مقدِّمة
بسم الله، والحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا رسول الله، وعلى آله وأَصحابه ومن والاه، وبعد..
فإنَّ اختصار تاريخ قرنَيْن من الزَّمان، أحداثهما هامَّة ومترابطة ومتداخلة؛ أَمر من الصُّعوبة بمكان؛ فقد بدأت الحروب الصَّليبيَّة بنداء البابا أُوربان الثَّاني في مدينة كليرمونت في 26 تشرين الثَّاني (نوفمبر) عام 1095م، واحتُلَّت القدس في 15 تموز (يوليو) 1099م، وتتالت الأَحداث من تحرير القدس، ومدن بلاد الشَّام السَّاحليَّة، إلى أن تمَّ تحرير عكا على يد الأَشرف خليل بن قلاوون في 17 جمادى الأُولى 690هـ/ 18 أيَّار (مايو) 1291م، فكانت نهاية الحروب الصَّليبيَّة.
وما أَشبه اليوم بالبارحة، نهاية محقَّقة لابُدَّ منها، فالجسم الغريب في كيان سليم متناسق منسجم لابُدَّ أن يُلْفَظ، وكان لفظ الصَّليبيِّين الأُوربيِّين من بلادنا بعد وحدة الصَّف، وائتلاف الكلمة، وبعد أن أَذكى نور الدِّين وصلاح الدِّين وقُطُز وبيبرس وقلاوون العقيدة في النُّفوس، فكان التَّحرير مع سلامة البنية الدَّاخليَّة، عدلاً وعلماً وأمناً ورعاية اجتماعيَّة وصحيَّة، حتى لا تخلو بلد؛ من حلب والموصل شمالاً، إلى الإِسكندريَّة والقاهرة جنوباً، مروراً بحماة وحمص ودمشق والقدس، من المدارس والجامعات والمشافي (البيمارستانات) الَّتي يعود بناؤها إلى زمن الدَّولة النُّوريَّة، والدَّولة الصَّلاحيَّة، ودولة المماليك.
والمؤرِّخ الحيادي يقشعر بدنه حين يدرس الفظائع الَّتي ارتكبها الغربيُّون باسم السَّيِّد المسيح عليه السَّلام - وهو منها براء - في حروبهم الصَّليبيَّة في مشرقنا العربي؛ صورتان متلازمتان في تاريخ البشريَّة، تعترف بهما كتب الطَّرفين المتحاربين، ما أبشع الأُولى وأَسوأها، وما أَروع الثَّانية وأَجملها.
الصُّورة الأُولى : صورة بيت المقدس يوم الجمعة 15 تموز (يوليو) 1099م، حيث وحشيَّة الصَّليبيِّين، الذين لم يستطع حتَّى مؤرخوهم تجاهل المذبحة الَّتي كانت حصيلتها سبعينَ ألف شهيدٍ في المسجد الأقصى، فقد ذكر وليم الصُّوري أن بيت المقدس شهد عند دخول الصَّليبيِّين مذبحة رهيبة، حتى أَصبح البلد «مخاضة واسعة من دماء المسلمين»، ويَذْكُر: أن مؤرِّخاً صليبيّاً حضر تلك الأحداث، أراد شقَّ طريقه إلى المسجد الأقصى غداة المذبحة، فلم يستطع أَن يشقَّ طريقه وسط أشلاء المسلمين إلاَّ بصعوبة بالغة، وأن دماء القتلى بلغت ركبتيه[(1)]، ومؤرِّخ الحروب الصَّليبيَّة (رانسمان) قال عن هذه المذبحة: «كانت لطخة عار في تاريخ الحملة الصَّليبيَّة الأُولى»[(2)].
والصُّورة الثَّانية : كانت يوم الجمعة 12 تشرين الأَوَّل (أكتوبر) 1187م، حين استعادة بيت المقدس على يد صلاح الدِّين، إذ أَبت أَخلاقه الإسلاميَّة الرَّدَّ بالمثل، ملقِّناً الغرب درساً في تسامح الإسلام، وروحه الإنسانيَّة؛ فقد سمح للصَّليبيِّين بالخروج قُبالة فدية بسيطة، أَعفى منها الفقراء منهم، ويعترف رانسمان بأن صلاح الدِّين لم يكتف بإطلاق سراحهم دون فداء، بل منحهم مساعدات ماليَّة من ماله الخاص، في حين حمل هرقل بطرق بيت المقدس ما استطاع حمله من الذَّهب والفضَّة، ومن خلفه العربات تحمل نفائس الكنيسة[(3)].
