تخطي إلى المحتوى
أكبر انهيار بنكي منذ 2008.. إليك قصة إفلاس بنك وادي السيليكون في 48 ساعة فقط أكبر انهيار بنكي منذ 2008.. إليك قصة إفلاس بنك وادي السيليكون في 48 ساعة فقط > أكبر انهيار بنكي منذ 2008.. إليك قصة إفلاس بنك وادي السيليكون في 48 ساعة فقط

أكبر انهيار بنكي منذ 2008.. إليك قصة إفلاس بنك وادي السيليكون في 48 ساعة فقط

"فخورون بوجودنا في قائمة فوربس السنوية لأفضل البنوك الأميركية وذلك للعام الخامس على التوالي، وأيضا لترشيحنا لقائمة أفضل المؤسسات المالية للمجلة".

كان ذلك نص تغريدة حماسية نُشرت عبر الحساب الرسمي لـ"بنك وادي السيليكون" (Silicon valley Bank)، المعروف اختصارا بـ"SVB"، في يوم السادس من مارس/آذار الحالي (قبل إغلاق الحساب لاحقا)، وهي تغريدة لم تلقَ اهتماما كبيرا وقتئذ. في الواقع، إدراج هذا البنك في قوائم "فوربس" كان أمرا اعتياديا، بوصفه واحدا من أكثر البنوك شهرة في أميركا، والذي يعرِّف نفسه بكونه "الشريك المالي للاقتصاديات المُبتكرة".

حتى ذلك الحين، كان بنك "SVB" مؤسسة بنكية أميركية عملاقة راسخة، لها تاريخ يمتد إلى 40 عاما من العمل المصرفي، تتخصص في تمويل ودعم الشركات الناشئة ليس فقط في أميركا، بل وتمتد نشاطاتها إلى الصين والهند وسائر العالم، وتملك أصولا بقيمة 200 مليار دولار، وتضم أكثر من 8500 موظف موزعين عبر عشرات الفروع والمقرات داخل أميركا وحول العالم.

لذلك، كانت الصدمة الكبرى التي لم يتخيّلها أحد أنه بعد عدة أيام فقط من نشر هذه التغريدة، وبقدوم نهاية الأسبوع نفسه، تحول "الشريك المالي للاقتصاديات المُبتكرة" إلى بنك مُفلس، وتحوَّلت "40 عاما من الخدمات المصرفية" إلى معاناة لسداد ودائع العملاء، في واحد من أخطر الانهيارات المصرفية التي شهدها العالم منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008. (1، 2، 3، 4، 5)

بنك المؤسسين

لكي نفهم ما حدث، يجب أولا أن نشير إلى وضع بنك "SVB" في الخريطة المصرفية والاستثمارية في أميركا والعالم. ببساطة، يمكن القول إن بنك وادي السيليكون -كما يشير اسمه بالضبط- هو بنك مُوجَّه للشركات الناشئة واستثماراتها بالأساس، لذا يمكن وصفه بأنه "بنك المؤسسين" (Founders Bank). بعبارة أوضح، إذا أسست شركة ناشئة في أميركا أو في معاقل الشركات الناشئة الأخرى حول العالم، فغالبا إما ستحصل على تمويل من هذا البنك، وإما ستودع التمويل الذي حصلت عليه فيه.

تأسس بنك "SVB" عام 1983، وبدأ رحلته بضخ التمويلات المخاطرة في بعض الشركات التقنية، لكن دوره برز في منتصف التسعينيات مع زيادة أنشطته في قطاع تمويل الشركات التقنية الناشئة في وادي السيليكون. لاحقا، وفي مطلع الألفية، افتتح البنك فروعا له في الهند والصين وأوروبا، وبدأ في رصد وتمويل الشركات الناشئة النشطة خارج أميركا، حتى وصل عدد الشركات الناشئة التي موّلها البنك أو تعاون معها بحلول عام 2011 إلى أكثر من 30 ألف شركة.

في السنوات الأخيرة، تحول بنك وادي السيليكون إلى واحد من أكبر البنوك في أميركا، حتى إن صحيفة "فورتشن" المالية قالت في تقرير لها إن البنك لديه حسابات لأكثر من 50% من الشركات الناشئة عالية المخاطرة في أميركا وحدها، وإن أنشطة الاستثمار الجريء وحصص الملكية في المشروعات الناشئة تُقدَّر بنحو 56% من إجمالي نشاط البنك عالميا.

الأزمة في الأفق

 ورغم كونه بنكا غير تقليدي بطريقة ما، فإن طريقة عمل "SVB" لا تخرج عن الطريقة التقليدية للبنوك: يضع المتعاملون إيداعات في البنك مقابل فائدة محددة، وفي الطرف الآخر يقوم البنك باستخدام هذه الودائع عبر منح قروض بفوائد للمؤسسات والشركات أو استخدام هذه الأموال في تمويل مشاريع ناشئة عالية المخاطرة تدرّ أرباحا كبيرة لاحقا. يحقق البنك إيراداته وأرباحه من خلال الفرق بين نِسَب القروض والإيداعات، وعائدات التمويل بالاعتماد على اختياراته الدقيقة للشركات والمؤسسات سريعة النمو.

