعلى الراوي العليم؟

الكثير من الكتابات التي تناولت الرواية بالفعل تحدثت عن اللغة، وتعدد مستويات التعبير، وأنا سعيدة بذلك.

أعتقد أن اللغة مؤشر مهم على تطور تجربة الكاتب، اللغة كاشفة لثقافته ورؤيته، وزاوية نظره للعالم، اللغة وتطورها كاشفة عن نضج الكاتب أو فشله في تطوير تجربته الأدبية، واللغة في سياق آخر ابنة النص، التجربة تفرض لغتها على النص، والشخصيات المكتوبة أيضا تفرض معجمها وأداءها اللغوي وطرق تعبيرها.

في الحقيقة، لقد اشتغلت وانشغلت كثيرا بلغة روايتي، والتي تطلبت قدرا كبيرا من المخاطرة، وتطلبت أيضا قدرة كبيرة على التحرر من الخوف والرقابة الذاتية وحسابات القبول والرفض في التلقي، وهي المرة الأولى التي أشعر فيها بأنني قادرة على التحرر من ميراث الخوف الذي لازم كتاباتي الأولى.

حملت السنوات الأخيرة ملايين اللاجئين العرب والأفارقة وغيرهم من الجنسيات الي أوروبا وأميركا، كل فرد في هذه الجحافل البشرية يملك روايته الفريدة عنها، كل شخص هو رواية بحد ذاتها، تلك التجربة الإنسانية لم تكتب بعد رغم كل ما كتب، لقد تم تناولها لكنها لم تكتب بعد، وأعتقد أن مآسيها وظلالها ستظل مهيمنة على الكتابة العربية والعالمية لمدة طويلة

·رواية "أيام الشمس المشرقة" هي روايتك الثانية عن عالم اللاجئين والمهاجرين بعد رواية "بروكلين هايتس"، فما الذي يشغلك ويحفزك للكتابة عن هذا العالم؟ وما هي الإضافات الفنية التي يمكن أن تحققيها مع مواضيع متناولة ومستهلكة بكثرة من قبل الكتّاب العرب في المنفى والمهجر؟

ظاهرة الهجرة غير النظامية وتجربة الشتات القسري أو الاختياري هي ظاهرة استثنائية في السنوات الأخيرة لم يشهد العالم مثيلا لها منذ الحرب العالمية الثانية.

لقد حملت السنوات الأخيرة ملايين اللاجئين العرب والأفارقة وغيرهم من الجنسيات إلى أوروبا وأميركا، كل فرد في هذه الجحافل البشرية يملك روايته الفريدة عنها، كل شخص هو رواية بحد ذاتها.

وتلك التجربة الإنسانية لم تكتب بعد رغم كل ما كتب، لقد تم تناولها لكنها لم تكتب بعد، وأعتقد أن مآسيها وظلالها ستظل مهيمنة على الكتابة العربية والعالمية لمدة طويلة، وأن أجيالا قادمة من الكتاب سيكتبون عن تلك الفترة التاريخية من زوايا غير متوقعة وغير مطروقة، لأن الكتابة الحقيقية هي حفر معرفي في التجارب الإنسانية الكبرى، فما زالت تجارب مثل الحروب والهجرات والنزوح والشتات والاضطهاد العرقي والصدام بين الثقافات موضوعات أزلية لم ولن تمل الروايات من اجترارها.

قيمة النصوص الروائية لا ترتبط بالموضوع الذي تتطرق إليه، ترتبط القيمة بعمق الطرح وجدة التقنية، وفرادة اللغة، والقدرة على اكتشاف جوانب جديدة في التجربة المكتوبة، فما زالت الرواية التاريخية والخيالية والعاطفية مطلوبة، وما زالت عوالم الغرب الأميركي ومآسي العبودية وكوارث الحروب الأهلية والصراعات العرقية محورا لنصوص كتبت ونصوص لم تكتب بعد

في النهاية، الكتابة تتشكل عبر تيارات أدبية واتجاهات يفرضها الواقع الذي يعيش الكاتب فيه، إن قيمة النصوص الروائية لا ترتبط بالموضوع الذي تتطرق إليه، بل ترتبط القيمة بعمق الطرح وجدة التقنية وفرادة اللغة والقدرة على اكتشاف جوانب جديدة في التجربة المكتوبة، فما زالت الرواية التاريخية والخيالية والعاطفية مطلوبة، وما زالت عوالم الغرب الأميركي ومآسي العبودية وكوارث الحروب الأهلية والصراعات العرقية محورا لنصوص كتبت ونصوص لم تكتب بعد.

