الخَطَر الأَكْبرَ!
هل تعلم ما هو، أم هل فَكَّرتَ فيه قطّ؟
إنّه ليس العدوّ الدّاهم الذي يستقرّ مستعمراً في ديارك، وليس الفرقة التي تُشَتِّت القوى وتباعد الصّفوف، ولا تلك الأسلحة المذهلة التي تُنذر بالدّمار الشامل، ولا المجاعة الرّهيبة التي تهدّد نصف الكرة الأرضيّة بسبب تناقض نسبة الإِنتاج أمام تزايد عدد السكان.
إنما الخطر الأكبر شيءٌ أشدّ رهبةً من هذا كلّه!
إنّه ذاك الذي يمكّن العدوَّ من التسلُّل إلى الدّيار، وهو ذاك الذي يهيئُ الأسلحَة للانفجار والوقود للاشتعال، وهو ذاك الذي يوجد أسبابَ الخصومة والفرقة ويقضي على فرص الوحدة والتعاون.
إنه أعدى عدوٍّ لنا على الإِطلاق، إنّه نفوسنا التي بين جنبينا!
أجل.. فالنفس الإِنسانيّة التي لم تقترنْ مع العمل الصّالح في سيرٍ منضبط على المنهج الإِسلاميّ الصَّحيح، هي الخطر الأكبر في حياة المسلمين اليوم، ما في ذلك شكّ ولا ريب.
ذلك أنَّ الإسلامَ في جوهره ليس إلَّا تهذيباً وتربيةً للنّفس، كي تتخلى عما تتّسم به عادةً من الأنانية والكبرياءِ والتعلّق بزخرف هذه الحياة الدّنيا، ثمَّ لتدخل في محراب العبوديّة لله تعالى طوعاً كما انطبعت بحقيقتها قسراً.
فعندئذٍ يصبح السلوك ثمرةً من ثمرات عبوديّة النفس لله، ويكون واقع كلّ منهما تصديقاً للآخر، إذ تستقرّ المحبّة الأخويّة الصَّادقة في مكان الأنانيّة البغيضة، وتخضع النفس لقانون العبوديّة لله بدلاً من الكبرياء الزائفة على الخلق، وتستيقن معنى هذه الحياة التي ليست في حقيقتها إلَّا جسراً للحياة الخالدة الأخرى، فلا تتعلق من الدنيا بشيء ولا تأخذ من خيرها ونعيمها إلَّا ما يكون عوناً لها على السير في صراط الإسلام وتحقيق مرضاة الله عزَّ وجلَّ.
فيتمّ من ذلك الانسجام المطلوب بين حقيقة هذه النفس المسلمة والسلوك الإِسلامي الذي يشيع في تلاق وتعاون بين المسلمين، ولا تجد بين هؤلاءِ المسلمين سبباً لتخاصم أو تدابر، ولا يمكن أن يقوم بينهم حقد وتحاسد، أو أن يفرّقهم عن بعضهم دنيا يتنافسون فيها أو زعامة يتسابقون عليها، فتتوفَّر لهم من ذلك القوَّة التي لا تُغلب، والوحدة التي لا تتصدَّع، ويتداركهم الله تعالى بنصره الصَّادق المبين، ويعيشون في بلادهم أعزَّاء كرماء آمنين.
وعندما لا تأخذ النفس من هذه التربية بنصيب – وتلك هي حال نفوسنا اليوم – فإنَّ ازدواجاً خطيراً يقوم في كيان المسلم، إذ تنشطر شخصيّته ما بين سلوك إسلامي ظاهر يتمثّل في أقوالٍ وأفعالٍ معيّنة، ونفس هائجةٍ تائهةٍ مستغرقةٍ في أمانيها الدنيوية وأحلامها الذاتيّة.
وقُصارى ما يكون عليه صاحب هذه النفس من الفضائل والمزايا الإسلاميّة، أن يلتقط من مظاهر السّلوك الإِسلامي كلّ ما يجرُّ له حظّاً من المغنم ولا يكلّفه شيئاً من المغرم، فيكون في ظاهر أمره قائماً بحقّ الله مجاهداً في سبيله، وفي باطن الأمر مقدّما للنفس لوناً آخر من مطامحها الدنيويّة وأحلامها الذاتيّة.
والدِّين في واقع الأمر عند أصحاب هذه النّفوس ليس إلَّا ترساً يتّقي به أحدهم ما قد يتلقّاه من الإِنكار على خبيئة أمره، أو هو ليس إلَّا لثاماً يستر به عن الناس حقيقة ما في نفسه.
وهيهات أن ينهض المجتمع الإِسلامي المنشود على مِجَنٍّ أو لثام من التديّن، دون أن تجد من ورائه تحمُّلاً لما قد يرهق النفس أو يخالف شيئاً من أهوائها وتطلعاتها الذاتيّة.
وما أيسر على صاحب هذه النفس أن يصطنع المعاذير ويفتح لها سبل التهرّب الشرعي، ويروِّج من حوله هالةً من الضَّباب التي قد تستر عن الناس خبيئة أمره.
إلَّا أنَّ الدين نفسه لا ينخدع بشيءٍ من ذلك.
