تخطي إلى المحتوى

تجليات الفلسفة العربية، منطق تاريخها من خلال منزلة الكلي

مباع
السعر الأصلي $16.00
السعر الأصلي $16.00 - السعر الأصلي $16.00
السعر الأصلي $16.00
السعر الحالي $12.80
$12.80 - $12.80
السعر الحالي $12.80
هذا الكتاب يركز على واحد من المفاهيم التي أرقت الفلاسفة على مر العصور وهو مفهوم الكلّي، الذي أصبح محورَ كلّ تفكير علمي، في المنطق والرياضيات والفلسفة، وهو بشكل عملي محور كل تفكير علمي في التاريخ والسياسة. إنه كتاب يعيدنا إلى الفلسفة في عصرها الذهبي، محاولاً تذكيرنا بأنه يمكن للعقل العربي المعاصر استدراك ما فاته من تقدم تحت وطأة عصور الانحطاط ونفض ما رانَ عليه من خمول وبأن الأوان قد آن لنهضة فكرية عربية.

المؤلف
التصنيف الموضوعي
غلاف نوع التجليد
أبيض نوع الورق
552 الصفحات
24×17 القياس
2001 سنة الطبع
9781575479606 ISBN
0.83 kg الوزن

منزلة الكلي من خلال التناظر العكسي

بين مخمس الإشراق والتصوف

ومخمس الرشدية والكلام

شرحنا سبب الربط بين التصوف الثاني والإشراق، عندما حلَّلنا معنى النقلة من الوصل إلى الفصل، في الأفلاطونية المحدثة والحنيفية المحدثة العربيتين. ونحدّد الآن مضمون المنزلة التي ينسبانها إلى الكلي. فهذه المنزلة متعددة، رغم وحدتها. إنها تمثل تقازيح قوس شديدة الشبه بمثيلتها التي أفرزت، عند اليونان، الحل الأفلاطوني، بما هو تأليف لمكونات تذهب من السيلان الأبدي الهرقليطي إلى الواحد الصمد البارمينيدي، بتوسط الكثرة المادية الديموقريطية، وكثرة العناصر العقلية الأفلاطونية.

ورغم أن ابن تيمية، في سعيه إلى تيسير الرد على ابن عربي، قد أرجع التصوف الثاني كله إلى مذهب واحد يمثله، حسب رأيه، أحذقهم وأكثرهم جرأة، أعني التلمساني، فإن مكونات المذاهب الصوفية، لا يمكن أن تُردَّ إلى الوحدة المستثنية للتعدد باعتباره فاقداً للدلالة والمعنى بل إن جميع مكوناتها مفيدة، في تحديد منزلة الكلي الجامعة بين هذه المذاهب التي يمكن، كما سنرى، اعتبارها توابع للإشراق أو مصادر له.

إن مفهوم وحدة الوجود الصوفية لا يجب أن يُخفي عنّا خاصيات المنظومة الفلسفية العميقة التي تستند إليها النظريات الصوفية التي تحدد منزلة الكلي تحديداً يسلك سبيل تخليص المنزلة الأفلاطونية من تأثير المنزلة الأرسطية في الأفلاطونية المحدثة العربية، وسبيل تخليص المنزلة الإنجيلية من المنزلة التوراتية في الحنيفية المحدثة، ومن ثم تحديداً يسلك سبيل توحيد الفلسفة والدين توحيداً مطلقاً، يَعْتبر ما يختلفان به ثانويّاً في كليهما، لكون البعد الأفلاطوني من الأفلاطونية المحدثة والبعد الإنجيلي من الحنيفية المحدثة ليسا إلاّ الوجه الطبيعي والشريعي من الحقيقة الصوفية.