حتَّى ملوكهم حينما يقعون في الأَسر لم يُقْتَلوا، هذا ما فعله صلاح الدِّين حين أَسر في حطِّين ملك بيت المقدس جاي لوزينيان، لقد استقبله استقبالاً حسناً في خيمته، وأجلسه إلى جانبه وقد أهلكه العطش، فقدَّم له صلاح الدِّين إناء فيه ماء مثلَّج، ثمَّ أَمر رجاله برعاية أُمراء الصَّليبيِّين وأَسراهم.
ولويس التَّاسع ملك فرنسة، أَسَرَه المماليك في المنصورة، وهو الَّذي جاء لاحتلال أَرضنا وقتلنا، ومع ذلك لم يقتله المسلمون، فهذا ما تمليه تعاليم الإسلام وتوجيهاته في معاملة الأسرى: إمَّا تبادل، أو مَنٌّ، أو فِداء، فالأَسير لا يُقتل، هذا فضلاً عن إسعافه إن كان جريحاً، ومداواته إن كان مريضاً، وإكرامه حتَّى في مأكله، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا *} [الإنسان: 76/8] .
إنَّه اختلاف الثَّقافة، الَّتي أملت سلوكَيْن متعاكسَيْن: سلوك إسلامي تجلَّى في آثار فتوحات المسلمين، فلم يُكْرَه أحد في عقيدته، إذ الأَفكار تُعرض ولا تُفرض، وأَبناء البلدان المفتوحة؛ لهم ما لنا، وعليهم ما علينا وهكذا حين انحسرت قوَّة الفاتحين المسلمين العسكريَّة، لم تنحسر حضارتهم الإسلاميَّة، لقد تشربتها قلوب الشُّعوب إلى يومنا هذا.
وسلوك غربي يدَّعي المسيحيَّة ويبشِّر بها فيما سُمِّي (الكشوف الجغرافيَّة)، وهو سلوك إبادة، ففي الأَمريكتَيْن قُتِل أكثر من مئة مليون هندي أَحمر، هم أبناء البلاد الأصليُّون، وقضى الأُوربيُّون على حضارات الإنكا والمايا والأَزتيك، فضلاً عمَّا جرى في سواحل إفريقية، وجزيرة غوري (أَو: غورييه) Goree قُبالة داكار عاصمة السنغال، عدَّتها الأُمم المتَّحدة إرثاً إنسانيّاً يشهد على واحدة من أبشع الجرائم في تاريخ البشريَّة وأَقساها، إنَّها تجارة الرَّقيق، حيث (جدران وحجرات بيت العبيد)، وهو الاسم التَّاريخي للمبنى في جزيرة غوري، الَّذي حوَّله القراصنة الأُوربيُّون إلى معتقل ومكان لبيع الأَفارقة الَّذين قُنِصُوا وحُكِمَ عليهم بالعبوديَّة، قبل ترحيلهم من باب (اللاَّعودة) عبر الأَطلسي، إلى مزارع القطن وقصب السُّكَّر في الأمريكتَيْن[(4)].
ووحشيَّة الأُوربيِّين في جنوب شرق آسية معروفة، لقد استُعْبد شعب عذراء ماليزية (الفليبِّين) كله، وقتل أكثر من رُبْعِهِ، ولا ننسى إفناء شعب أُسترالية عند اكتشافها واستعمارها.
لقد تركت حضارتنا، أَينما حلَّت ووصلت فتوحاتنا، علماً ورفاهاً للجميع وإخاءً إنسانيّاً، وخلَّفت (حضارتهم) أَينما حلُّوا - على اختلاف دولهم، فالثَّقافة واحدة - أعداء البشريَّة الثَّلاثة: الفقر، والمرض، والجهل. والبلدان الَّتي وصلتها حضارتنا، والبلدان التي وصلتها (حضارتهم)، خير شاهد اليوم، فآثارنا مدارس وجامعات ومشافٍ.. وآثارهم هدم المدارس والجامعات وإغلاق المشافي، ومن ثم: انتشار للفقر والمرض والجهل، ومستعمراتهم تشهد بذلك من البنغال إلى حوض النيجر، مروراً بجزر القمر ومدغشقر وإفريقية الشَّرقيَّة.
