في مقال سابق لنا بعنوان «طباخ الحنين» حاولنا تسليط الضوء على سياسات وفنون الحنين التي بات يتبعها بعض الطباخين والمطاعم السورية في إسطنبول، لجلب الزبائن من ناحية، وأيضا في سياق محاولة هؤلاء الفاعلين التعبير عما يرونه هوية سورية في بلد اللجوء. لكن مقابل الانخراط في إعادة خلق الهوية، يبدو أن عالم الطباخين السوريين (اللاجئين) لم يلعب دورا حسب على صعيد الحشد الهوياتي، أو نشر ثقافات ذوقية جديدة داخل إسطنبول، بل نرى أيضا تأثرا بعالم المذاق التركي وفنونه في تقديم الطعام، ولذلك يشكل عالم الطعام اليوم فرصة للنظر في علاقة اللاجئين السوريين بثقافة البلدان المضيفة، ومدى تأثرهم بهذه الثقافة، وهو ما سنحاول تتبعه من خلال مطعم مطبخ أبو عمر (صاحب البيت الدمشقي في إسطنبول) الذي عرف في السنوات السابقة بإعداده لطبق القشة التقليدي (أمعاء الخروف).
فن إعداد القشة
في كتابها «فن الطهو والأنثروبولوجيا» ناقشت الأنثربولوجية جوي أدابون فكرة الطهي أو الطعام، بوصفه شكلا من أشكال الفن، وبوصفه منظومة من الأفعال، تهدف إلى تغيير العالم. وفي حالة أبو عمر، نجد أنّ ما جعلَ هذا الطباخ ناجحا ومتفوقا على أقرانه من الطباخين السوريين، في عالم إعداد القشة، هو تحويله عمله إلى فن، مرة بتغيير شكل مكونات الطبق من خلال إضافة المكسرات، ومرة أخرى بتحويل الطبخ إلى نشاط مرئي.
فعلى صعيد مكونات القشة، نلاحظ أننا أمام عملية إعادة انتاج التقليد، أو المحلية مرة أخرى، فهو يعيد الوصفة التقليدية، مع إضافة ما يستطيع التقاطه من وسائل الإعلام، ويبدو أنّ هذا النوع من المعرفة والمهارات اللازمة لإعادة إنتاج مثل ذلك التقليد، هو شيء أخذ ينمو معه ويكتسبه من خلال الخبرة اليومية في المطعم، ما يدعم فكرة أن عادات وتقاليد الطبخ هي ممارسات حية وديناميكية وقابلة للتكيف والتعديل إلى ما لا نهاية. غالباً ما يختتم أبو عمر الأطباق التي يعدّها، كما يظهر من خلال مقاطعه على يوتيوب، برشّ كمية من المكسّرات على وجهها، وهو ما يذكرنا بطريقة تقديم بعض المحلات التركية لوجبات المشاوي بالأخص، عبر وضع كميات مبالغ بها من الفستق الحلبي.
يقول أبو عمر، عن إضافته للمكسرات على وجبة القشة، التي تبدو غريبة وبعيدة عن طريقة تقديمها المعتادة داخل سوريا، إنه ليس هناك من أضاف المكسرات لهذه الأكلة سابقا. وهذا ما تؤكده فعلاً بعض كتب تاريخ الطعام مثل، الملحق الصغير «معجم الأكلات الشامية» الذي ألّفه السياسي السوري فخري البارودي في الخمسينيات، وهو ملحق بات يحمل اليوم مهمة «الإنقاذ الإثنوغرافي» لعادات الطعام لدى السوريين في ذاك الزمن. ويبين البارودي في هذه الوثيقة أنّ أكلة القبوات (أو القشة) تُعدُّ كالتالي «تنظف الأمعاء جيدا ثم تُحشى باللحم والرز والعصفر، ويمكن إضافة قليل من الصنوبر، ثم يغمر ويترك بالماء ويترك على النار حتى ينضج» ليُقدّم لاحقا ساخناً، مع إضافة قليل من الليمون عليها حسب طلب كل شخص. قد تشبه هذه الوصفة أيضا طريقة إعداد الطبخة ذاتها في تركيا، «İşkembe» التي تُقدّمُ أيضا بشكل بسيط، دون مكسرات أو حبات من الرمان. ويذهب أبو عمر إلى أن ما دفعه لهذه الإضافة، أنّ المكسرات تضفي جمالية فنية على صورة الطبق، أو «تجعل الطبق يرقص» وفق تعبيره، كما يؤكد أنّ تقديمه للطبخ، سواء عبر يوتيوب أو داخل المطعم يقوم على قاعدتين، الأولى طريقة استقبال الزبون، وهذا ما نراه من خلال اعتماده طقوسا ولغة باب الحارة الدرامية، ثم تأتي طريقة تقديم الطبق بشكل فني.