لذلك يتحقق، في هذه المذاهب، التسانُد والتوازي بين العالم الطبيعي، بما هو منظومة رموز وآيات دالة على الإله والعالم الشريعي بنفس الحيثية. والمرموز الواحد في الآيتين هو الوجود الإلهي الحال فيهما عامة، وفي الإنسان بما هو إياهما وقد اتحدا ثانياً، وخاصة في الإمام والولي، بما كان كل منهما إنساناً كاملاً. فكيف سيُثبت المتصوفةُ وحدةَ الوجود هذه؟ وكيف سيحدّدون منزلة الكلي، بما هي وحدةُ الكثير، سواء كان الكثير يعني تعدد أشخاص النوع، أو تعدد مكونات الماهية (وحدة الماصدق، أو وحدة المفهوم)؟ وكيف يمكن أن نُفَسِّر ذلك تفسيراً مُفيداً في معالجة مسألة الكلي وجوديّاً ونظريّاً وعمليّاً، وذلك بالاستناد إلى العناصر التي توصلنا إليها، وبالعلاقة مع المنازل المتضامنة التي تحدَّدت في الأفلاطونية المحدثة والحنيفية المحدثة العربيتين، وإلى الوصف الوارد عند ابن تيمية وابن خلدون؟

يمكن أن نقدم الحل، بعرض منهجي، على المنوال التالي. فالاتجاهان الممكنان، منطقياً، لإثبات وحدة الوجود، يكونان:

1- إما بنفي أحد طرفي التقابل بين الوحدة والكثرة، بتحميل الإنسان مسؤوليته ونسبته إليه. وذلك بالصورة التالية:

1ً - نفي الكثرة ونسبتها إلى الوهم الإنساني تخليصاً للحقيقة الواحدة منها. ولعل الممثِّل الرئيسي لهذا الرأي هو ابن سبعين.

2ً - نفي الوحدة المغايرة لهذه الكثرة ونسبتها إلى الوهم الإنساني، تخليصاً للحقيقة السيلانية من الوحدة الجامدة. ولعل الممثل الرئيسي لهذا الرأي هو التلمساني.


2 - أو بقبول طرفي المقابلة واعتبارهما مظهرين لمبدأ ثالث يتجاوزهما يتجلى فيهما، تجلّياً لا يمكن أن ننسبه إلى وهم الإنسان.

1ً - إثبات أن التكثر العقلي والحسي ليس في المعرفة فقط، بل هو تكثر صوري ومادي وجودي للذات الإلهية الواحدة مع تقديم الثاني على الأول، أي إن تعيُّن الوجود الإلهي أو وحدة الوجود هي العالم المادي، وإليه ينسب التعدد الصوري كعدم ملازم له ثابت في العدم. ولعل الممثل الرئيسي لهذا الرأي هو ابن عربي.

2ً- إثبات أن التكثر العقلي والحسي ليس في المعرفة فقط، بل هو تكثر صوري ومادي وجودي للذات الإلهية الواحدة مع تقديم الأول على الثاني، أي إن تعيّن الوجود الإلهي أو وحدة الوجود هي العالم الصوري، وإليه يُنسب

التعدد المادي كعدم ملازم له ثابت في العدم. ولعل الممثل الرئيسي لهذا الرأي هو القونوي.

ولنشرح دلالات هذه الحلول التي تثبت وحدة الوجود ومنزلة الكلي، شرحاً لا يهتم بتحليل نظريات المتصوفة أنفسهم، إلاّ في حدود النقد الفلسفي الذي يمثّله فيلسوفانا، ذلك أن منزلة الكلي، في التصوف، مسألة سالبةٌ ترتبط بنفي التعدد، ويبقى الهدف أن نسعى سعياً إلى إدراك نسق علاقاتها.

فوحدة الحق المقابلة للكثرة الوهمية، حسية كانت أو عقلية، تجعل الكلي، بما هو كثرة معقولة - سواءٌ اعتبرناها مفارقة أو محايثة - أمراً وهميّاً، لأن الوحدة الحق ليست وحدة الكثرة المعقولة أو المحسوسة، بل هي الوحدة المطلقة. وما الكثرة إلاّ من أفاعيل الإدراك الإنساني. إن المقابلة بين الواحد الحق والكثير الوهمي، معقولاً كان أو محسوساً، هي التي تحدد منزلة الكلي المعقول أو المحسوس (الأجناس في الأنواع، والأنواع في الأشخاص).

