تعتبر اللمّات الرمضانية من أبرز مظاهر التلاحم الاجتماعي في قطاع غزة، وأطلقها قبل ثلاث سنوات بالصدفة شبان في مخيم جباليا اتفقوا على جمع السكان من مختلف الأعمار داخل مقهى رابعة الكبير، وأن يحضر كل منهم طعاماً من منزله ليتشاركوا في تناول الإفطار الجماعي، من أجل زيادة التلاحم بينهم، وفضّ أية خلافات اجتماعية أو حزبية.
نجحت الفكرة وكررها شبان مخيم جباليا، ثم انتشرت في جميع محافظات قطاع غزة هذا العام حين انطلقت من بلدة بيت لاهيا شمالي القطاع التي شهدت تطوّع جميع سكانها لإعداد الطعام لأولئك الذين لم يحضروا أي منتجات للمشاركة في الموائد. وانضم إليهم أقارب وأصدقاء من محافظات أخرى أقامت بدورها لمّات مماثلة في الأيام التالية.
وجمعت "اللمّة الحانونية" التي استضافتها بلدة بيت حانون أقصى شمالي قطاع غزة في 25 من شهر رمضان رجالاً وأطفالاً وكباراً من البلدة وأفراداً من أسر فقيرة وغيرهم، فيما ساهمت مطاعم ومتاجر ومصانع حلويات في توفير منتجات. واختتمت اللمّة بتنظيم جلسات مديح نبوي وصلاة التراويح في ملعب بيت حانون.
يقول محمد أبو عودة (50 عاماً) الذي شارك في تنظيم "اللمّة الحانونية" لـ "العربي الجديد": "شهدت البلدة حروباً كثيرة وأزمات، وجمعتنا في آخر عشر سنوات الأحزان أكثر من الأفراح، لكننا اشتقنا إلى هذه اللقاءات كمظاهر اجتماعية تزيد التآلف بيننا، وتساهم في إزالة الخلافات التي تسبب بها السياسيون".
وقرر القائمون على "اللمّة الحانونية" توزيع فائض الطعام على الأسر الفقيرة التي يسكن بعضها في مناطق محاذية للشريط الفاصل مع الاحتلال الإسرائيلي، وكذلك على عائلات تضم أشخاصاً من ذوي الإعاقة.
ويقول معلم مادة التاريخ سعيد الزعانين الذي يشارك في "اللمّة الحانونية" لـ "العربي الجديد": "تناول الفلسطينيين والعرب الطعام الجماعي في المناسبات السعيدة ثقافة تاريخية. ويحرص الفلسطينيون خصوصاً على تنظيم هذه النشاطات في الأفراح وجلسات العزاء، وعندما تحصل مصالحات عشائرية أو يعود مغتربون من السفر، وغيرها. ووجود هذه المناسبات لا يعكس فقط هدف تكريس الإحساس بالفقراء والآخرين، بل أيضاً أهمية المسؤولية الاجتماعية وقيمتها، واستعادة العادات الأصيلة الجميلة".
وفي وقت أقام سكان مخيم النصيرات والقرى المحاذية له وسط قطاع غزة لمّة رمضانية رفعت شعار "على حب النصيرات نجتمع"، أحضر مخاتير ووجهاء في المخيم وشبان وعائلات والمبادرين مأكولات من منازلهم، وتناولوها مع فقراء من المخيم، كما قدمت مطاعم وجبات وحلويات ومشروبات للمساهمة في إنجاح الحدث.
وفّر معظم مخاتير المخيم أطعمة إضافية للحاضرين، وحرصوا على إقامة خيام كبيرة على الطريقة البدوية، نظراً إلى أن نسبة كبيرة من سكان المخيم من هذه الأصول. وأقيمت الموائد داخل أرض واسعة حيث أشعلت نيران على الحطب، وجرى إعداد قهوة مماثلة لتلك التي تقدم خلال مناسبات الأفراح الفلسطينية.
يقول يوسف إبراهيم من سكان المخيم عن "لمّة النصيرات" لـ"العربي الجديد": "يستحق الوقوف عند حدث تنظيم لمّة النصيرات، وأخذ العبر من النشاطات والدعوات الشبابية التي جمعت كل الأطياف والأعمار، وأعادت إلى الأذهان الأيام الجميلة لاجتماع الناس على موائد الإفطار. وأحضر كل شخص من بيته ما طاب ولذ، وشارك الجميع في تناولها في جو من التآلف أبعد الجميع عن هموم الاحتلال الإسرائيلي والحصار والفقر. وهم شعروا بالتالي بأن كل الأزمات تؤجل بمجرد اجتماعهم".
وفي مخيم جباليا، كرّر شبان تنظيم اللمّة الرمضانية للعام الرابع على التوالي في مقهى رابعة الذي يتوسط المخيم. وترافق ذلك مع مشاركة مساهمين في الإفطار الجماعي وتنظيم أنشطة اجتماعية استمرت حتى جلسات المديح النبوي.
ويقول محمد المدهون من مخيم جباليا لـ"العربي الجديد": "بدأ مخيم جباليا ثورته في وجه الاحتلال خلال الانتفاضة الأولى عام 1987، وتعلمنا الكثير داخله، وتربينا على عادات وتقاليد جميلة. انطلقت مبادرة اللمّة الرمضانية قبل أربع سنوات بفكرة صغيرة، واجتمعنا على المحبة، واليوم تطبق مناطق القطاع الفكرة نفسها خلال شهر عظيم، ما يدفعنا إلى البقاء معاً".
ويذكر أنه "حين كان الاحتلال الإسرائيلي يحظر التجوّل في مخيم جباليا خلال الانتفاضة الأولى كان يأتي سكان من مخيمات أخرى ويضعون خضاراً وفواكه أمام المخيم كي يخرج سكانه ويجدوها أمامهم. وأذكر جيداً مجيء مركبة كانت محملة ببرتقال من مخيم الشاطئ إلى مخيم جباليا، ما يؤكد تلاحم المجتمع الغزي خلال سنوات المحن قبل أن يبعدنا جزئياً الفقر والسياسية عن هذه العادات والتقاليد".