ولن يقتصر أبو عمر في سياق تزيين طبخاته على رشّ المكسرات، بل سيقوم خلال التعريف بها أيضاً بأداء أدوار تمثيلية، إما من خلال استضافة بعض الأشخاص لتأدية مقاطع تتحدث عن إعداد طبق شامي تقليدي، أو من خلال جلب شخصية تعمل على تقليد دور شخصية أبو غالب الشهير، التي أداها الممثل السوري نزار أبوحجر. والطريف أيضاً اعتماده على فكرة المونولوج الدرامي، لكنه هنا يعيد توظيفها ويجري تعديلاً على فكرتها لتتلاءم مع أفكاره في التسويق وتقديم طبخاته. فالمونولوج عادة ما يأتي في سياق تراجيدي، أو جاد عبر حديث الذات مع نفسها، بينما يقوم أبو عمر برفقة مصور المقاطع بتعديلها لتغدو فكاهية، فتتمثل الذات الأخرى في المقاطع مرة بشخصية زعيم مسلسل باب الحارة «أبو شهاب» وأحيانا بشخصية أخرى ذات ملامح دمشقية قديمة. وعند سؤاله عن كيفية تعرفه على هذا الأسلوب في التصوير، يبين أبو عمر أنه اكتسب هذه الخبرة الفنية من خلال مقاطع يوتيوب، الذي غدا المصدر الشعبي الأوسع للمعلومات في السنوات الأخيرة. كما يبرر ما يفعله بما يسميه «التجريب» وربما تدعم هذه المقولة فكرةَ أدابون حول الفن والطعام، فالفن في نهاية المطاف هو تجريب، وبالتالي يمكن القول إنّ ما يفعله هذا الطباخ السوري هو جزء من فن تقديم طبخاته، أو التعريف بها عبر يوتيوب، وهو أسلوب لم يكن يراه السوريون في السابق داخل دمشق أو حلب مثلا، وإنما بات جزءا من حياة المطاعم السورية في إسطنبول ، كما أنه لم يُعدّ أمراً ثانوياً اليوم، بل غدا شيئاً أساسياً في عالم الطبخ والمطاعم، ولاسيما في السنوات الأخيرة مع انفجار عالم الصورة والسوشيال ميديا.
صحن القشة التقليدي في سوريا
مسرحيات بوراك
لكن في مقابل الاستنتاج الذي يرى أبو عمر المتأثر بالسوشيال ميديا ومقاطعها، ومحاولته توظيف أدوات هذا العالم في طريقة عرضه لطبخاته، تبدو هذه الصورة غير كافية لفهم هذا الأسلوب، بوصفه وليد التطور الرقمي والتأثر به حسب، خاصة أن هذا الاستنتاج الذي يولي للعالمي الدور الأبرز في التأثير، ينفي في المقابل تأثير البيئة المحلية التي يوجد فيها الفاعل (الطباخ أبو عمر) وهي في حالتنا تتمثل في عشرات، إن لم نقل مئات مقاطع الطعام التي تروج للطعام التركي في إسطنبول، حيث يقيم الطباخ.
لا ينفي أبو عمر تأثره قليلاً، في طريقة تعريفه بوجباته، بالشيف التركي بوراك، الذي بات يحظى في السنوات الأخيرة بمتابعة الملايين، كما غدا مطعم المدينة وفروعه في حيي اكسراي وتقسيم ي اسطنبول، أو مطاعمه الأخرى في دبي والدوحة، محل زيارة من قبل نجوم السينما ولاعبي كرة القدم، كما عرف هذا الشيف بدوره في بعض الحملات السياسية للحكومة التركية، داخل البلاد وخارجها، ومع مرور الأيام غدا شخصية عابرة للمحلية، وجزءا من أدوات تركيا الذوقية/ الناعمة في الإقليم. والطريف في مقاطع أبو عمر الأولى، أنه يبدو أحيانا وكأنه يتقمص شخصية بوراك، وهو مشهد سيتعمق مؤخرا مع افتتاح أبو عمر لمطعمه الجديد قبل عدة أشهر، إذ سيظهر في مقاطع الفيديو الجديدة ومن خلفه الفرن، الذي عادة ما ميز مقاطع بوراك وغالبية الطباخين الأتراك. وفي هذا المشهد نرى الطباخ السوري وهو يحاكي مشاهد بوراك على صعيد إعداد الخروف بالفرن. مع ذلك يبقى ما يميز بوراك هو الصمت مقابل الصوت الجهوري.. فالشيف بوراك يعتمد الإيقاع السريع ولا يتكلّم إلا في ما ندر، بينما يُعدُّ الكلام «الشامي الدرامي» (الممطوط / إطالة الوقت في لفظ الكلمات) والإيقاع البطيء جزءا من عالم مطبخ أبو عمر.
لا ينفي أبو عمر تأثره قليلاً، في طريقة تعريفه بوجباته، بالشيف التركي بوراك، الذي بات يحظى في السنوات الأخيرة بمتابعة الملايين، كما غدا مطعم المدينة وفروعه في حيي اكسراي وتقسيم ي اسطنبول، أو مطاعمه الأخرى في دبي والدوحة، محل زيارة من قبل نجوم السينما ولاعبي كرة القدم.