فالتكثر أمر وهميٌ لا وجود له في ذاته، بل هو من أفاعيل المعرفة الإنسانية ككل، العقلية والحسية: «وكذلك عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسي. بل والموجودات المعقولة والمتوهمة أيضاً مشروطة بوجود المدرك العقلي. فإذن الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرِك البشري. فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل في الوجود. بل هو بسيط واحد. فالحر، والبرد، والصلابة، واللين، بل الأرض، والماء، والنار، والسماء، والكواكب، إنما وُجدت لوجود الحواس المدرِكة لها، لِما جعل في المدرِك من التفصيل الذي ليس في الموجود، وإنما هو في المدرك فقط. فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل، إنما هو إدراك واحد وهو «أنا» لا غيره. ويعتبرون ذلك بحال النائم: فإنه إذا نام وفقد الحس الظاهر فقد كل محسوس، وهو، في تلك الحالة، إلاّ ما يفصله له الخيال. قالوا: فكذلك اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركه البشري. ولو قُدِّر فَقْدُ مدركه فُقِدَ التفصيلُ. وهذا هو معنى قولهم: الوهم، لا الوهم الذي هو من جملة المدارك البشرية».

وفي مقابل هذا الحل الذي يُبرز وحدة الوجود في ذاته وينسب التعدد المعقول والمحسوس إلى الإدراك الإنساني، بوصفه ظاهرات ليس لها وجود في ذاتها، بل هي إضافية إلى الإنسان، نافياً بذلك كل وجود واقعي للكلي، نجد الحل المعاكس الذي يثبت تعدد الوجود في ذاته بنفي هذه الوحدة المزعومة وراء التعدد المعقول والمحسوس، أي إن الأمر المنسوب إلى الوهم، في هذه الحالة، ليس التعدد المعقول والمحسوس، بل ما يُزْعَم موجوداً وراءَه، أو بعْدَه، ومُقابلاً له، مقابلةَ ما في الذات لما في الظاهر. وطبعاً، فإن نفي هذا الماوراء الذي هو في الذات سينقلنا بالضرورة من التعدد المعقول والمحسوس، الذي فقد مبدأ الوحدة الْمُمسك به، إلى وحدة وحيدة هي وحدة السيلان الأبدي، التي وصفها ابن تيمية، على لسان التلمساني، بعبارة: «وما البحر إلاّ الموج لا شيء غيره وإن فرقته كثرة المتعدد».

فإذا كان الحصر هنا جاعلاً البحر مجرد الموج، صارت وحدة الوجود سيلانية التعدد الذي فيه. ومعنى ذلك أن الموج ليس عرضاً وراءه جوهر هو البحر، بل الجوهر هو أعراضه. وعندئذ لم يبق للكلي أدنى وجود. فهو منفي بمعنيي الكلية: ثبات الهوية (أي كون المتغير، رغم تغيره، يبقى واحداً) والاشتراك فيها بين أشخاص ما صدق النوع (أي كون الهوية الواحدة حالة في عدة أشخاص أو محال مختلفة)، إذ إن السيلان بما هو هو، هو الوحيد الذي تنحصر فيه وحدة الوجود، وليس الواحد المقابل لها في الحل السابق. وذلك هو معنى المطابقة بين البحر والموج مطابقة حاصرة.

وقد أكد التلمساني، في شرحه لمنازل السائرين، أن التعدد السائل ليس مجرد وهم بالمعنى الذي شرحنا، بل الوهم هو نفيه، ووضع الوحدة المغايرة له فوقه أو وراءه، فقال: «فإذا وقف العارفون على حقيقة هذه التراكيب (أي التعدد في الخلق) وكيفية تحليلها حين يكشفها نور التجلي، وشاهدوا رجوع النهاية إلى مبديها، فقد زال عنهم التفرق بالعلل، فكأنهم رجعوا إلى عين الأزل، حيث يكون الثبت للحق والمحو لما سواه، وهو رجوع بالعرفان لا بذهاب الأعيان». فكون الرجوع من التعدد إلى الوحدة رجوعاً بالعرفان لا بذهاب الأعيان، قد يدعونا إلى الظن بأن هذا الموقف من جنس وحدة الشهود التي تقابل، في تحليل ابن تيمية، وحدة الوجود.

