مقدمة الكتاب
المقدمة
قرأت مقالاً في مجلة سيَّارة، يحلل فيه كاتبه أسباب التخلف عند المسلمين، ويلتمس فيه أهم المعوّقات التي أخَّرتهم في سباق الإنتاج عن اللحاق بغيرهم.
قد كان من أهم أسباب ذلك، في نظر كاتب المقال، تلك الآثار الباقية من الدين وغيبياته عندهم، وتلك العقيدة التي تنسب كل شيء إلى الخالق.
والحقيقة أن ربط التخلف بالدين، قد غدا عند طائفة من الكتاب العرب، حركة آلية في سير تفكيرهم، لا تكاد تختلف عن آلية تصور ارتباط الطعام بقرع الجرس في التجربة التي أجراها «بافلوف» لإثبات نظريته المشهورة عن رد الفعل الشرطي.
فمهما انحسر سلطان الدين (وهو الإسلام في هذا المقام) عن مجتمعاتنا العربية اليوم، ومهما شرد الناس عن سبيله وقيوده، ومهما ابتعد سلطان هذا الدين عنهم وعاد محصوراً في مخزن التاريخ، منزوياً في مَغْرِبه الحضاري، فإن هؤلاء الكاتبين يظلون يلصقون به جريرة تخلفهم كلما سئلوا عن أسبابه، أو كلما تظاهروا بالنهوض لمعالجته والتغلب عليه!
والتخلُّف، كلمة تشمل كل مظاهر الضعف أو الجهل أو الفقر في حياة الأمة. فهي إذاً تنحطّ على تفرُّق المسلمين وتدابرهم، وعلى استلاب اليهود وغيرهم لأراضيهم، وعلى جمود الحركة العلمية في حياتهم، وعلى قعودهم عن تسخير ما في الأرض لمعاشهم.
فيزعم هؤلاء الباحثون إذاً، أن من أهم ما يمنع وحدة العرب اليوم، ويصدهم عن ردع اليهود وطردهم، ويعرقل عليهم الانطلاق نحو آفاق العلم والمعرفة، ويقعدهم عن السبق الاقتصادي وتوفير الإنتاج، هذه البقيةَ من سلطان الإسلام وعقيدته في نفوس المسلمين!
* * *
ويعلم هؤلاء الكاتبون، كما يعلم غيرهم، أن هذه الأمة كانت فيما مضى خاضعة خضوعاً تاماً لسلطان الإسلام، فحكمها كان منبثقاً عن قانونه، ومجتمعها كان قائماً على نظامه، وأخلاقها كانت مستلهمة من روحه؛ وكان ذلك – فيما أجمع عليه الباحثون – سرَّ اتحادها بعد تفرق، ومصدر قوتها بعض ضعف، ومنبع غناها بعد فقر.
فكيف ينعكس الأمر، ويصبح ما كان سبباً للوحدة والقوم والتقدم بالأمس، سبباً للفرقة والضعف والتخلف اليوم؟!.
ومع ذلك، فلو أن السواد الأعظم ممن نسمِّيهم اليوم مسلمين، لا يزالون يحتكمون إلى الإسلام في قانونه ونظامه وأخلاقه، لأقررنا بالتناقض تحت سلطان الواقع، ولقلنا – والعجب يفيض من صدورنا -:
إن الإسلام على ما يبدو ذو أثرين متناقضين!!
ولكن من نسميهم اليوم مسلمين، بعيدون عن الإسلام متنكرون له، بمقدار ما كان أسلافهم قريبين منه متعلِّقين به.
فأين هو مكان العنب على دين تراجع سلطانه عن الحكم ونظامه، وتقلص ظلّه عن المجتمع وأخلاقه، ولم يعد أكثر مِن شعارات ترفع في المساجد، وكلمات تردد في المحافل.
ولئن كانت ثمة بقيةً قليلةً من المسلمين الذين لا يزالون على وفاء مع إسلامهم، فإنهم على كل حال يقفون – طوعاً أو كرهاً – بعيداً عن طريق المتقدمين إلى الإصلاح. لم يقف واحد منهم يوماً ما عثرة في سبيل وحدة، ولم يصدَّ عن طريق قوة، ولا سعى إلى إيقاف مصنع.
