من أين تنبع مشكلات الشباب
ونبدأ قبل كل شيء فنتساءل: هل يعاني الشباب حقّاً من مشكلة؟
والحقيقة أن الشباب (بحد ذاتهم) أينما كانوا ليست لهم مشكلة ما، أي ليسوا متشاكسين مع أنفسهم أو عقولهم، في أي أمر من الأمور، ولا في أي مكان أو زمان، ما داموا من صنف العقلاء الخاضعين لسلطان البشرية وقانونه الطبيعي.
إنهم كانوا، وما يزالون، يتصرفون في شؤونهم الفكرية والنفسية، تصرُّفاً منسجماً مع مقتضيات الطبيعة لبشرية والنوازع الفكرية والعقلية.
قد يخطئون أو ينحرفون، ولكن ذلك ليس نابعاً من مشكلة خاصة بهم من حيث إنهم شباب، بل إنهم في ذلك يشتركون مع الفئات الأخرى من النَّاس، يقودهم في ذلك قاسم مشترك واحد، كعوامل العصبيَّة، أو الرُّدود النفسيَّة، أو الانصياع للتقاليد والعادات.
إذن فمن أين ظهر هذا العنوان الضخم الذي راح يرتسم بأحرف كبيرة جداً بحيث كاد يغطي العالم كله، حتى أصبح الحديث عن «مشكلات الشباب» معالجة لموضوع عالمي خطير، تشترك في معالجته والحديث عنه جميع وسائل الإِعلام، إلى جانب جميع مجلات الدنيا، إلى جانب طائفة كبيرة من النشرات والكتب والرسائل التي ظهرت في هذا البحث؟!.
لقد كان هذا العنوان تشخيصاً سطحيّاً لمرض اتخذ مظهره في صنف الشباب دون غيرهم.
فحسب السطحيون أن عنصر الشباب هو ينبوع هذا المرض وسببه، وأن شذوذاً ما قد تسلل إلى التركيب النفسي أو العقلي لهؤلاء الشبان!. فانطلقوا يبحثون ويعالجون ويضعون الوصفات العلاجية المختلفة لأشخاصهم. ويلفتون أنظار العلماء والمربين إلى سوء حالهم وضرورة العمل على تدارك أمرهم.
إلا أن من المقطوع به أنهم يبحثون في غير طائل، وأن علاجاتهم لا تقع أي موقع للشفاء، لأن الشباب ليسوا هم المرضى، إنما هم بمثابة انعكاس لحالة مريض آخر!..فمن هو هذا المريض؟
إنه المجتمع الذي يعيشون فيه! وما ظاهرة المشكلة التي تتمثل في سلوكهم وحياتهم إلا أثر من آثار مرض هذا المجتمع ذاته.
وإن الذي يبصر ما يسميه بـ «مشكلات الشباب» ثم يحصر نظره وفكره في شأنهم وغرائزهم زاعماً أنه يحاول بذلك أن يطببهم ويربيهم، أشبه بمن خاض بسيارته في طريق مستوعر مملوء بتضاريس الحجارة والأخاديد، فلما رآها تضطرب وتتقلقل، ولا تتثبت في سير أو اتجاه، نزل منها وراح يحملق في محركاتها ودخائلها، ساعات من الزمن ليكشف من فيها من خلل وعطب!
ليست في عقول الشباب ولا في نفوسهم – اينما كانوا – أي مرض أو آفة يعانون منها، ولكنهم بمثابة جهاز حساس يرتسم عليه كل ما قد يكمن في المجتمع الذي هم فيه، من مظاهر الفوضى والتخلخل والاضطراب.
ولو كان الكهول والشيوخ يتمتعون بمثل الحساسية التي عند الشباب لاشتركوا معهم في معاناة المشكلات ذاتها.
ولكي تزداد هذه الحقيقة وضوحاً، ينبغي أن تعلم أن الإِنسان إنما يخوض معترك الحياة بسلاح من الطَّاقة العقليَّة والنفسيَّة.
بيد أنَّ كلّاً منهما لا يزيد في طوره الأول – عندما يكون مجرد هبة إليه تنزّلت إليه من الغيب – على أن يكون مثل النواة الصغيرة من الشجرة الباسقة. وإنما تتحول نواة كل من العقل والنفس مع الزمن إلى شجرة مثمرة متفرعة الأغصان، بما يكسبه صاحبها على المدى الطويل، من التجارب والخبرات، وبما يربو بين جوانحه من العواطف والوجدانات المختلفة.
وبعض هذه التجارب والخبرات يكون موجهاً ومقصوداً وهو ما يُطلق عليه علماء التربية: العوامل التربية المقصودة، كالمدرسة، ونحوها، والبعض الآخر – وهو الأكثر والأهم – يكون عفويّاً لا يندفع إليه بأي قوة موجهة، كالبيئة والوراثة ونحوهما.
وهكذا، فإن شخصية الشاب الفكرية والنفسية إنما يتكامل معظم نسيجها عن طريق المجتمع بواسطة عوامل تؤثر فيه بشكل مباشر أو غير مباشر.
فلا جرم أن الشاب يكون بذلك أدق لوحة تنعكس عليها حالة المجتمع الذي هو فيه، إن خيراً فخير، أو شراً فشر.
ولا جرم أن ما نراه من مظاهر الخير أو الشر على هذه اللوحة، إنما هو صورة للحالة السليمة أو الفاسدة التي يتسم بها المجتمع لا أكثر.
ستقول: ولكنْ ما الفرقُ؟
ولماذا لا تكون الحالة التي ينطبع عليها المجتمع صورة للحالة السليمة أو الفاسدة التي يتلبس بها شباب الأمة بدلاً من العكس؟
ويمكنك أن تتبين الجواب من خلال السطور السابقة. فلقد تبين لك مما ذكرنا أن الشاب هو الذي يتلقى تربيته المباشرة أو غير المباشرة من المجتمع وليس المجتمع هو الذي يتلقى تكوينه من الشاب الواحد.
وما هو المجتمع؟ إنه البيت، والمدرسة، والشَّارع، والمسجد، والملهي، والحانوت، والمعمل، والدائرة، بما قد يكتنف ذلك كله، من المعاني والقيم والأفكار.
ولا شك أن القوّة الموجهة في هذه المرافق كلّها، إنما تجمعت فيها بتأثير أفراد وقوانين وأفكار علماء وموجهين. ولكنها بعد أن امتلأت بهذه الشحنة، انتقلت من دور التأثر إلى دور التأثير، فأصبح لها سلطانها التربوي والتوجيهي على الأفراد لا سيما الشباب.
غير أن سلسلة هذا التفاعل في التأثر تظل مستمرة.
فالأفراد والعلماء الذين يؤثرون في المجتمع، إنما يؤدون أمانة استودعها عندهم المجتمع السابق بما كان له عليهم من سلطان وتأثير.
وهكذا، فإن مجتمع كل عصر من العصور متأثر بسابقيه ومؤثر في لاحقيه.