ولكن لو صحّ ذلك لكان نفياً تامّاً لوحدة الوجود، ولكان البحر شيئاً غير الموج. لذلك قابلنا بين الموقف الذي يَنسب التعدد إلى المعرفة ويَعتبر الحق في ذاته خالياً منه، مما يجعل كل ما في الوجود من تنوع وتعدد أمراً عديم الوجود بالذات، بالمقابل مع الأنا المدرِك الذي هو الهو المدرَك، والموقف الذي ينسب الوحدة إلى المعرفة ويعتبر الحق في ذاته هو هذا التعدد. ولكن كيف نفهم عندئذ نسبة الثَّبْتِ إلى الحق والْمَحْوِ إلى ما سواه؟ فما هو هذا الحق الذي له الثبت وما هو هذا السوى الذي له المحو؟ ذلك ما يفهمنا إياه رمز الموج. فالموج هو السيلان الواحد الثابت في المتعدد الممحو. إن الرجوع بالعرفان لا بذهاب الأعيان ليس الرجوع الحقيقي الذي تفيده وحدة الوجود. فهذه وحدة وهمية مقابلة للتعدد الوهمي، في الحل السابق. أما الوحدة الحقيقية، فإنها سيلان المتعدد الذي تذهب فيه الأعيان، لا بمعنى ذهول العارف عنها، بل بمعنى حركة الموج في الأمواج. وهذا يحدد منزلة الكلي السيلانية النافية لواقعية الصور الثابتة. وطبعاً، فإن هذا الحل يقتضي بالضرورة، تجاوز عدم التناقض المستند إلى ثبات الكليات، والوصول إلى الطبيعة الجدلية لهذا السيلان الوجودي الواحد.

لذلك فقد أكد التلمساني، في باب الرياضة من نفس الشرح على هذا التجاوز فقال: «وأما رفض المعارضات، فإن المعارضات تقع بين الأسماء مثل إن معنى الاسم الباسط يعارضه معنى الاسم القابض، والاسم المعطي يعارضه الاسم المانع، والاسم الجبّار يعارض معناه الاسم اللطيف، ومعنى رفض أمثال هذه المعارضات بصفة الفناء عن نسبة شاهد ومشهود لما فيها من الثنوية، فكيف يبقى من هذه صفته مع معارضات الأسماء والصفات». وبذلك يكون الكلي (الأجناس والأنواع)، بما هو من المرسومات، «والمرسومات هي الكثرة» فاقداً لكل واقعية وثبات، بحكم هذا السيلان الذي هو الحركة الموجية في الأمواج. وإذن فليست الأمواج أوهاماً، بالمقابل مع إدراك الوحدة وراءها، بل هي عينُ الحركة الموجية، بما هي رفضٌ للمعارضات أسمى درجاته هو نفي «ثنوية» الشاهد والمشهود. في الحالة السابقة نُسبت الكثرة المغايرة للوحدة إلى الشهادة، واعتبر الواحد هو عين الشاهد وفي هذه الحالة نسبت الوحدة المغايرة للكثرة إلىالشهادة واعتبر الواحد هو عين المشهود الذي هو هذا الشلال السائل.

وهكذا فإن نفي «الثنوية» هو الأساس في هذين الحلين. ولكن الحدّ المنفي في الأول غير الحدّ المنفي في الثاني. والنتيجة بالنسبة إلى الكلي هي نفيه. إما نفيُ حقيقته، رغم الإبقاء على ثباته في الوهم؛ أو نفي ثباته، رغم الإبقاء على حقيقته في الوجود. فإما الإبقاء على الوحدة ونسبة الكثرة إلى المعرفة الإنسانية التي صارت تُعَدُّ وهماً لا بمعنى المقابلة، ضمن المعرفة، بين الحقيقة والخيال، بل بإطلاق، بمعنى المقابلة بين ما في ذاته، وما هو بالإضافة إلى الإنسان؛ أو الإبقاء على الوحدة السيلانية للوجود المتعدد، ونفي ما وراءه من وحدة ثابتة تعود إلى الوهم الإنساني، سواء كان هذا الثبات متعلقاً بالكليات العقلية (الأجناس في الأنواع)، أو الحسية (الأنواع في الأشخاص).

