محطات حضارية من كتاب فتوح البلدان للبلاذري
تشير هذه المحطات الحضارية إلى أن الإسلام فتح القلوب قبل أن يفتح البلاد ، لهذا انتشر في البلاد المفتوحة، وتمسك به أهلها.
تشير هذه المحطات الحضارية إلى أن الإسلام فتح القلوب قبل أن يفتح البلاد ، لهذا انتشر في البلاد المفتوحة، وتمسك به أهلها.
هذه محطات حضارية نبَّه عليها البلاذري في كتابه المشهور (فتوح البلدان)، تشير إلى أن الإسلام لم يفتح الأرض، وإنما فتح القلوب ليزرع فيها المبادئ التي تنبت الحضارة الإنسانية في السياسة والاقتصاد والإدارة والعمران والعقيدة ومنهج الحياة والأخلاق القائمة على الحب والمساواة والإحسان والكرامة.
ولهذا انتشر الدين الحنيف، وتمسك به أهل البلاد المفتوحة حتى يوم الناس هذا، وإن حاول المحاولون على مر الزمان إزالته من النفوس في كثير من دول العالم..
طبع هذا الكتاب في وزارة الثقافة بمناسبة مرور( 1100) عام على وفاة البلاذري بعنوان (من كتاب فتوح البلدان)، ضمن سلسلة(المختار من التراث العربي)، فلما نفدت نسخه، أعدنا طباعته بعنوان جديد، فصار (محطات حضارية من كتاب فتوح البلدان للبلاذري).
أرجو أن يستفيد منه القارئ، فيأخذ الصورة الحضارية للفتوح الإسلامية، ويقف على أسرار انتشارها، وسر بقائها الخالد.
الدكتور شوقي أبو خليل
مسجد قباء
قال أحمد بن يحيى بن جابر: أخبرني جماعة من أهل العلم بالحديث، والسيرة، وفتوح البلدان- سقت حديثهم واختصرته، ورددت من بعضه على بعض- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة من مكة نزل على كلثوم بن الهدم ابن امرئ القيس بن الحارث بن زيد بن عبيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن مالك بن الأوس بقباء، وكان يتحدث عنده سعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك أحد بني السلم بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس حتى ظن قوم أنه نزل عنده.
وكان المتقدمون في الهجرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن نزلوا عليه من الأنصار بنوا بقباء مسجداً يصلون فيه، والصلاة يومئذ إلى بيت المقدس، فلما ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء صلى بهم فيه، فأهل قباء يقولون: إنه المسجد الذي يقول الله تعالى {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 9/108].
وروي أن المسجد الذي أسس على التقوى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. حدثنا عفان بن مسلم الصفار، قال حدثنا حماد بن سلمة، قال أخبرني هشام بن عروة، عن عروة أنه قال في هذه الآية: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 9/107] قال: كان سعد بن خيثمة بنى مسجد قباء، وكان موضعه للبَّة تربط فيه حمارها، فقال أهل الشقاق: أنحن نسجد في موضع كان يربط فيه حمار لبَّة؟ لا ولكنا نتخذ مسجداً نصلي فيه حتى يجيئنا أبو عامر فيصلي بنا فيه، وكان أبو عامر قد فر من الله ورسوله إلى أهل مكة ثم لحق بالشام فتنصر، فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 9/107].يعني أبا عامر.
