مقدمة كتاب في حب كلام الله
إذا أحبَّ المرء شخصًا أحبَّ كلامه، وإذا أحبَّ كلام شخص أحبَّه بالضرورة؛ أمَّا مَن فصل بين الشجرة وثمرها، وفرَّق بين الإنسان ومنطقه، ثم ادَّعى هوىً للأصل دون الفرع، أو زعم عشقًا للفرع دون الأصل؛ فقد ناسب أن يُسمَّى "دعيًّا" لا "حبيبًا".
القرآنُ الكريم كلامُ الله تعالى، هذه حقيقةٌ بديهية لا غبارَ عليها، ولا تحتاج إلى دليل؛ والمسلم السويُّ بطبعه يحرص على إظهار معاني حبِّ الله لينال رضاه ورضوانه؛ غير أنَّ المفارقة المحيرة حقًّا أنَّ قلةًّ من الناس مَن يرتبط بكلام الله تعالى برابطة "الحبِّ والعشق"؛ فجميعنا يقرأه ويصلِّي به، وكثيرا منَّا يتلوه ويختمه، ومنَّا مَن يحاول فهمه وتدبُّره وتفسيره؛ وقد يغوص البعض منَّا في معنى من معانيه، أو قد يُنجز بحثا أو بحوثا تحوم حول أسراره... غير أنَّ كلَّ هذا قد لا يعني بالضرورة أنَّنا نرتبط بهذا الكتاب "بقلوبنا ووجداننا" ارتباط الحبيب بمحبوبه، وأنَّنا نتعلَّق به تعلُّق العاشق بمعشوقه...
إذا غابت محبوبةُ هائمٍ اسودَّت الدنيا أمامَه، وإذا تمنَّعت وهجرتْ ضاقت عليه الأرض بما رحُبت، وإذا بدَّلت به غيرَه تمنى الموت وضجرَ مِن الحياة، وإذا ماتت وانتقلت إلى باريها لازم قبرها باكيًّا مُبكيًّا؛ وهو لا يهجرها ولا يتنكر لها إلاَّ إذا انصرف قلبُه عنها، وصادف حبًّا آخر غير حبِّه الأوَّل، أو إذا وجد من يُنسيه في حبيبه المألوف ويغريه بتجربة جديدة، وأملٍ متجدِّد... أمَّا إذا اعتاد صاحبُنا تغيير الحبيب على وقع المواسم والتقلبات، فذاك المخادع الكذَّاب، وذلك هو الأفَّاك المبين.
الآن، أسألُ نفسي: هل أحبُّ القرآن الكريم، أي كلام الله تعالى؟
ثم أسألها ثانية: وهل يحبُّني هذا الكتاب العظيم؟
قد أستعجل الجواب، وقد ألقي به بارداً دون تفكُّر: نعم، لا شكَّ في ذلك.
وقد أسوق بعض الأدلة وبعض الأمثلة، على قربي من كلام ربي، وارتباطي به.
غير أنَّ الخبر اليقين مخبَّأٌ هنالك، في قرارة قلبي، وفي أغوار وجداني؛ واضحٌ لي وضوح الشمس في رابعة النهار، صريحٌ عندي صراحة القمر حين اكتماله بدرًا... لا تخفى الشمس ولا يخفى القمر إلاَّ لمن أغمض عينيه، أو أدار ظهره لمصدر النور... ولا يفعل ذلك إلاَّ سفيهٌ كاذبٌ مغرورٌ.
ولذلك كله، كانت حقيقة الحبِّ ذاتيةً خفيَّة مكنونة، وكان أثر الحبِّ ظاهرًا بيِّنا صدَّاحا، بل فضَّاحا...
لو أنَّك وضعتَ نسخة من المصحف الشريف بين يدي عجوز أعجمية، لا تعرف من العربية شيئًا، إلاَّ ما تصلِّي به على مشقَّة؛ ثم رأيتَها جالسةً بوقار، تضمُّه إلى صدرها، وهي تبكي بعيون منهمرة، لا تلوي على أحد، ولا تأبه لما حولها ولا لمن حولها... تيقَّنتَ أنَّ المرأة ممن يتفنَّن في معاني الحبِّ للكتاب الحكيم، وهي تمارس لوازم الحبِّ لهذا الكتاب الكريم...
أمَّا إذا رأيتَ منغمساً في تفريع ألفاظ القرآن إعرابا وبلاغة وبيانا، أو مَن يحيط به بعلوم مختلفة مما تخصَّص فيه؛ ثم هو - مع ذلك - لا يتحرَّك قلبُه قيدَ أنملة، ولا يعبِّر عن هواه هنيهة، ولا يصدر ذلك عملا ينير حياته... فهمتَ أنَّ المسكين ابتُلي بجفاء القلب، وهُزمَ بجفاف الوجدان...
