الجامع المشترك لأحاديث الكتاب، هو أنها جميعاً تحوي مناقشات لأفكار وتصورات تسربت في الخفاء إلى بنيان المبادئ والحقائق الإسلامية، ثم أقبل من اهتم ورحَّب بها، وأنزلها من الإسلام منزلة الحقائق الثابتة، ودافع عنها بأغلوطات لا يتأتى للعالم أن يجهل بطلانها، ولا للبصير من الناس أن تغيب عنه أخطاؤها.
والأسلوب الذي ألزمت نفسي به هو الأسلوب الحواري.
صحيح أنني لم أكن أحاور أحداً من المدافعين عن تلك الأغلوطات، ولم يكن أحد منهم أمامي أثناء حديثي عنها، ولكني أعلم حججهم التي يدافعون بها عنها، ولقد ألزمتُ نفسي بأن أعرضها وافية كاملة، كما لو كنت واحداً من الموقنين بها والمقتنعين بنتائجها..ثم إني وقفت منها ومن نقائضها موقف الباحث المحايد، وجعلت من المنطق والموازين الحيادية للعقل الحَكَمَ الفصل في ذلك.
وأعتقد أن أياً من أصحاب هذه الأغلوطات لو كان هو المعبر عن حججه في دفاعه عنها، لما استطاع أن يصوغها وأن يعبر عنها بأجلى وأقوى مما عبرت به عنها!
وفي يقيني أن لهذه الأغلوطات مصدراً كلياً واحداً لا ثاني له؛ هو أن الإسلام بكل ما يزخر به من مبادئ وأحكام ومعتقدات، ليس في يقينهم إلا من ثمرات الفكر الإنساني، ومن ثَمَّ فهم يروجون ليقينهم هذا بأساليب شتى، من أهمها استعمال التعابير التي توحي بهذا اليقين من طرف خفي، كقولهم: الأفكار الإسلامية.. الفكر الإسلامي.. تاريخ الفكر الإسلامي.. إلخ.. وإذا آلت حقائق الإسلام إلى أن تكون من نتائج الفكر الإنساني؛ فإن لأي فكر إنساني آخر أن يدحضها، إذ ليس في ساحة الأفكار الإنسانية فكر أسمى من فكر.
وأنا عندما حاورت المبطلين من أصحاب هذه الأغلوطات إنما استخدمت الفكر مصباحاً أستبين به حقائق الإسلام، وأدرك بواسطته أنها فعلاً حقائق موضوعية ذات وجود مستقل عن الفكر والذهن.. ولم أقارع أفكارهم الذاتية بأفكار ذاتية من عندي.
ولو أني انتصرت لأفكاري الذاتية من حيث هي أفكار ضد أفكار الآخرين لرأيتني كمن يقارع سيفاً بسيف، ويواجه حدَّ هذا بحدِّ ذاك!!!
وأقول بهذه المناسبة: ما وجدت كلمة مما يتداوله الناس اليوم فيما بينهم، سخيفةً وفارغةً من أي معنى مفيد ككلمة: «المفكر الإسلامي فلان»..!.! هل هي إلا كقول أحدهم: العاقل الإسلامي فلان....؟!!
ماذا أعطت كلمة «المفكر..» لصاحبها أكثر مما أعطته كلمة «حيوان ناطق»؟ ومتى أصبح التفكير الذي كان ولا يزال جامعاً مشتركاً بين العقلاء جميعاً، حِكراً للمشتغلين بعلوم الإسلام دون غيرهم..؟!
كانت الكلمة التي ينعت بها الباحث في علوم الإسلام بجدارة: «العالم..»، فإن سما عن هذه الدرجة قيل له: «العلامة»، فإن زاد عن ذلك وصف بـ «المحقق».
ثم جاء اليوم من يسعون جاهدين أن ينسخوا تلك الألقاب أو الصفات بكلمة:«المفكر»؛ حرصاً منهم على أن يجعلوا الكلمة توحي إلى الأذهان بأن الإسلام في مجموعه ليس إلا من ثمرات الفكر الإنساني.
وإلا، فهل سمعتهم يقولون: «المفكر الفلسفي» أو «المفكر النحوي أو الأدبي» أو «المفكر التاريخي»..؟!
إنهم يقرون بأن الفلسفة حقيقة علمية خارجة عن الفكر، وكذلك النحو والصرف والتاريخ وعلم النفس، والتعبير بالمفكر التاريخي مثلاً يخالف هذه الحقيقة التي يعترفون بها، أما الإسلام فليس له عندهم أيُّ وجود حقيقي خارج أذهان القائلين به والمعتقدين له، ومن ثم فينبغي أن يقال عن المعارف والحقائق الإسلامية التي تسجل في الكتب أو تلقى على الأسماع: «الفكر الإسلامي»، وينبغي أن يُسمَّى المشتغلون بهذه المعارف: «المفكرون الإسلاميون».
والحديث عن حرب الشعارات التي يُغْزَى بها الإسلام اليوم دون شعور بذلك من أكثر المسلمين، حديث طويل ذو شجون.. ولعلي أُوفَّقُ لتفصيل القول فيه، ولبيان مدى خطورته في كتاب ما أو في إحدى المحاضرات.
بقي أن أقول إنني أضفت إلى هذه الموضوعات التي سبق أن بُثَّت في بعض الأقنية الفضائية، موضوعاً آخر أثبتُّه في آخر الكتاب وعنوانه: «العولمة تعاون عالمي ندّي، لا تبعيةٌ لقطب متسلط».