خلال الفترة ما بين 2019 حتى بدايات عام 2022، كانت معدلات الفائدة منخفضة للغاية، حيث كان يتراوح سعرها ما بين 0.25% و0.50%، مع نشاط الأسواق وضخ تمويلات كبيرة في المشاريع الناشئة بتقييمات كبيرة. القاعدة هنا تقول: كلما انخفضت فائدة البنوك، كان هذا دليلا على قوة السوق وارتفاع معدلات الاستثمار في المشاريع التي تجلب أرباحا أكبر من فوائد البنوك.

حسنا، بالنسبة لبنك "SVB"، فإنه يعمل من جهة بوصفه مصرفا تقليديا، ومن جهة أخرى يُعَدُّ مصدرا لتمويل المشاريع الناشئة التقنية مرتفعة القيمة، مما يجعله أقرب إلى وجهة بنكية واستثمارية معا. في تلك الفترة، ارتفعت معدلات الإيداعات في البنك بشكل كبير للغاية، حيث صعدت من 60 مليار دولار عام 2019 إلى 189 مليار دولار عام 2022.

مع استمرار انخفاض الفوائد في تلك الفترة، وضرورة تشغيل هذه السيولة الهائلة المودعة في البنك لتوليد أرباح بشكل أكبر من القروض البنكية أو تمويل المشاريع الناشئة، دفع هذا البنك إلى البحث عن الاستثمار في مجالات أخرى تكون عالية الأمان ولديها عائد جيد مقارنة بسعر الفائدة المنخفض آنذاك.

استثمر البنك نحو 80 مليار دولار في أدوات السندات المدعومة بالرهن العقاري (Mortgage Backed Securities)، وهي تُعَدُّ أدوات دَيْن عالية الأمان بعائد يُقدَّر بنحو 1.5% في المتوسط. بالطبع مع معدلات فائدة منخفضة للغاية تقترب من الصفر، فإن نسبة 1.5% ليست سيئة. المشكلة الكبيرة فقط ستأتي إذا بدأت أسعار الفائدة في الارتفاع.

لسوء الحظ، كان هذا هو ما حدث بالفعل، فمنذ مارس/آذار 2022 رفع الفيدرالي الأميركي سعر الفائدة أكثر من 7 مرات لمواجهة التضخم العالمي، حتى وصل إلى سقف 4.75%، وهو ما يعني أن البنك أصبح يدفع مبالغ أكبر للمودعين، مقارنة بعوائد منخفضة يحصل عليها من استثماراته. بمعنى أوضح، بدأ الفرق يتسع ليتحول إلى أزمة في توفير السيولة الكافية من طرف البنك للمودعين. وزاد الطين بلّة تراجع الكثير من مؤسسات الاستثمار الجريء عن ضخ تمويلات للشركات الناشئة، ومن ثم تراجع معدّل إيداع الشركات لأموالها في البنك. (6)

وقت الأزمة

في الثامن من مارس/آذار، ومع تزايد حاجة البنك إلى استيفاء متطلبات المودعين بتوفير أموالهم في ظل نقص السيولة المالية، قرر البنك بيع سندات بقيمة 21 مليار دولار، مُتحمِّلا خسارة قدرها نحو 1.8 مليار دولار في هذه العملية، فضلا عن إعلان نيته في إصدار المزيد من السندات بقيمة 2.25 مليار دولار لسدّ الفجوة التمويلية. كان الهدف من وراء هذه الإجراءات تحرير بعض رأس المال وتوفير المزيد من السيولة، لكن هذا الإجراء تحديدا كان بمنزلة الشرر الذي أشعل نارا لا يمكن إطفاؤها.

ضع نفسك مكان المُودعين: لديك بنك ضخم قام ببيع سندات استثمر فيها سابقا، ورضي أن وفعل ذلك بخسارة كبيرة في مقابل أن يوفر سيولة بأي ثمن، فضلا عن قيامه بإصدار سندات جديدة وعرضها للبيع. ما الاستنتاج الذي يمكن أن يقفز في ذهنك غير أن هذا البنك لديه مشكلات سيولة حقيقية وأنه يحاول تأخير الوقت التي يُعلن فيه عدم قدرته على رد أموال المودعين؟ كانت هذه اللحظة تحديدا هي بداية موجة فزع من المتعاملين مع البنك.

مع حالة الهلع التي انتابت الجميع، صدرت البيانات الصحفية لتصب المزيد من الزيت على النار، مع أخبار انهيار سهم بنك "SVB" الذي تهاوى بنسبة تزيد على 70%، وأنه بدأ رحلة سقوط حر لا وقوف لها. بقدوم التاسع من مارس/آذار، مع المزيد من الانهيار في قيمة السهم، انهالت طلبات آلاف المودعين بسحب ما قيمته 42 مليار دولار من الودائع في يوم واحد، وهو أمر يستحيل على أي بنك مهما كانت موارده المالية أن يلبّيه، الأمر الذي عرّضه لظاهرة "التزاحم المصرفي" أو "Bank Run"، وهي الظاهرة الاقتصادية الشهيرة المرتبطة بفزع المودعين من قرب إفلاس البنوك وعدم قدرتها على رد الودائع.