القبائل العربية لم تتوارث فقط تراثا شفاهيا، بل توارثت ميلودراما تاريخية متعددة الأبعاد، عاشت تاريخا طويلا من التنقل والحروب والمكانة الاجتماعية والازدراء، تاريخا من الهيمنة على السلطة ثم التهميش والخروج مؤخرا من التاريخ الاجتماعي المصري بعد ثورة يوليو

·ولدت ونشأت في أسرة ذات أصول بدوية، وتربيت في بيئة ريفية محافظة في صحراء محافظة الشرقية، فما هي التأثيرات العميقة للثقافة الشفوية والمخيال الشعبي ومساهمته في تكوينك الفني والسردي التخييلي؟

ولدت في محافظة الشرقية لأسرة تنتمي إلى إحدى القبائل العربية العريقة، كبرت بين عمات وجدات يتناقلن الكثير من الحكايات عن تاريخ العربان في مصر وتنقلهم ما بين برقة الليبية وخان يونس الفلسطينية وتجارتهم في سنار السودانية، القبائل العربية لم تتوارث فقط تراثا شفاهيا، لكنها توارثت ميلودراما تاريخية متعددة الأبعاد، عاشت تاريخا طويلا من التنقل والحروب والمكانة الاجتماعية والازدراء، تاريخا من الهيمنة على السلطة ثم التهميش والخروج مؤخرا من التاريخ الاجتماعي المصري بعد ثورة يوليو.

الصورة التي ارتسمت للبدو في مصر ولشيخ العرب في الذاكرة الشعبية المصرية إشكالية تتراوح بين الاحترام والتقدير الديني للفاتح العربي صاحب الرسالة واللغة والديانة وبين الازدراء لهذا البدوي الهمجي المستلب مستغلا أرض مصر التي شكلت الضرع العامر بالخيرات.

لقد ساهمت تلك الثقافة في تكويني الثقافي بالطبع وإن كانت أيضا مصدرا من مصادر التخيل، أضف إلى ذلك أنه كان عليّ مراجعة تلك الطفولة واستلهامها والكتابة عنها من مسافة بعيدة، من ثقافة مغايرة تماما، لقد كان هذا الزاد من الأغاني والحواديت والذكريات هو زادي في رحلة الشتات أتطلع إليه بكل الحنين وأحاول جمعه ودرسه وإبقاء هذا التواصل به لأحفظ لروحي توازنها.

·كيف استفادت وأثرت ميرال الطحاوي الساردة والقاصة على الناقدة والعكس صحيح؟ وأي الشخصيتين أكثر إلهاما واستبدادا بالأخرى؟

الدراسة الأكاديمية كانت في كثير من الأحيان سببا من أسباب أزمتي الشخصية ككاتبة، والتوفيق بين الاشتغال على الدكتوراه والأبحاث والترقي الأكاديمي والنشر العلمي بلغة كنت أجهلها، والتدريس أيضا بها، تجارب عطلت رحلتي في الكتابة، كان علي التوقف أكثر من مرة عن الكتابة الإبداعية، لكنني في سياق آخر ساهمت في تطوير خبراتي المعرفية واستطعت في النهاية خلق تواصل بين مشروعي ككاتبة ومشروعي الأكاديمي.

ولا أنكر أن العمل الأكاديمي كان إضافة سمحت لي بالتواصل مع الأدب العربي كدارسة، بل وأحيانا مزج خبراتي في الكتابة، فكتاب "بنت شيخ العربان" على سبيل المثال هو حصيلة لخبرتي بالثقافة البدوية ونتاج لبحث تاريخي طويل في سيرة هذه القبائل ونزوحها وتراثها وكتابات المستشرقين عنها.

وكتابي "بعيدة برقة على المرسال" كان بدوره رحلة طويلة في جمع الأشعار البدوية التي تكشف الوجدان الشعبي البدوي وطرق تعبيره عن الترحال والحب والحنين للديار.

في النهاية، الكتابة ابنة مخلصة لتجربة الكاتب الشخصية ورحلته في اكتشاف ذاته وثقافته، ويبقى التوازن هو محنة الكاتب إذا عز عليه التفرغ، وعليه أن يجعل من دراسته مددا ثقافيا ومعرفيا لإثراء تجربته ككاتب، أنا سعيدة وراضية عن تجربتي.

المصدر: 
الجزيرة