وكلمة العولمة هذه ليس لها وجه صحيح في العربية، وليس لها فيما تحمله من مضمون أيُّ معنى منطقي سليم! ولعلها الطبعة الثانية لكلمة «النظام العالمي الجديد» وكلا الكلمتين من مفرزات أطماع القطب الواحد؛ إذ يشعر أنه الوحيد في الساحة ومن ثم فهو يشعر بأنه القادر دون غيره أن يجعل الدنيا كلها طوع أمره، وأن يجعل مردَّ خيراتها ومنافعها إلى جيبه، وأن يُسخِّر أنشطة الناس كلهم لمصالحه.
وهذا الطمع من شأنه أن يهيمن على صاحبه عندما يخيل إليه أنه الوحيد في ساحة القوى والغنى..! وأقول: «يخيل إليه..»؛ لأنني على يقين بأن سنة الله في عباده تأبى أن يخضع العالم كله لسياسة القطب الواحد، وإن تراءى أن ذلك يقع في بعض الحالات، فما هو في الحقيقة إلا منعطف سريع في مرحلة انتقال.. وصدق الله القائل {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}.
هذا هو كل ما كنت أريد أن أثبته في هذه المقدمة بين يدي كتابي هذا «يغالطونك إذ يقولون..».
وقبل أن أسلمك يا قارئي العزيز لبحوث الكتاب؛ أرجو منك أن تنتزع من نفسك ما قد يعكر صفاء الموضوعية في إقبالك بالتأمل فيما قد كتبت والتدبر لما قد انتهيت إليه، فما آفة الإقبال على العلوم الإنسانية إلا مصيبة العصبية للذات، والاستسلام للرغبة والهوى.
أسأل الله لي ولك القدرة على انتزاع هذه الآفات من النفس، والتحرر إلا من سلطان العقل، الذي لا يمكن إلا أن يوصل إلى عز العبودية لله.
محمد سعيد رمضان البوطي
يعتبر هذا الكتاب أحد أهم كتب الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، فقد حوى كل الموضوعات الحارّة بل الملتهبة التي يستمرّ الجدل فيها بين الأوساط، وتمثل آفات تسري في كيان العالم الإسلامي. لتشكل في مجموعها شبكة اصطياد، تّصطاد بها الأمة الإسلامية للتحكم بها والقضاء عليها..كتاب يستحق القراءة أكثر من مرة .
يثير الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه هذا أفكاراً تتردد كثيراً في أوساط المثقفين وغيرهم حول الإسلام.. لا يمكن كشف اللبس فيها إلا من خلال الحوار، إنها مسائل تستحق الوقوف والتأمل؛
فهل الدولة الإسلامية انتهت بعد ثلاثين سنة من الوحي؟ وما مدى الشعار المطروح أن العلمانية هي الحل وأن الإسلام يناقض الديمقراطية؟ وما معنى أن تناقضاً قائم بين الغيبيات والعلم؟ وهل يغني القرآن عن السنة؟ وهل الإيمان بالقضاء والقدر مدعاة للتواكل؟ وكيف يروّج المغالطون مسألة هضم الإسلام لحقوق المرأة؟ وما الصحيح في قولهم إن الاسلام انتشر بالسيف والقهر؟ وما البدعة في مجالس الذكر التي تبعد عن الدعوة إلى الله؟ وهل نعدّ الإسلام ثورة عبيدية لا وحياً إلهياً؟!
ففي هذا الكتاب يحاور المؤلف أصحاب هذه الأفكار من خلال مناقشات علمية دقيقة مدعومة بالحجة والبرهان والمنطق، ليخلص فيها إلى نتائج هامة..
لذا فإن الكتاب يستحق قراءة متأنية!
أصل هذا الكتاب حلقات إعلامية، ظهرت على القنوات، ثم تطوّع محبو المؤلف ففرّغوها من الأشرطة وقدموها له، ليعيد صياغتها ويخرجها بما يناسب نشرها في كتاب، فجاءت كمقالات متتالية لايجمعها سوى موضوع واحد... والعنوان الجامع لمضامينها أنها مناقشات لأفكار وتصورات تسرّبت إلى بنيان المبادئ والحقائق الإسلامية.
تضمن الكتاب ثلاث عشرة مقالة، وقف فيها المؤلف- بنوع من الحوار- ضد تصورات مغلوطة راجت بين الناس.. فردّ على من يقول إن الدولة الإسلامية لم تمتد في العمر أكثر من ثلاثين عاماً، وأن العلمانية هي الحل، وأن التقديس يعوق البحث وحرية النظر، وأن نظام الحكم الإسلامي يناقض الديمقراطية، وأن ساحة العلم بعيدة كل البعد عن الغيبيات..
ودحض حجج من يعتقد أن القرآن يغني عن السنة، وأن الإيمان بالقضاء والقدر مصدر التواكل.. وأن المرأة مهضومة الحقوق في الإسلام.
وبين خطأ من يردد أن الإسلام إنما انتشر بحد السيف والقهر.. وكذلك خطأ من يرى في مجالس الذكر بدعة وملهاة عن الدعوة إلى الله.. وأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ثورة عبيدية وليست وحياً من عند الله تعالى.
وتوقف أخيراً عند موضوع العولمة وناقشه مناقشة علمية.
الكتاب في مقالاته جاء على طريقة حوار قدمه المؤلف.