وحدثنا روح بن عبد المؤمن المقري، قال حدثني بهز بن أسد، قال حدثنا حماد بن زيد، قال أخبرنا أيوب عن سعيد بن جبير، أن بني عمرو بن عوف ابتنوا مسجداً، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فحسدهم إخوتهم بنو غنم بن عوف، فقالوا: لو بنينا أيضاً مسجداً وبعثنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه، كما صلى في مسجد أصحابنا ولعل أبا عامر أن يمر بنا إذا أتى من الشام فيصلي بنا فيه، فبنوا مسجداً وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يأتيه فيصلي فيه، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم لينطلق إليهم أتاه الوحي فترل عليه فيهم،{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 9/107]، قال: هو أبو عامر، {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ، أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ} [التوبة: 9/108-109]، قال: هذا مسجد قباء. وحدثنا محمد بن حاتم بن ميمون قال: حدثنا يزيد بن هارون، عن هشام عن الحسن، قال: لما نزلت هذه الآية: {فيه رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مسجد قباء، فقال: ما هذا الطهور الذي ذكرتم به؟ قالوا: يا رسول الله إنا نغسل أثر الغائط والبول. وحدثنا محمد بن حاتم، قال: حدثنا وكيع عن أبي ليلى عن عامر، قال: كان ناس من أهل قباء يستنجون بالماء، فنزلت فيهم:{ فيه رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} الآية: حدثني عمر بن محمد الناقد وأحمد بن هشام بن بهرام، قالا حدثنا وكيع بن الجراح، قال: أخبرنا ربيعة بن عثمان عن عمران بن أبي انس عن سهل بن سعد قال: ((اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد الرسول، وقال الآخر: هو مسجد قباء، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه، فقال: هو مسجدي هذا)). حدثنا عمرو بن محمد ومحمد بن حاتم بن ميمون، قالا: حدثنا وكيع عن ربيعة بن عثمان التيمي، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع، عن ابن عمر قال: المسجد الذي أسس على التقوى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.
حدثنا محمد بن حاتم، قال: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال: حدثنا عبد الله بن عامر الأسلمي، عن عمران بن أبي أنس، عن سهل بن سعد عن أبي ابن كعب، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى، فقال: ((هو مسجدي هذا)). قال: حدثنا أبو هلال الراسبي، قال: أخبرنا قتادة عن سعيد بن المسيب في قوله: {لمسجد أسس على التقوى}، قال: هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الأعظم. حدثنا علي بن عبد الله المديني، قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت، قال: المسجد الذي أسس على التقوى، مسجد الرسول، عليه الصلاة والسلام، حدثنا عفان، قال: حدثنا وهيب، قال حدثنا داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب، قال: المسجد الذي أسس على التقوى مسجد المدينة الأعظم، حدثنا محمد بن حاتم بن ميمون السمين، قال: حدثنا وكيع، حدثنا أسامة بن زيد عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه، قال: هو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني الذي أسس على التقوى، قالوا: وقد وسع مسجد قباء بعد وزيد فيه، وكان عبد الله بن عمر إذا دخله صلى إلى الأسطوانة المخلقة، وكان ذلك مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء يوم الإِثنين والثلاثاء والأبعاء والخميس، وركب منها يوم الجمعة يريد المدينة، فجمع في مسجد كان بنو سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج بنوه، وكانت تلك أول جمعة جمع فيها، ثم مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنازل الأنصار منزلاً منزلاً، وكلهم يسأله النزول عليه، حتى إذا انتهى إلى موضع مسجده بالمدينة بركت ناقته، فنزل عنها، وجاء أبو أيوب، خالد بن زيد ابن كليب بن ثعلبة بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج فأخذ رحله، فنزل صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب، وأراده قوم من الخزرج على النزول عندهم، فقال: المرء مع رحله، فكان مقامه في منزل أبي أيوب سبعة أشهر، ونزل عليه تمام الصلاة بعد مقدمه بشهر، ووهبت الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل فضل كان في خططها، وقالوا: يا نبي الله، إن شئت فخذ منازلنا، فقال لهم خيراً، قالوا: وكان أبو أمامة أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار نقيب النقباء يجمع بمن يليه من المسلمين في مسجد له، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه، ثم إنه سأل أسعد أن يبيعه أرضاً متصلة بذلك المسجد كانت في يده ليتيمين في حجره يقال لهما: سهل وسهيل، ابنا رافع بن أبي عمرو بن عابد بن ثعلبة بن غنم، فعرض عليه أن يأخذها ويغرم عنه لليتيمين ثمنها، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وابتاعها منه بعشرة دنانير أداها من مال أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر باتخاذ اللبن، فاتخذ، وبنى به المسجد، ورفع أساسه بالحجارة، وسقف بالجريد، وجعلت عمده جذوعاً، فلما استخلف أبو بكر رضي الله عنه لم يحدث فيه شيئاً، واستخلف عمر رضي الله عنه فوسعه، وكلم العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه في بيع داره ليزيدها فيه، فوهبها العباس لله وللمسلمين، فزادها عمر رضي الله عنه في المسجد، ثم إن عثمان بن عفان رضي الله عنه بناه في خلافته بالحجارة والقصة، وجعل عمده حجارة وسقفه بالساج، وزاد فيه ونقل إليه الحصباء من العقيق وكان أول من اتخذ فيه المقصورة مروان بن الحكم بن العاص بن أمية، بناها بحجارة منقوشة، ثم لم يحدث فيه شيء إلى أن ولي الوليد ابن عبد الملك بن مروان بعد أبيه، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز وهو عامله على المدينة يأمره بهدم المسجد وبنائه، وبعث إليه بمال وفسيفساء ورخام وثمانين صانعاً من الروم والقبط من أهل الشام ومصر، فبناه وزاد فيه وولي القيام بأمره والنفقة عليه صالح بن كيسان مولى سعدى مولاة آل معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي، وذلك في سنة سبع وثمانين، ويقال في سنة ثمان وثمانين، ثم لم يحدث فيه أحد من الخلفاء شيئاً حتى استخلف المهدي أمير المؤمنين صلاة الله عليه، قال الواقدي: بعث المهدي عبد الملك بن شبيب الغساني ورجلاً من ولد عمر بن عبد العزيز إلى المدينة لبناء مسجدها والزيادة فيه، وعليها يومئذ جعفر بن سليمان بن علي، فمكثا في عمله سنة وزادا في مؤخره مئة ذراع، فصار طوله ثلاث مئة ذراع وعرضه مئتي ذراع، وقال علي بن محمد المدائني ولَّى المهدي أمير المؤمنين جعفر بن سليمان مكة والمدينة واليمامة فزاد في مسجد مكة ومسجد المدينة، فتم بناء مسجد المدينة في سنة اثنتين وستين ومئة، وكان المهدي أتى المدينة في سنة ستين قبل الحج فأمر بقلع المقصورة وتسويتها مع المسجد، ولما كانت سنة ست وأربعين ومئتين أمر أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله رحمه الله بمرمة مسجد المدينة، فحمل إليه فسيفساء كثير، وفرغ منه في سنة سبع وأربعين ومئتين. حدثني عمر بن حماد بن أبي حنيفة قال: حدثنا مالك بن أنس، قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما يفتح من مصر أو مدينة عنوة فإن المدينة فتحت بالقرآن))، حدثنا شيبان بن أبي شيبة الأبلي قال: حدثنا أبو الأشهب قال: أخبرنا الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لكل نبي حرماً، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم عليه السلام مكة ما بين حرتيها لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا يحمل فيها السلاح لقتال، فمن أحدث حدثاً، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل)).
وحدثني روح بن عبد المؤمن البصري المقري، قال: حدثنا أبو عوانة عن عمر ابن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اللهم إن إبراهيم عبدك ورسولك، وأنا عبدك ورسولك، وإني قد حرمت ما بين لابتيها كما حرم إبراهيم مكة)) فكان أبو هريرة يقول: والذي نفسي بيده لو أجد الظباء ببطحان ما عانيتها.
وحدثنا شيبان بن أبي شيبة قال: حدثنا القاسم بن الفضل الحداني عن محمد ابن زياد عن جده، وكان مولى عثمان بن مظعون، وكانت في يده أرض لآل مظعون بالحرة، قال: كان عمر بن الخطاب ربما أتاني نصف النهار واضعاً ثوبه على رأسه فيجلس إلي ويتحدث عندي فأجيئه من القثاء والبقل، فقال لي يوماً: لا تبرح فقد استعملتك على ما ههنا، ولا تدعن أحداً يخبط شجرة ولا يعضدها، يعني من شجر المدينة، فإن وجدت أحداً يفعل ذلك فخذ حبله وفأسه، قال: قلت آخذ ثوبه! قال: لا.
وحدثني أبو مسعود بن القتات، قال: حدثنا ابن أبي يحيى المدني عن جعفر ابن محمد عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم من الشجر ما بين أحد إلى عير وأذن لصاحب الناضح في الغضا وما يصلح محارثه وعربه.
