تخطي إلى المحتوى
شجن الكتابة وقسوة اللغة شجن الكتابة وقسوة اللغة > شجن الكتابة وقسوة اللغة

شجن الكتابة وقسوة اللغة

قناعتي المتجذرة التي اكتسبتها من رحلتي الإبداعية في الحياة، والروائية تحديداً، هي أن كل عمل روائي هو في النهاية ورشة عمل واسعة ومعقدة ومتشابكة جداً، لا تفتح لكي تغلق ولكن لتستمر في الزمان والمكان. فهي جهد مستمر، وتفكير لا يتوقف حتى يسدل الستار على المشروع الذي يبدأ بخربشات وتخطيطات ومجموعة أفكار لا روابط بينها، قبل أن تنتهي إلى عمران مركب، وملون، وجاذب في صورته المقنعة والناجحة، اسمه الرواية. الرواية بهذا المعنى محصلة جهد ذهني وجسدي حقيقي وليست مجرد تأملات فكرية.
بهذا المعنى، قد تكون الكتابة لعباً وتسلية في مظهرها، لكن عندما ندخل في عمق دهاليزها تصبح شيئاً آخر، مخبأ لكل المخاطر المزالق الحياتية وقد تؤدي بصاحبها نحو ما لا يحسب حسابه. هي شبكة تلتحم فيها الأشياء المتفرقة التي بدأت بموضوع هارب وزئبقي وانتهت بعمران وبكيان حي. فهي في النهاية تركيب الجزء بالجزء واللحظة باللحظة والنفس بالنفس والحيرة بالحيرة، حتى يتضح لنا الشكل الذي نبحث عنه عملياً.
لحظة تأملية صغيرة في موضوعة الكتابة التي يستسهلها اليوم الكثيرون، ربما لأن الزمن تغير كثيراً وأصبح يكتنفه الغموض، فأصبحنا لا نفهمه جيداً وربما لا يفهمنا بسهولة، تقودنا حتماً إلى طرح مسألة الجدوى ونحتاج إلى عمق قناعة وتصور لنصل إلى جوهر الكتابة متخطين مسألة الجدوى في اتجاه رمزية الفعل الخالد الذي يقوم على اللغة ومؤدياتها وسلطتها. شجن الكتابة وعزلتها وفرادتها، شيء حقيقي وليس مجرد تصورات وهيامات لا أرض لها. كلما استحضرت ذلك انتابتني أسئلة كثيرة تتخطى الفعل ذاته في اتجاه مساءلة إنسانية الإنسان التي تكبر وتصغر بالكتابة أيضاً. كلما توغلت هذه الأخيرة في أعماق الإنسان استخرجت من بحره غير المرئي كنوزاً ثمينة، وكلما تهاونت في جدوى الكتابة أصبحت فعلاً بلا أفق، لأنها تكون قد خسرت رهاناتها الإنسانية منذ البداية. الصعوبة الكبيرة هي أننا كلما تساءلنا، تفرعت أسئلتنا حتى تصبح السيطرة عليها شبه مستحيلة. مثلاً، هل الكتابة هي هشاشتنا تجاه ما يحيط بنا ويصنع معنى الإنسان في قوته، ولكن أيضاً في ضعفه، أي قدرته على تشغيل حساسيته الإنسانية في أقسى درجات الحياة واليأس؟ هل هي بكل هذا التعقيد المخيف، وهذا القلق المستمر بشكل أبدي؟ أليست الكتابة أيضاً ذلك الفعل الفيزيقي الذي ينجزه الإنسان في ظل شرطيات ليست دائماً مريحة؟ يتعود الإنسان على الجلوس على كرسي ويفكر ويسجل حراكه الداخلي عن طريق اللغة، ويتحمل معاناة هذا السجن الجسدي المؤقت. السجن الخياري الذي يشبه إلى حد كبير صخرة سيزيف الذي يصعد بها عالياً لغاية القمة وقبل أن يتنفس أخيراً، سعيداً بالوصول، تنزل الصخرة ويضطر في تدرج سريع حتى السفح، وعليه معاودة الكرة حتى يفلح في الأخير في تثبيتها في القمة. سؤال آخر ليس أقل شجناً، هل الكتابة هي أن تقبل بأن تُسرق من عمرك بعض السنوات وتمنحها لمعشوقة أبدية اسمها اللغة. كل يوم تستل منك الساعات الطويلة بمتعة دون ضمان لأية استمرارية وجودية. قد تتحول الكتابة إلى رديف لمهنة الحياة، مهنة، بجمالها وهزاتها، وخيباتها القاتلة. وقد يقول قائل يعيش في الكتابة وبها: «يمكنني أن أقول إن حياتي كتابة عندما يكون عملي كله كتابة». في البيت، في الميترو، في النوم نفسه، إذ عليّ أن أحل كل المعادلات الأدبية الخاصة بنص هو في طور النشوء والتكوين من منطلق نواة قد تكبر أو تصغر وفقاً لقوة حرارتها المخزنة، حيث تتداخل الحياة بالمتخيل الذي يشتغل في سرية كلية بقوة؟ خارج هذا وذاك، أليست الكتابة في النهاية وسيلتنا القوية لتخطي العجز الوجودي، لمقاومة الاندثار القدري الصعب الذي يمنحنا حياة قليلاً ما نتخلى عنها، وحباً نصنعه على مقاسنا؟ هي مرتكزنا للهرب ليس فقط من جاذبية الكرة الأرضية التي تسجننا داخل نظامها، ولكن من جاذبية المرايا التي تصورنا أكبر من أحجامنا وبشكل مقلوب، وهو ما يسميه النفسانيون «النرجسية» أو مرض الذات المتورمة. ما ترفضه الكتابة هو وهم العظمة والاكتفاء بوهم صغير هو من حق الكاتب، بأن حياة نصنعها يمكن أن نتقاسمها مع غيرنا في لحظة من اللحظات ونحتاج إلى أن نصدق أنها حقيقة كما يقول كولريدج، حتى نستمر فيها وكأنها الحياة التي نعرفها لأنها تشبهنا. أكبر صدمة هي أن يدرك الكاتب بفعله الكتابي أنه ليس معلماً ولا قائداً عظيماً، ولا نبياً ولا إلهاً صغيراً، لكنه مجموعة تشظيات سابحة في الفضاءات العالية تعيد رياح الحياة العاصفة إلى حجمها، لا شيء يجمعها إلا الكتابة التي تعطيها المعنى؟ لهذا كله، وأمام هذا الكم من التساؤلات التي لا نملك لها أجوبة صارمة إلا فعل الكتابة ذاته يتماهى كل شيء في عمق الحياة وغناها. أن تكون صادقاً في الكتابة لا يعني أن تقول الحقيقة التي يشترك فيها الجميع، ولكن أن تملك القدرة الحية والجرأة الكافية لخلق حقيقة أخرى، الحقيقة الموازية التي ينتجها النص ويذهب بها بعيداً نحو الأبدية والمطلق. لكن ذلك كله يمر عبر منظومة معقدة وتقنيات متشعبة لا تخضع لقانون الصدفة مهما كان للصدفة من مكانة في العمليات الإبداعية لأن جزءاً منها لاشعوري، لكنها تخضع لقانون شديد الصرامة، وإلّا ستخسر الكتابة، والرواية تحديداً، شرطها الأساسي كونها عمراناً مفكراً فيه، يُشيَّد على أرض زلزالية لا تستطيع كسر العمران وتدميره.
هل فتحنا زوايا ضوء في جسد الكتابة، أم أغلقنا الفجوات القليلة التي كان النور يمر عبرها؟

المصدر: 
القدس العربي