وبهذا المعنى يكون ابن سبعين (الحل الأول) والتلمساني (الحل الثاني) متقابلين فيما بينهما بالصفة التي وصفنا، ومقابلين للحلين اللاحقين، حل ابن عربي (الحل الثالث) وحل القونوي (الحل الرابع). ومعلوم أن هؤلاء الأعلام الرموز الأربعة على صلة وثيقة أحدهم بالآخر في حياتهم وفي فكرهم. ويعود الموقفان اللذان وصفنا إلى تحقيق الوحدة بالسلب، إما بسلب التعدد ونسبته إلى المعرفة الإنسانية، أو بسلب الوحدة ونسبتها إلى المعرفة الإنسانية، فتكون وحدة الوجود هي الحاصل بالسلب من نفي أحد طرفي الثنوية، أعني الشاهد أو المشهود بما هما طرفا نسبةٍ للإبقاء على أحدهما بوصفه الحق، وبلا إضافة إلى آخرهما بوصفه الوهم.

وإذن، فهاتان النظريتان تستندان إلى نفي أحد طرفي الثنائية في المعرفة الإنسانية بما هي وهم، حيث يكون المتعدد الحسي والعقلي أمراً مثالياً بالمعنى الحديث للكلمة، أي من صنع إضافة الوجود في ذاته إلى الإنساني. فإذا نفي هذا المضاف إليه، أعني المعرفة الإنسانية، لم يبق إلاّ الواحد الحق أو الوجود في ذاته غير المقدود إلى شاهد ومشهود. أما إذا نفي المضاف، أعني ما تُعَدّ المعرفة مضافة إليه في ذاته، لكون المضاف إليه ليس وهماً مقابلاً للحق، بل هو عين الحق السائل، فإننا نجد عندئذ الموج الذي يقول به التلمساني. وبذلك لم تعد هاتان النظريتان متقابلتين بمعنى التنافي، بل بمعنى التكامل على النحو التالي. فالوحدة التي يقول بها ابن سبعين ليست الواحد الأجوف الميت الذي يكون كالفُضالة، بعد خصم ما نسب إلى الوهم، بل هي السيلان الذي يثبِّت فيه العقل الإنساني هذه الحدود والكثرة والأعيان بفعل الإدراك. وقد وصف ابن خلدون هذا الرأي بإرجاع النفي الذي تحدَّد مناطُه في الثبات والغيرية، إلى نظرية الموج والسيلان الأبدي، أي إلى نظرية القوة الإلهية الواحدة المحايثة للأصداف الجوفاء التي تمثلها المدرَكات المحدودة، ككليات محسوسة أو معقولة.

وإذن، فخلافاً لما يراه ابن تيمية، لا تمثل نظرية التلمساني حقيقة جميع النظريات الصوفية القائلة بوحدة الوجود، بل هي ذروة الوجه السالب منها، أعني ذروة وحدة الوجود المستندة إلى سلب أحد طرفي الثنائية، المعرفة الوهم، أو الوحدة الوهم. ونفي المعرفة الوهم (ابن سبعين)، أو نفي ما وراء السيلان أو الواحد الوهم (التلمساني) يعودان إلى نسبة التنوع الوجودي إلى الإدراك، في مقابل الواحد الحق، أو نسبة التنوع الوجودي إلى الحق، في مقابل الواحد الإدراكي الوهم. لذلك وصفنا هذا الصنف الأول من وحدة الوجود بأنه صنف الوحدة السالبة، بالمقارنة مع الصنف الثاني الذي نصفُه حينَنا هذا.

أما وحدةُ الوجود الموجبة، فإنها تستند إلى الاعتراف بطَرَفَي الثنائية (الشاهد والمشهود) وإلى اعتبار التعدد أمراً حقيقياً غير وهمي، لكونه تجليات الواحد في المتعدد الحسي والعقلي، مع مقابلة بين طرفيها المتقابليْن تعتمد على تقديم الأول أو الثاني:

* فإذا اعتبر التعدد الحسي أصلاً، والتعدد العقلي ظِلاً له، كان الحل قائلاً بواقعية الكليات المحسوسة التي ينسبها ابن تيمية إلى ابن عربي، معتبراً الكلي العقلي الذي يسندها من جنس نظرية الأشياء المعدومة الاعتزالية.

