رمضان هذا الشهر الجميل، الذي ينتظره الصغار قبل الكبار، الذي تلتف فيه الأسر حول مائدة الرحمة، الذي يطمع فيه المذنبون في رحمة الله، شهر المغفرة الذي يجُب ما قبلَه من ذنوب، شهر الفقراء والمحتاجين، وكذلك شهر الميسورين لتزكية أموالهم وأنفسهم، شهر التكافل الاجتماعي، شهر الدفء وصلة الأرحام، شهر القرآن والتسامي الروحي.
سعت وتسعى دولة الاحتلال إلى شيطنته، وهذا جزءٌ من الشيطنة العامة للفلسطيني، وثقافته ومعتقده، إنها أحد الأسلحة السامة التي تشهرها دولة الاحتلال لتشويه الفلسطيني وعقيدته وممارساته الدينية، لتجنيد الرأي العام الإسرائيلي وحشده لمواصلة المشروع الإحلالي لفلسطين. الشهر الفضيل الذي كنا نتخيله شيخاً أبيض اللحية صار شهر الإرهاب والعنف، مثلما صار من يقاوم الاحتلال ولو بحصوة بحجم شق تمرة إرهابياً. إنه شهر يتصاعد فيه إرهاب سلطات الاحتلال، وبالتالي فهو يستجلب ردود فعل على إرهاب الاحتلال، هذه هي الحقيقة وليس العكس. إنه شهر تتحول فيه بوابات القدس وأسواقها وحرمِها إلى ثكنات عسكرية، هدفها التحرش بالوافدين إلى أسواق المدينة وإلى الحرم القدسي الشريف، إنه شهر التخريب الممنهج على التجار وأبواب رزقهم من خلال افتعال المواجهات ودفع الناس إلى التردد وتحاشي دخول القدس. سلطات الاحتلال تعد الرأي العام المحلي والعربي والدولي لما سيحدث أو ممكن أن يحدث في هذا الشهر، كأنها تتنصل منذ الآن مما سيحدث.
طبيعي أن يكره الاحتلال شهر رمضان.. إنه شهر بركة تتضاعف فيه أعداد المصلين في المسجد الأقصى، ومسجد قبة الصخرة، هذه الأعداد التي تصل إلى مئات الآلاف في صلاة العشاء وصلوات التراويح وليلة القدر ووقفة العيد تُزعج الاحتلال، وتخرجه عن طوره، لأن هذه الأعداد الهائلة تمثل كل المجتمع الفلسطيني، تعلن تمسكها بعروبة المدينة المحتلة، ورفضها لسياسة الأمر الواقع الذي يحاول الاحتلال فرضها على مدار عقود بكل وسائل القمع اللئيمة والخسيسة والعدوانية، لأنه الرد الساطع على التهويد والهدم والتنكيل والتخريب والقتل والطرد والتشريد الممنهج للجانب العربي من المدينة. يكثر إعلام الاحتلال ترديده عن حشد القوى الأمنية بالآلاف، بمناسبة اقتراب شهر رمضان، وكأن رمضان هو شهر العدوان عند المسلمين، هكذا يصبح الاحتلال بريئا حتى قبل أن يبدأ بارتكاب ما يمكن لنا أن نتوقعه في شهر رمضان وغير رمضان، خصوصاً في ظل حكومة فاشية لا تقيم اعتباراً لأي قيمة إنسانية. مشهد عشرات الآلاف مهرولين عبر بوابات القدس وأسواقها لا يروق للاحتلال، فهذه مشاهد تذكر وتؤكد على أرض الواقع، أن جهود عقود من تهويد القدس ستبوء بالفشل، وأن المسلمين والعرب غير قابلين للمحو، ولن تفلح سلطات الاحتلال بتهميش وجودهم في مدينتهم، ولن تنجح كل مخططات تغريبهم ودفعهم إلى الشعور بالغربة في مدينتهم، فهم يحتضنونها وهي تحتضنهم رغم المعاناة. بتحريضها على شهر رمضان، تعلن دولة الاحتلال للعرب المطبعين أن ما قد يحدث خلال الشهر المبارك من سفك للدماء، هو ليس ذنبها ولا ذنب الاحتلال، بل هو ذنب شهر رمضان الذي ترتفع فيه رغبة المسلمين واستعدادهم للقيام بأعمال «إرهابية».
إنها سياسة ممنهجة منذ عقود، وسمت كل الرموز الدينية الإسلامية بالإرهاب، وهو مشروع إعلامي متكامل ممتد إلى ما وراء المحيط، وتحول إلى مشروع دولي. لكن الشهداء يرتقون ليس فقط في رمضان، «شهر الإرهاب»، بل إنهم يرتقون في رجب وشوال وشعبان وربيع الأول والثاني وجمادي وصفر وغيرها؟
لسنا بحاجة لانتظار شهر رمضان الفضيل لنرى إرهاب الدولة المتمثل بالمستوطنين وجرائمهم على الملأ. إن ما يحدث من مواجهات في رمضان، خصوصاً، وفي بقية أيام السنة لا يتحمل مسؤوليته سوى الاحتلال، وأي تداعيات تحدث على الأرض هي نتيجة الاحتلال والاستيطان والاستقواء والإذلال اليومي ونهب هواء وماء وأرض الفلسطينيين، ويتحمل المسؤولية إلى حد كبير من يمالئون هذا الاحتلال، ويساوون بخبث ووقاحة بين الضحية والجلاد، بين المحتل المغتصب والضحية، ويتحمل مسؤوليته أولئك المطبعون الذين يواصلون التطبيع متجاهلين ما يحدث على أرض الواقع، وأقصى ما يفعلونه هو دعوة الطرفين إلى ضبط النفس، وتتحمل أمريكا وسياستها الداعمة بلا قيد أو شرط كل المسؤولية عن هذا التسيب الاستيطاني الإجرامي.