وقعت جفوة بين المؤرِّخ عزِّ الدِّين بن الأَثير الجزري، صاحب كتاب (الكامل في التَّاريخ)، وبين صلاح الدِّين الأَيوبي، كان سببها أنَّ ريتشارد قلب الأَسد ملك إنكلترة، أَسَر في عكَّا في 20 آب (أُغسطس) 1191م؛ ثلاثة آلاف مسلم تعهَّد بسلامتهم، ولكنَّه أَمر بقتلهم، والمسلمون عن بُعْد يشاهدونهم[(5)]، علماً أنَّ صلاح الدِّين عقب انتصاره في حطِّين، وبعد تحريره بيت المقدس؛ حرص دائماً على السَّماح لأهل المدن الَّتي حرَّرها من الصَّليبيِّين بمغادرتها سالمين، ومنع رجاله من الاعتداء عليهم، أو التَّعرُّض لهم، بل إنَّه لم يضنّ على ريتشارد نفسه في أثناء مرضه بالفاكهة والثَّلج، أَرسلها إليه والصَّليبيُّون يحاصرون عكَّا، ولم يرد صلاح الدِّين على وحشيَّة ريتشارد بالمثل ردعاً وتأنيباً، ولم يقتل من كان في حوزة المسلمين من أسرى الصَّليبيِّين، وهم أعظم عدداً بكثير من أَسرى عكَّا المسلمين، ومن هنا جاءت الجفوة بين ابن الأَثير الجزري وصلاح الدِّين، إنَّه الإفراط في التَّسامح مع الخصوم المعتدين، والمبالغة في التَّساهل معهم؛ فالملك أَو الحاكم - بنظر ابن الأثير - «لا ينبغي أن يترك الحزم وإن ساعدته الأَقدار، فلئن يعجز حازماً، خير له من أن يظفر مضيِّعاً للحزم»[(6)].
التَّسامح سمة من سمات حضارتنا مبدأً وتطبيقاً.
فإلى أهمِّ أسباب، وأحداث، ونهايات الحروب الصَّليبيَّة مكثَّفة مختصرة. ومن أَراد التَّوسُّع فليعُد إلى كتابَيَّ: حطِّين، وعين جالوت، من سلسلة (المعارك الكبرى في تاريخ الإسلام)، وللتَّوسُّع أكثر والبحث والدِّراسة، فالمصادر مدوَّنة في الصَّفحات الأَخيرة من هذا الكُتَيِّب.
والحمد لله ربِّ العالمين أَوَّلاً وآخراً.
دمشق الشَّام
20 ربيع الآخر 1430هـ
15 نيسان (أَبريل) 2009م
الدكتور شوقي أَبو خليل
Shawki @ Fikr.com
كتيب أوجز أحداث الحروب الصليبية على ساحل بلاد الشام وما جرى فيها من تهديد لأخطر بقعة في العالم الإسلامي حتى تم تحريرها.
أعطى الكتيب فكرة عن أسباب قيام الحروب الصليبية، ومجريات الأحداث بين السلاجقة والروم البيزنطيين الذين رأتهم أوربة عاجزين عن حماية المسيحية في الشرق.
ثم تناول الكتاب الإشارة إلى الحملات الصليبية المشهورة فقط، وهي ثمانية، بدءاً بالحملة الأولى عام 1095م بقيادة بطرس الناسك، ثم الحملة الثانية عام 1147م بقيادة إمبراطورية ألمانية وملك فرنسة، فالثالثة عام 1189م بقيادة إمبراطور ألمانية، فالرابعة عام 1198م بقيادة البابا أنوسنت الثالث، فالخامسة على مصر عام 1218م بقيادة جنادين برين وخرجت من عكا بنية غزو الكعبة لهدمها، فالسادس عام 1215م بقيادة فردريك الثاني، فالسابعة على مصر عام 1248م – 1249م بقيادة لويس التاسع ملك فرنسة، فالحملة الثامنة الأخيرة سنة 1270م بقيادة لويس التاسع أيضاً، وختم المؤلف بحثه بالحديث عن تحرير عكا ونهاية الصليبيين. وذيل الكتاب بالمصادر والمراجع.