لم يتقدم واحد منهم إلى قطعان الكسالى، سُمَّار النوادي ونوّام الضحى، ليغريهم بمزيد من الكسل والعبث، وليقول لهم: إياكم أن تبرحوا نواديكم التي تعابثون فيها الحياة، وأن تسلكوا سبيل غيركم إلى علم يرفع لكم شأناً أو يثمّر لكم مصنعاً، أو يُنهضكم إلى ما عليه الآخرون من التقدم والرخاء.
نعم.. ولم يعمد أي واحد منهم إلى جيش من هذا الجنس البشري الثالث، الذي لم يعد يفهم من الدنيا إلا على أنها ليلة حمراء وفتاة حسناء، ولم يعد يذكر لأمته تاريخاً ولا يؤرقه مصير ولا يشاركها في ألم ليقول لأحدهم: استمرَّ كما أنت، نائماً في أرجوحة الأحلام، ولا توقظنك غَيرة على وطن أو حرقة على إصلاح. فإنما أنت كما قال الشاعر:
++دعِ المكارمَ لا تَرْحل لبُغْيتها==واقْعُدْ فإنك أنتَ الطاعمَ الكاسي
أجل..
ولم يدْنُ واحد منهم إلى أيّ فرد من هؤلاء الذين يتبرَّمون بالتخلُّف ومظاهره، ويطمحون إلى التقدم وأسبابه، ويلومون في سبيل ذلك الدين والمتدينين والمؤمنين بخالقية الخالق، ليغلِّله في الأصفاد، وليشده إلى قاع التخلف حيث الفقر والجوع والجهل وقلة الإنتاج!
إنهم جميعاً يتحركون كما يشاؤون، ويتجهون إلى حيث يريدون.
المَيدان مَيدانهم، والساحة فارغة أمامهم، والعدوّ – أيّاً كان – مكشوف تحت أبصارهم.
ففيم كل هذه الضجة الراكدة في أرضها، والنزق الذي لا يتحرك من مكانه، والصراخ المتلاحق بدون موجب: أتركني عليهم.. أتركني عليهم!!.
لو كان بهذه البقية القليلة من المسلمين الأوفياء لدينهم، بقية طاقة للوقوف عقبة في وجه شيء ؛ لوقفوا عقبة في وجه هذا الكسل الماجن الذي تحضنه الملاهي إلى لمعة الصباح، ثم يستقبله النوم الثقيل إلى وهج الضحى؛ بل لوقفوا عقبة في طريق هذه الأحلام الداعرة التي التفت على كينونة جمهرة من شباب هذه الأمة، نفساً وعقلاً وتفكيراً!..
بل لوقفوا عقبة في طريق نفاق يصطنع الحرقة على الأمة والوطن، والمصير ظاهراً، وينصرف إلى اقتطاف ثمار هذه «الحرقة» مكاسِبَ وأرباحاً، باطناً.
ولكن هذه البقية المسلمة ليس لها من الأمر شيء.
ليس لها من الأمر شيء في إصلاح هذا الفساد، أفيكون لها الأمر كله في إفساد ذلك الصلاح؟!.
قد لا يتصوَّر القارئ المثقَّف أنَّ حديثاً عن أسباب تخلُّف المسلمين يمكن أن يتم في أقلّ من مجلَّد كبير.
غير أنَّ المؤلِّف درج على تكثيف أمثال هذا البحث بأقلّ قدر ممكن من الصفحات، وبأبسط ما يتأتَّى له مِن التعبير والبيان، وتلك المزية الأولى التي عرفت بها سلسلة "أبحاث في القمة" التي يأتي هذا البحث حلقة ثامنة منها.
إنَّ أسباب تخلُّف المسلمين مهما كانت كثيرة الجواب عميقة الجذور، فإنَّ مِن الضروري – في نظر المؤلِّف- أنْ تُعرض بشكل ملخَّص ومبسَّط بحيث لا تتغيب عن القاعدة العامَّة للمثقفين في المجتمع، وبحيث لا يصبح الحديث عن هذه الأسباب كرة تتقاذفها فيما بينها طبقة متميزة من الباحثين ابتغاء الوصول إلى بعض الأماني والأغراض.