وأنا أقرأ مقالة الناقد السعودي المعروف سعد البازعي، الموسومة «النقد ما بعد الاستعمار لِم لم يتطور في العالم العربي»، المنشورة في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 4/10، وقد حاول فيها أن يفسر سبب أو أسباب عدم تطور هذا النوع من النقد عندنا في العالم العربي، مقارنة مع أجزاء أخرى من العالم الثالث التي عاشت التجربة الاستعمارية، شأن الهند ومناطق واسعة من آسيا أو أفريقيا، أو حتى أميركا اللاتينية، كنت أستعيد ثلاثة مشاهد؛ الأول، في شتاء 2002 ببغداد، وكنت، وقتها، أتأمل مشهد القبور في المقبرة الملكية البريطانية بالعاصمة العراقية، في حين كان رفيقي يتحدث بحماس عن مشهد بغداد المتخيلة بعد استعمارها الجديد، وقد ملأه التفاؤل فصار يسهب في رسم الصور الزاهية لبلاده، بعد أن تتخلص من حاكمها المستبدّ. والثاني، في صيف 2004، وكنت، وقتها، أتأمل مشهد القاهرة الخديوية. الثالث، في بغداد نفسها، وأنا أتأملها من نافذة صغيرة تطل عليها من برجها العالي. في لحظتي الأولى، كنت أسأل نفسي: ماذا ترك البريطانيون ببغداد غير رفات جنودهم؟ فيما بعد، صرت أبحث عن بقايا وآثار التجربة الاستعمارية في العاصمة العراقية، فلا أجد غير مقبرة يقتلها الإهمال! في الثانية، كنت أهيم على وجهي في شوارع القاهرة؛ بحثاً عن صراخات الجنود البريطانيين السكارى، كما تخيلتها عندما قرأت ثلاثية نجيب محفوظ قبل عقدين سابقين. تلك اللحظة الفريدة كنت أستعيدها بتلذذ، وأنا أقاوم مشهد الصحراء القاحلة في طريقي إلى الإسكندرية؛ ذات التجارب العالمية المختلفة عن أية مدينة عربية أو شرق أوسطية، ثمّ وأنا أقرأ ما كتبه إدوارد سعيد عن سيمفونية أوبرا عايدة في «الثقافة والإمبريالية»، وأسأل نفسي: لماذا لم ينتج ملحِّن مصري أوبرا مماثلة لأوبرا فيردي! بعد حين سأفكر بمشهد الدبابات الأميركية وهي تغادر العراق، فلا تخلِّف وراءها سوى الغبار ومدن مدمَّرة!
عنف استعماري أم احتلال عسكري؟
حقاً؛ هل لدينا أدب ما بعد الاستعمار، كما نظَّر له سعيد، والهنديان غاياتري تشاكرافورتي سبيفاك وهومي بابا، ومَن جاء بعدهم، ولا سيّما مؤلفي الكتاب الشهير الرد بالكتابة، ليكون لدينا، من ثمّ، نقد ما بعد الاستعمار؟ بل قد نتوسع بالسؤال أكثر فنسأل: هل عاش العرب التجربة الاستعمارية نفسها التي عاشتها الهند مثلاً، أم أن الظاهرة الاستعمارية عندنا اقتصر وجودها على كونها محض احتلال عسكري لم يتطور، قط، ليكون استعماراً؟ لماذا هذا السؤال؟ لأنه لا بد للأدب، بكل أجناسه وصنوفه، من واقع يصدر عنه، مهما جنح نحو الفانتازيا والتجريب. لا يشغل الدكتور البازعي نفسه بهذا النوع من الأسئلة؛ فهو ينطلق من حقيقة وجود التجربة الاستعمارية عندنا، وهذا صحيح ولا شك. لكن هل دول وشعوب العالم العربي هي نتاج العنف الاستعماري، كما هي حال المجتمعات التي أنتجت آداب ما بعد الاستعمار؟ هل العراق أو سوريا أو السعودية أو مصر أو غيرها هي نتاج الاستعمار الذي يتحدث عنه فرانس فانون في كتابه المؤسس «معذبو الأرض»، وقد كان شاهداً عليه؟