* وإذا اعتبر التعدد العقلي أصلاً والتعدد الحسي ظِلاً له، كان الحل قائلاً بواقعية الكليات المعقولة التي ينسبها ابن تيمية إلى تلميذ ابن عربي وربيبه أعني القونوي، معتبراً إياها من جنس نظرية المثل الأفلاطونية.

ومثلما حللنا التقابل الأول بين ابن سبعين والتلمساني لنبيّن طبيعته التكاملية، فإننا نحلل هذا التقابل الثاني بين ابن عربي والقونوي لنفس الغرض. فالتقابل بين واقعية الكلي السالبة التي يقول بها ابن عربي (الأعيان الثابتة في العدم الابن عربية التي يردُّها ابن تيمية إلى شيئية المعدوم الاعتزالية) وواقعية الكلي الموجبة التي يقول بها القونوي (الكليات القونوية التي يردها ابن تيمية إلى المثل الأفلاطونية) تقابلٌ يتكامل ولا يتنافى. ذلك أن نسبة الواقعية إلى الكليات المحسوسة، مع سلبها ككليات معقولة، واعتبارها أعياناً في العدم - الذوات بما هي في علم الله، أو الماهيات المعلومة قبل وجودها الطبيعي - قد ارتقت إلى مقابلها المناظر، حيث صارت الكليات المعقولة ذات وجود موجب يضاف إليه الوجود الحسي أو الطبيعي.

وبذلك تكون نسبة حل القونوي إلى حل ابن عربي هي نسبة حل التلمساني إلى حل ابن سبعين. فالأول يثبت للكليات الواقعية الوجود والقيام الذاتي تجاوزاً لمنزلتها السالبة عند ابن عربي، والثالث يثبت للتعدد السائل الوجود والقيام الذاتي تجاوزاً لمنزلته السالبة عند ابن سبعين. مما يجعل العلاقة بين ابن عربي والقونوي من جنس العلاقة بين أرسطو وأفلاطون، والعلاقة بين ابن سبعين والتلمساني من جنس العلاقة بين بارميندس وهرقليطس. والترتيبُ معكوس، إذ، في الحالة اليونانية، جئنا من الأخيرين إلى الأولين (من بارميندس وهرقليطس إلى أفلاطون وأرسطو)؛ وفي الحالة العربية، عدنا من هذين إلى ذينك (من أرسطو وأفلاطون إلى بارميندس وهرقليطس). ولما كان ابن سبعين والتلمساني تاليين لابن عربي والقونوي تُلُوَّ أفلاطون وأرسطو لبارميندس وهرقليطس، فقد تبيّن أن الفلسفة اليونانية انتقلت من لا واقعية الكلي إلى واقعيته، والفلسفة العربية انتقلت من واقعيته إلى لا واقعيته، لكأنّ الثانية عادت أدراج الأولى، في مسارها الساعي إلى وضع نظرية الكلي ومنزلته الوجودية.

فالمنزلة التي تحدد وحدة الوجود بالإيجاب تختلف عن المنزلة التي تحددها بالسلب اختلافاً جوهريّاً. ذلك أنها تسلّم بإمكانية العلم العقلي، لكونها لا تنفي وجود الكلي، بل هي لا تكاد تنفي شيئاً من الوجود، إذ إن الكليات المحسوسة والمعقولة لم تبق أوهاماً، بل هي تجليات الذات الإلهية، وهي ليست عديمة الكثافة الوجودية. ومعنى ذلك أن مصطلح الوهم، بمعنى الإدراك الإنساني، لم يعد مقبولاً. الإدراك الإنساني ليس وهماً، بل هو يمثِّل - هو بدوره - إحدى التجليات الحقيقية للوجود أو للذات الإلهية. لذلك ذهب ابن تيمية إلى حدّ إلزام ابن عربي بنفي الخطأ والمقابلة بين الحق والباطل: «وقد غلط طائفة من الناس من الاتحادية وغيرهم كابن عربي، فرأوْا أن الحقَّ هو الموجودُ فكلُّ موجودٍ حقٌّ. فقالوا: ما في العالم باطلٌ، إذ ليس في العالم عدمٌ».