لكن، إذا أبصرتَ مَن يصل القلب بالعقل، فهمًا وقراءة وتفسيرا لكلام الله سبحانه، ثم إحساساً ووجداناً وتمثُّلا وإدامةَ وصلٍ؛ فلم يقطع ما أمر الله به أن يوصَل، ولم يجعل القرآنَ عِضين، ولم يفرِّق بين قولٍ وفعل، ولا بين فهمٍ وحبِّ؛ وهو فوق ذلك يحمل كلام الله إلى مفاصل الحياة لينيرها ويرشدها، وهو قبل ذلك يجذِّر كلَّ حركية ومشروع وفكرة ومؤسّسة واختيار، وكلَّ إقدام أو إحجامٍ... يجذِّرها بجذور غائرة في تربة كلام الله تعالى الطيِّبة الحيَّة، المـُحْيِيَة الـِمعطاء...
إذا رأيت أحدا من هؤلاء فاعلم أنَّه من "الكُمَّل"، وهو محسوب في عداد "المؤيَّدين"، حُقَّ له أن يكون للمتقين "رائدا وإماما"، وهو ولا شكَّ عند الله محبوبا: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"؛ أولئك الذين شهد الله أنه "يحبُّهم ويحبونه".
حاجتُنا اليوم إلى السموِّ بالقرآن نحو مقام الحبِّ، والعلو به إلى مراقي العشق، موصولا بالفكر الصريح والفهم الصحيح والعمل المليح؛ أي أنَّ الحاجة ماسَّة إلى منعَّمين يصدق فيهم قوله جلَّ جلاله: "ومِمَّن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خرُّوا سجدا وبكيا"...
"ممن هدينا واجتبينا": هو شطر التوفيق، والتمكين، والعمارة، والعقبى فيهم.
"خرُّوا سجدا وبكيًّا": هو شطر الحبِّ، والعشق، والصدق، والعرفان في حقِّهم.
أمَّا "إذا تتلى عليهم آيات الرحمن" فهو عنوان المنهج، ودليل الطريق، ووصفة الانعتاق من الدائرة المغلقة، والتحلل من أسباب الوهم والادعاء المعرفي والوجودي على السواء.
فلا يقوم معنى من معاني هذه الآية مقام آخَر، وإنما هي شروط ثلاثة حتى يواتينا الحبُّ صدقا لا ادعاء:
- تلاوة وأداء...
- سجود وبكاء...
- اهتداء واجتباء...
*******
مِن سماء هذا المعنى وسموِّه، ومن شمس هذا المنهج وشموخِه، ومن حقيقة هذا التوجيه وأصالته؛ نضع بين يدي قارئٍ حبيبٍ، لطالما جمعتنا به الأرواح، وإن ابتعدت الأجساد؛ صفيٍّ لنا أحببناه ولم نره؛ وها اليوم مرَّة أخرى نفتح أمام ناظريه سفرًا جديدًا:
عنوانه "حبُّ كلام الله تعالى"،
وموضوعه "تفسير كلام الله تعالى"،
وموشوره "بذور الرشد"؛
ونحن بذلك نعالج العلاقة بين الإنسان القارئ والنص المقروء، وبين الربِّ الموحي والبشر الموحى له؛ من مداخل العقل والقلب والوجدان والأركان، بل ومن جميع الملكات والمقدَّرات، والصادرات والواردات؛ وإنما نرمي بذلك إلى عرض منهج مؤسَّس على "منظومة الرشد" منطلقا ومصبًّا، موضوعًا ومنهجًا؛ والمنظومةُ ابتداء وانتهاء تتخذ لها "العلاقة بين الفكر والفعل" سؤالا للأزمة والمخرج، ومجالا للجهاد والاجتهاد، ومحلا للعلم والعمل.
وكلُّ الذي نرجوه أن نسهم ولو "شروَ نقير" في تجسير الهوة بين المسلم وكتابه، وبين الأمَّة ودستورها؛ لا بلغة التهريج والمكاء والتصفيق؛ لكن بلسان الصبر والحفر وتحمُّل المسؤوليات والتبعات؛ ولقد والله بزغ فجرُ عصر القرآن، شريط أن نعي ذلك، وأن نكون في مستواه، وأن نبلغ حقًّا مَداه؛ ولا أخالنا إلاَّ فاعلين... "وعلى الله قصد السبيل"، "والله يقول الحقَّ وهو يهدي السبيل".