قد جاء من يعتذر إلى رسول الله (ص) بأنّه يخشى على نفسه الفتنة في الدّين لو خرج معه إلى جهاد الرّوم ورأى من حوله نساء بني الأصفر.. فأنزل الله فيه قوله: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} [التوبة].
وجاء إليه (ص) من يتنطَّع قائلاً: إنَّ بيوتنا في المدينة مكشوفة للعدوّ وليس فيها إلَّا الصِّبية والنِّساء..! حتى ينفلتوا بذلك من الجهاد في حفر الخندق، فأنزل الله فيهم قوله: {ويستئذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا} [الأحزاب].
فكيف يتحقَّق نصر الله للمسلمين إذا كانت ألسنتهم وأقوالهم في وادٍ من الدّعاوى، ونفوسهم تائهة في وادٍ آخر من التنافس على الدنيا والتسابق إلى أهوائها؟!.
إنَّ شيئاً من مقوّمات النصر الإِسلامي لا يمكن أن يثمر في حياة هؤلاء النّاس!
فهم لا يتّفقون فيما بينهم، لأنَّ ألسنتهم تلهج بأمرٍ، ونفوسهم زائغة في الوقت ذاته نحو أُمورٍ أُخرى، فلا يوحِّدهم هدفٌ حقيقي، ولا تجمعهم غاية ذاتيّة معيّنة.
وهم لا يثقون بعضُهم ببعضٍ، لأنَّ معرفة كلّ منهم لواقع نفسه تعتبر دليل اتهامٍ لواقع ما عليه الآخرون!
وهم لا يتحابّون ولا يتوادّون عن صدق، إذ كان تعلّق نفوسهم بالدّنيا ومغانمها مثار حسد يشيع فيما بينهم فلا يكون لأحدهم من شأن أو مكانة أو مال إلَّا وكان في نفوس الآخرين منه حسد يفري نفوسهم أو ضغائن تلهب قلوبهم، وربما بات أحدهم يتقلّب في همّ هذه المشاعر أكثر ممّا يتقلّب في همّ المسلمين، أو في همّ المصير الذي ينتظره بين يدي الله عزَّ وجلَّ.
وهم لا يتعاونون من أجل ذلك كلّه، إلَّا بمقدار، وهو المقدار الذي يوفّر لكلّ منهم مصالحه، ويهيئ له السمعة الفاضلة، والمكانة اللائقة، فهم إنما يتعاونون في الحقيقة ابتغاء هذه المغانم التي لا تتوفَّر إلَّا من هذا الطريق.
فإذا ما امتدَّ بهم السبيل إلى ما وراء ذلك رأيتهم تفرَّقوا في مسالك متباعدة متنافرة، ورأيت لكلٍّ منهم معذرةً يعتذر بها، وتنشد حينئذٍ الاتفاق والتعاون والإِخاء فلا تقع لشيء من ذلك كلّه على أثر!
وهم بناءً على ذلك كلّه لا يُنصَرون، لأنَّ مَن بيده المعونة والنّصر ناظر إليهم عالم بحقيقتهم، لا يخفى عليه منهم شيءٌ، فمهما رأيت جموعاً محتشدة أو سمعت كلمات مخيفةً ثائرة، أو اطَّلعتَ على تخطيطٍ رائعٍ دقيق، فإنَّ شيئاً منه لا يُخيفُ عدوّاً، ولا يؤلّف رابطةً، ولا يقيم جامعةً، لأنه غثاءٌ.. والغثاءُ لا يخيف أحداً.
وصلَّى الله على من حذَّر المسلمين من هذا الخطر الأكبر يوم قال:
«يوشك أن تداعَى عليكم الأممُ، كما تداعَى الأكلَةُ إلى قَصعتها، قالوا: أمِن قلّة نحنُ يا رسولَ الله يومئذٍ؟.. قال: بل أنتم كثيرٌ، لكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيل، وسينزعنَّ الله الرَّهبة منكم من قلوب أعدائكم، وسيقذفنَّ في قلوبِكم الوَهْن، قالوا: وما الوَهْن؟ قال: حبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموت» .
أكثر المسلمين اليوم منصرفون إلى تحليل الإسلام وتقديم واقع المسلمين، من خلال الأعمال والأقوال الظاهرة وحدها.
وإنما هذه الأعمال والأقوال أدوار فوقية من البناء الإسلامي، لا تقوى ولا تثبت إلا اعتماداً على ذلك الجزء الخفي المتواضع من البناء الذي يسمَّى: الأساس، ومستقرّ هذا الأساس هو القلب.
فكيف يستقرّ فيه أساس البناء الإسلامي؟ وكيف يتمّ الاتِّصال بينه وبين الأدوار الفوقية لذلك البناء، بحيث يضمن المسلمون ألاَّ تطيرها الرياح، ولا تعصف بها الزعازع، ولا تقوضها قوى الطغيان والشهوات؟
مهمَّة هذا الكتاب، هي الإجابة على هذه الأسئلة، والكشف عن سبل الاتَّصال بين الحياة الإسلامية في باطن القلب، والحياة الإسلامية، على ظاهر الأعضاء.