ما الذي سينتج عن هذه المنازل ذات القطبين المزدوجين، والمستندة إلى بنية تقابلية، ضمن كل قطب على حدة (بين ابن سبعين والتلمساني أو بين ابن عربي والقونوي)، ثم بين القطبين (السالب المزدوج والموجب المزدوج)، وكيف تندرج منزلة الكلي الإشراقية في شجونها، بحيث تتكون منظومةٌ مخمَّسَةٌ تكوِّن المنازلُ الخمسُ تقازيحَ قوسِها المقابلة للكلام والرشدية؟

تحرض الفلسفة الإنسان على البحث عن أجوبة لأسئلة ما فتئ يطرحها على نفسه.

والبحث عن الإجابة هو ما يشكل دائماً نواة كل معرفة، وبفضله تراكمت العلوم والمعارف التي ننعم اليوم بها، ومن دون البحث ومحاولة الإجابة ربما لا يكون للحياة معنى، ولا لفهمنا ذلك بعمق.

هذا الكتاب يركز على واحد من المفاهيم التي أرقت الفلاسفة على مر العصور وهو مفهوم الكلّي، الذي أصبح محورَ كلّ تفكير علمي، في المنطق والرياضيات والفلسفة، وهو بشكل عملي محور كل تفكير علمي في التاريخ والسياسة.

إنه كتاب يعيدنا إلى الفلسفة في عصرها الذهبي، محاولاً تذكيرنا بأنه يمكن للعقل العربي المعاصر استدراك ما فاته من تقدم تحت وطأة عصور الانحطاط ونفض ما رانَ عليه من خمول.

وبأن الأوان قد آن لنهضة فكرية عربية. والمفكر العربي الأصيل الدكتور أبو يعرب المرزوقي نموذج للمفكرين العرب المرموقين الذين ألموا بالفكر الغربي، واطّلعوا عليه بلغاته الأساسية، إلمامهم بالفلسفة العربية الأصيلة.

فأتى كتابه نموذجاً فريداً في الدراسات الفلسفية العربية المعاصرة.

تحرض الفلسفة الإنسان على البحث عن أجوبة لأسئلة ما فتئ يطرحها على نفسه.

والبحث عن الإجابة هو ما يشكل دائماً نواة كل معرفة، وبفضله تراكمت العلوم والمعارف التي ننعم اليوم بها، ومن دون البحث ومحاولة الإجابة ربما لا يكون للحياة معنى، ولا لفهمنا ذلك بعمق.

هذا الكتاب يركز على واحد من المفاهيم التي أرقت الفلاسفة على مر العصور وهو مفهوم الكلّي، الذي أصبح محورَ كلّ تفكير علمي، في المنطق والرياضيات والفلسفة، وهو بشكل عملي محور كل تفكير علمي في التاريخ والسياسة.

إنه كتاب يعيدنا إلى الفلسفة في عصرها الذهبي، محاولاً تذكيرنا بأنه يمكن للعقل العربي المعاصر استدراك ما فاته من تقدم تحت وطأة عصور الانحطاط ونفض ما رانَ عليه من خمول.

وبأن الأوان قد آن لنهضة فكرية عربية. والمفكر العربي الأصيل الدكتور أبو يعرب المرزوقي نموذج للمفكرين العرب المرموقين الذين ألموا بالفكر الغربي، واطّلعوا عليه بلغاته الأساسية، إلمامهم بالفلسفة العربية الأصيلة.

فأتى كتابه نموذجاً فريداً في الدراسات الفلسفية العربية المعاصرة.

يتناول إشكالية وأبعادها وإدارها وأهميتها والخطة والمنهج والمحددات الظرفية والبنيوية والأفلاطونية المحدثة الوصية بفرعيها، والأفلاطونية والحنفية المحدثتان الفصليتان العربيتان