وحدثني بكر بن الهيثم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم عن أبيه، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لرجل استعمله عن حمى الربذة، نسي بكر اسمه: اضمم جناحك عن كل مسلم، واتق دعوة المظلوم فإنها مجابة، وأدخل رب الصريمة والغنيمة ودعني من نَعم ابن عفان وابن عوف، فإنهما إن تهلك ماشيتهما ترجعا إلى زرع، وإن هذا البائس إن تهلك ماشيته يجيء فيصرخ يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين، فالكلأ أهون على المسلمين من غرم المال ذهبه وورقه، والله إنها لأرضهم، قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، إنهم ليرون أني أظلمهم، ولولا النَّعم التي يُحمل عليها في سبيل الله ما حميت عن الناس من بلادهم شيئاً أبداً.
حدثنا القاسم بن سلام أبو عبيد، قال: حدثنا ابن أبي مريم، عن العمري، عن نافع عن ابن عمر، قال: حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقيع لخيل المسلمين، قال لي أبو عبيد: بالنون، وقال: النقيع فيه قاع ذرق وهو الخندقوق. حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري عن أبيه، عن ابن الدراوردي، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه عن سعد بن أبي وقاص، أنه وجد غلاماً يقطع الحمى، فضربه وسلبه فأسه، فدخلت مولاته أو امراة من أهله على عمر، رضي الله عنه، فشكت إليه سعداً، فقال عمر رد الفأس والثياب، أبا إسحاق رحمك الله، فأبي. وقال: لا أعطي غنيمة غنمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: ((من وجدتموه يقطع الحمى فاضربوه واسلبوه)) فاتخذ من الفأس مسحاة. فلم يزل يعمل بها في أرضه حتى توفي.
وحدثنا أبو الحسن المدائني، عن ابن جعدبة وأبي معشر قالا: لما كان النبي صلى الله عليه وسلم بظُريب التعاويل مقدمه من غزوة ذي قَرد قالت له بنو حارثة من الأنصار: يا رسول الله، ههنا مسارح إبلنا، ومرعى غنمنا، ومخرج نسائنا، يعنون موضع الغابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من قطع شجرة فليغرس مكانها ودية))، فغرست الغابة. وحدثني عبد الأعلى بن حماد النرسي، قال: حدثنا حماد ابن سلمة، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق عن أبي مالك بن ثعلبة، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((قضى في وادي مهزور أن يحبس الماء في الأرض إلى الكعبين، فإذا بلغ الكعبين أرسل إلى الأخرى، لا يمنع الأعلى الأسفل)). وحدثنا إسحاق ابن أبي إسرائيل، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عبد الرحمن بن الحارث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((قضي في سيل مهزور أن الأعلى يمسك على من أسفل منه حتى يبلغ الكعبين، ثم يرسله على من أسفل منه))، وحدثني عمر بن حماد بن أبي حنيفة. قال حدثنا مالك بن أنس، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري عن أبيه، قال: ((قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيل مهزور ومذينيب أن يحبس الماء حتى يبلغ الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل))، قال مالك: وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه في سيل بُطحان بمثل ذلك. وحدثني الحسين بن الأسود العجلي، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا يزيد بن عبد العزيز، عن محمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو مالك بن ثعلبة بن أبي مالك عن أبيه، قال: اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهزور وادي بني قريظة، فقضى ((أن الماء إلى الكعبين لا يحبسه الأعلى على الأسفل))، وحدثني الحسين، قال: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا حفص بن غياث، عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيل مهزور أن ((لأهل النخل إلى العقبين، ولأهل الزرع إلى الشراكين)). ثم يرسلون الماء إلى من هو أسفل منهم. وحدثني حفص بن عمر الدوري، قال: حدثنا عباد بن عباد، قال: حدثنا هشام بن عروة عن عروة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((بطحان على ترعة من ترع الجنة)).
…
تشير هذه المحطات التي نبه عليها البلاذري في كتابه (فتوح البلدان) إلى أن الإسلام لم يفتح الأرض، بل فتح القلوب ليزرع فيها مبادئ الحضارة في شتى جوانبها من عمران وسياسة واقتصاد وإدارة وعمران وعقيدة وأخلاق وحب ومساواة وإحسان...
ولهذا انتشر الإسلام بسرعة مذهلة، وتمسك به أهل البلاد المفتوحة حتى اليوم، لم ينفع في إزالته محاولة المحاولين على مرِّ الأيام، وفي كثير من دول العالم.
تشير هذه المحطات الحضارية إلى أن الإسلام فتح القلوب قبل أن يفتح البلاد ، لهذا انتشر في البلاد المفتوحة، وتمسك به أهلها.