قد نجزم بأن العالم الحديث هو أحد تجليات التجربة الاستعمارية، والبازعي يذهب إلى جوهر القضية عندما يصف النقد ما بعد الاستعماري بأنه «من الطفرات النقدية الأبرز في الخمسين عاماً الماضية». وهذا الحكم ذو سياق صحيح يستمد مشروعيته من أبرز الفتوحات المعرفية المتحققة على يد مُنظّري هذا الحقل المعرفي الأهم. وربما نكتفي للتدليل على صحة هذه الفكرة بالتذكير بالمحاولة الأهم في العقود الأخيرة، الخاصة بتفسير ظهور الرواية بوصفها ملحمة العصر البرجوازي، وقد صارت لدى إدوارد سعيد مأثرة الاستعمار الكبرى. نتحدث، هنا، عن الربط المعرفي بين ظهور الاستعمار وتوسعه على مستوى العالم كله باستكشاف أراضي ما وراء البحار، وبين ظهور الرواية بشكلها السردي الأول، ثمة طرائق وصياغات وشخصيات، بل سردية كاملة نهضت بالرواية وشكّلتها عبر أيديولوجيا عمدت لفرض الصمت على السكان المحليين. وهذه محاولة ثالثة، ربما، لتفسير ظهور الرواية؛ الفن السردي الأكثر تأثيراً في العصر الاستعماري الحديث، بعد محاولة لوكاتش وميخائيل باختين.
يمكننا أن نستفيض أكثر في إيراد وقائع أخرى تؤكد أهمية هذا النقد، مثلما يمكننا أن نمضي بعيداً في ملاحقة الأصول المنهجية لهذا النقد، كما فعله الدكتور البازعي نفسه، وفي كل الأحوال لن نعثر على «نص» أدبي عربي أصدره كاتب عربي، بلغته الأصلية، أو بلغات المستعمِر مما جرى اعتماده بصفته أصلاً معتمَداً في الدراسات الرئيسة لدى سعيد أو غيره. والسبب أن الكاتب العربي لا يمكنه اختراع نصوصه من العدم؛ فباستثناء الجزائر وفلسطين، اللتين تعرضتا للعنف الاستعماري المباشر والطويل، فإنه يصعب، إن لم نقُل يستحيل، التحدُّث عن أثر مباشر للاستعمار في البلاد العربية الأخرى. حتى الجزائر وفلسطين فإنهما لم تستسلما لقسوة الاستعمار كما فعلت الهند والمناطق الأخرى التي ظهر فيها هذا الأدب؛ إذ في النهاية، ظلت الجزائر وفلسطين بلدين عربين، وثقافتهما إسلامية، ولم تنجح فرنسا وإسرائيل بمحو الثقافة واللغة العربية فيهما، فلا معنى، هنا، بل لا أساس، لمقاومة «ترد» على احتلال عسكري عابر.
هنا السؤال: هل لدينا أدب ما بعد الاستعمار ليكون لدينا نقد له؟
لنعدْ لبداية القصة؛ فكي يكون هناك نقد ما بعد الاستعمار، لا بد أن يكون هناك أدب ما بعد الاستعمار. هذا هو الدرس الأول لكل آداب العالم؛ قديمها قبل جديدها؛ إذ لم نسمع أو نقرأ عن «نقد» أو «نظرية أدب» تظهر قبل أن يكون هناك أدب وطني، فهل ظهر لدينا أدب عربي ما بعد استعمار تمثَّل فيه الخصائص التعبيرية والمكانية التي ظهرت في الآداب المماثلة؟
في كتابهم المشترك المعروف بعنوانه الشهير «الرد بالكتابة»، حاول المؤلفون الثلاثة أشكروفت وغريفيث وهلين تيفن أن يستقصوا الخصائص المشتركة الجامعة بين آداب «عالمية» مختلفة يمكن أن تصنَّف تحت صيغة «آداب المستعمرات القديمة»، وهي عندهم: التقويض، «وقد تعني تطوير إمكانيات الرد بالكتابة من قِبل كُتّاب الشعوب المستعمَرة، على المركز الإمبراطوري الاستعماري»، واللغة الاستعمارية المعتمدة في التعليم، والمكان والإزاحة عنه. ربما تكون هذه المسائل هي الأبرز والأكثر تمثيلاً لهذا النوع من الأدب، ولا سيّما في الرواية، فهل لدينا اتجاه رئيس في الأدب العربي تَمثَّل هذه الخصائص؟