الطريق إلى الإفلاس

مع الانهيار المستمر لأسهم البنك، أعلن "SVB" أنه تراجع عن اتجاهه لإصدار المزيد من السندات، وأنه يعرض نفسه للبيع المباشر للمستثمرين في حل أخير للخروج من الأزمة بدلا من الوقوع في المزيد من الخسائر. هذه التحولات السريعة التي حدثت في ظرف يومين اثنين فقط لأهم بنك في عالم الشركات الناشئة في أميركا ومناطق كبيرة حول العالم أدت إلى تزايد موجة الهلع وإقبال المودعين والمستثمرين على سحب أموالهم من البنك في زمن قياسي، خصوصا مع نداءات المستثمرين المؤثرين في وادي السيليكون إلى مؤسسي الشركات الناشئة بسحب أموال شركاتهم في أقرب وقت، وإلا فستتعرض أموال الشركات إلى التجميد لفترة طويلة.

في العاشر من مارس/آذار، قامت المؤسسة الاتحادية لتأمين المودعين (FDIC) التابعة للحكومة الأميركية بإغلاق البنك كليا والبدء في إجراءات توفير السيولة للعملاء. تقوم المؤسسة بتوفير الأموال لجميع المودعين في البنوك المتعاملة معها، بحد أقصى ربع مليون دولار للحساب الواحد. كانت المفاجأة أن 3% فقط من حسابات المودعين في بنك "SVB" ينطبق عليها تغطية التأمين، وأن 97% من الحسابات خارج التغطية المباشرة.

ورغم التصريحات الحكومية التي تُطمئن المتعاملين مع البنك بأن كل مَن لم يحصل على أمواله كاملة فإنها سوف تُدبَّر خلال الفترة المقبلة عند الانتهاء من بيع أصول البنك الضخمة، لم يفلح ذلك في تهدئة الشكوك خاصة أن الكثير من مديري البنك كانوا قد أسرعوا ببيع أسهمهم قبل إعلان إفلاسه رسميا بعدة أيام، مما يثير شبهات فساد كبيرة ما زال التحقيق فيها جاريا بشكل واسع، وستتضح المزيد من الحقائق لاحقا.

المشهد ضبابي

"إذا لم تتدخل الحكومة، فأعتقد أن جيلا كاملا من الشركات الناشئة سيُمسح تماما من على ظهر الكوكب!".

صدر هذا التصريح على لسان غاري تان، المدير التنفيذي لمسرّعة الأعمال العالمية "واي كويمباتور" (YCombinator) التي تُعَدُّ أكبر مسرّعة أعمال في أميركا تستثمر في الشركات الناشئة حول العالم، بما فيها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فمع التأثير الكبير لبنك "SVB" على الشركات الناشئة، سواء في أميركا أو حول العالم، خصوصا في الصين والهند، من المرجّح أن تمر الكثير من الشركات الناشئة بأوقات عصيبة، على المدى القريب في سداد فواتيرها التشغيلية مع عدم قدرتها على الحصول على تمويلاتها المحتجزة في البنك، أو على المدى البعيد بتعثر جولات التمويل الجديدة. ( 7 )

يبدو المشهد ضبابيا للغاية حتى لحظة كتابة هذه السطور، فبحسب المحللين الماليين فإن انهيار بنك "SVB" هو أكبر انهيار شهده القطاع المصرفي منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، مما يدق ناقوس إنذار جديد لاحتمال انهيار المزيد من المؤسسات المالية، خصوصا أن هذا الإفلاس يأتي مباشرة بعد أيام من انهيار بنك آخر، وإن كان أقل حجما، وهو بنك "Silvergate" الذي يركز على الاستثمار في شركات العملات الرقمية بالتحديد، وقد لحقه مباشرة انهيار بنك ثالث هو بنك سيغنتشر "Signature Bank"، وهو بنك آخر ينشط في تمويل الشركات الناشئة.

حتى الآن، لا أحد يعرف بالضبط ماذا سيكون مصير بنك وادي السيليكون (SVB) الذي تحول في ظرف يومين اثنين من مؤسسة مالية ومصرفية عالمية عملاقة إلى مؤسسة غارقة في الإفلاس يُدرَس مصيرها النهائي ما بين التسييل الكامل وبيع الأصول ورد الودائع للشركات والمستثمرين، أو أن يتدخل رجل أعمال لشراء البنك وإعادة تشغيله بمعايير مختلفة، وبالطبع سيكون اسم "إيلون ماسك" في المقدمة، بعد أن غرّد تغريدة مقتضبة تشير إلى أنه منفتح على فكرة الاستثمار في البنك والتدخل في الأمر.

المصدر: 
الجزيرة