وعلى الرغم من اعتراف الطباخ السوري بدور بوراك، إلا أنه يعود في حديثنا معه ليؤكد في المقابل أن الأخير يفتقد للذوق العربي، وأنّه يبقى لباب الحارة النصيب الأكبر من التأثير في أسلوبه وطريقة تقديمه، ثم يعود خلال حديثه ليؤكد مرة أخرى أن اهتمامه ببوراك يأتي في سياق متابعته لكل ما يُنشر من مقاطع فيديو حول الطعام عبر يوتيوب، سواء أكانت تركية أو هندية أو عربية. هذا التردد، أو الحيرة بين الاعتراف ونفي التأثر بالوسيط الثقافي التركي (الشيف بوراك في حالتنا) قد يبدو مفهوماً. تلاحظ عالم الاجتماع ساسكيا ساسن، أنه في الغالب، يميل صنّاع التراث إلى إهمال أي دور من أدوار التوسّط في صناعاتهم، وهذا ما حاول طباخنا، صانع القشة التراثية، فعله من خلال التأكيد على أن تأثير «باب الحارة» (أو التراث كما يتخيله/ المحلي السوري) فيه كان أكبر من أي شيء آخر، ومن ثم يصبح الاعتراف بالثقافةِ الفنية لبوراك أمراً طبيعياً أكثر من الاعتراف به على أنه نوع خاص من الثقافة الوسيطة. وبغض النظر عن مدى التأثر بالمشهد البوراكي، وطريقة اعتراف صانع القشة التراث بذلك، فإنّ ما تكشفه مقاطع أبو عمر هنا نقطتين مهمتين: الأولى هو أنّ الفضاءات الرقمية التي ظهر على مسرحها هذا الطباخ، لا تقف خارج الاجتماعي، وإنما تتشكّل من عناصر تاريخية وعناصر أخرى تتعلق بموضوع الرحيل والتأثر بالأنماط الثقافية في بلدان اللجوء، من خلال الخبرة المعاشة، وبالتالي فإنّ عملية الرقمنة في هذا الصدد، تبدو في الغالب منقوشة بثقافة المحلي.
لذلك نلاحظ في فيديوهاته، وبالأخص في طريقة تمثيله خارج المطعم، كما حين يقوم بتصوير مقاطع من الريف أنه يبدي تأثراً كبيراً بأحد مقاطع بوراك، يضاف إلى ذلك أنّ مخيال المخرج الشاب الذي يرافقه في التصوير، بدا لنا متأثراً بالبيئة وطرق التعريف بالسياحة والثقافة التركية، فهو كما يذكر يعمل في الأيام العادية في تصوير بعض الفيديوهات لصالح مطاعم وشركات سياحية تركية، ولذلك نجده متأثرا أيضاً بأسلوب الترويج التركي للسياحة والثقافة والطعام، ومن الأشياء الطريفة هنا أن هذا المصور يبدو ملاحظا لموضوع تأثر أبو عمر ببورك التركي، فيحاول اعتبار الأمر شيئا طبيعيا، من خلال القول «إن هناك شبها بين بوراك ذي الملامح التركية وأبو عمر بملامحه الشرقية» على الرغم من أي مقارنة بين الطباخين تظهر خلاف ذلك. لكن في كلامه ما يظهر إلغاء الوسيط ( الثقافة التركية/ بوراك) سواء عن قصد، أو عن لا وعي، لصالح القول إن الأسلوب في عرض الأطباق والتعريف بها هو أسلوب عالمي ناجم عن متابعة السوشيال ميديا فقط، وليس تأثرا بالفنون التركية في عرض الطعام سواء في المطاعم، أو عبر السوشيال ميديا.
أما النقطة الثانية، فإنّ ما يدعم فكرة تأثّر أسلوب تقديم أبو عمر للطبخ ببعض أساليب الطباخين الأتراك، هو أنّ هذا التأثّر لا يقتصر على أبو عمر حسب، بل بتنا نراه على صعيد تقديم أطباق الحلو في بعض المحلات السورية، كوضع فنجان صغير من الماء، أو إجراء تعديلات على بعض الصحون مثل إضافة البوظة للنابلسية، في تقليد لسلسلة مادو التركية الشهيرة Mado، وغيرها من التعديلات. وربما نسمعُ عن هذا التأثّر الذوقي أحيانا عند الاستماع لحديث بين سوريين في تركيا مع سوريين في الداخل أو في أوروبا، إذ يعيدون تكرار فكرة أنّ ذوقكم المقيمين في إسطنبول بات تركياً، بمعنى أنّ هناك تأثرا بالنمط الثقافي التركي على صعيد بعض الممارسات اليومية، مثل شكل الشوارب واللحى، وبعض فنون تقديم الطعام، وقصص كثيرة أخرى.