يمكننا أن نتحدث عن نصوص أدبية؛ روائية وشعرية، فلسطينية، شأن رواية «عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني، وروايات إميل حبيبي، ولا سيّما «المتشائل.. الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس»، وهناك شعر كثير لمحمود درويش يمكن أن يُدرَس ويصنَّف ضمن هذا الأدب. ويمكننا، أيضاً، أن نجد نصوصاً لا بأس بعددها ضمن الأدبين الجزائري والمغربي. والمؤكد أن الأدب السوداني هو المنتَج الرائد، وربما الأفضل، في إنتاج هذا النوع من النصوص. نتحدث عن الريادة الناضجة، حقاً، لرواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»؛ إذ من النادر أن نقرأ رواية عربية تمكَّنت من تمثَّل الخصائص الثلاث الرئيسة السابقة في هذا الأدب. وقد أقول إن الرواية السودانية مَنجم لا ينضب، وغير مكتشَف، لرواية ما بعد الاستعمار؛ خلافاً لمعطيات نقدية شائعة تعطي هذه المكانة للرواية العراقية، ولا سيّما بعد الاحتلال الأميركي للبلاد، فنقاد عراقيون وعرب متعدّدون صاروا يعتقدون أن الجنود المحتلين قد جلبوا معهم، في جيوبهم، ربما، هذا النوع من الروايات للعراق. والآن؛ أين هذا النوع من الأدب في تاريخ الرواية المصرية، في «رواية» نجيب محفوظ مثلاً، وهي الأهم والأكثر تمثيلاً للرواية العربية؟
هل ما زلنا في بداية القصة؟ لا أظن، لكننا قد وصلنا إلى السؤال الأهم، هنا؛ وهو: هل حقاً أن النقد العربي لم يتعاظم فيه نقد ما بعد الاستعمار؟ ابتداءً، أنا لا أعرف ما المقصود بالتعاظم؛ هل ينطوي السؤال مثلاً على البحث عن مساهمة فاعلة تتضمن إضافة معرفية حقيقية ينهض به النقد العربي فيما يخص نقد ما بعد الاستعمار؟ لا أدري إذا كان الدكتور البازعي يقصد هذا النوع من التعاظم: بمعنى الإضافة، وهو يعرف أن العرب لم يقدِّموا أية إضافة في أي من اتجاهات النقد العالمي، طيلة القرن العشرين، وأن ما نقله عن الكاتب المصري شكري عياد هو الأصح فيما يخص وضع النقد العربي، وليس هو مجرد تشخيص لحالات النقاد العرب. رغم ذلك فإن هناك تعاظماً عربياً من حيث الاهتمام بهذا النوع من النقد. يكفي أن نُحيل البازعي إلى كتاب «الرسيس والمخاتلة خطاب ما بعد الكولونيالية في النقد العربي المعاصر» للدكتور رامي أبو شهاب، وقد حصل على جائزة عربية معروفة، كما أنه يمثل مرحلة سابقة؛ إذ إنه صدر عام 2013، وهذا يعني أن هناك دراساتٍ كثيرة صدرت بعده؛ ليقف على حجم وتوسع هذا النوع من النقد في البلاد العربية، فالكتاب يلاحق ويدرس عشرات الكتب والدراسات التي اختصت بخطاب ما بعد الاستعمار. ويا لَلمفارقة؛ عشرات الكتب تختص بدراسة أضعف النصوص العربية، خلا ما ذُكر هنا!. ولن نتحدَّث أو نذكِّر بآلاف الرسائل والأطاريح الأكاديمية في مختلف الجامعات العربية، من جامعات المملكة العربية السعودية، صعوداً للعراق، وليس انتهاءً بالجامعات المصرية والسورية أو جامعات المغرب العربي؛ هذه الجامعات، ربما لم تعد تدرس غير أدب ونقد ما بعد الاستعمار وتجلياته في الأدب العربي.