تذييل
لعل أكبر خطأ وقع فيه المنظرون العجلون من المفكرين العرب في مسألة الفلسفة عامة والفلسفة العربية خاصة يتصل بأمرين:
الأول يتمثل في غفلتهم عن الصلة المتناسبة بين الطموح إلى تأسيس فلسفة متميزة وحركة النهوض التاريخية في كل التجارب التي عرفها تاريخ العقل الإنساني.
الثاني يتمثل في عدم الربط بين الطموح الفلسفي والطموح النهضوي من جهة، والمقومات الأساسية التي تحصلها الأمم في التاريخ، فتجعلها ضرباً من ضروب تحقيق القيم الكلية التي تتحدد بها هويتها أو حصانتها الروحية.
لذلك فسنختم هذه المحاولة بدراسة المسألة الأولى لأن الثانية كانت من نصيب الفاتحة. فما الصلة بين الطموحين؟ ولماذا لا بد من الملاءمة بين المطالب النهضوية والمطالب الفلسفية، إذا كنا نريد تحقيق الطموحين المتلازمين دائماً؟ فقد نتج عن هذه الغفلة في حركة النهضة العربية الإسلامية الحالية إهمال الاستفادة من خصائص المراحل التي مر بها تطور الغرب الحالي الذي صار عند الكثير مثالاً أعلى بإطلاق ودون مراعاة المتغيرات التاريخية، ظناً منهم أن ما هو عليه حالياً كان دائماً كذلك، وأنه علة في ما هو عليه الآن.
لذلك تراهم يحاولون نسخ الوضع الغربي الراهن ليقلدوه بحثاً عن تحقيق ما هو متحقق في الغرب الراهن دون معرفة شروطه الفعلية. فيقعون بذلك في خطأ منطقي فادح ذي وجهين: خطأ تعليل الشيء بذاته أو خطأ قلب المعلول علة. فإذا كان ما عليه الغرب حالياً هو علة ما هو عليه حالياً كان الوضع الغربي الحالي علة ذاته. وذلك هو مدلول كونهم يريدون نقل الوضع الغربي الحالي لتحقيق مثيله عندنا. ولو سلموا بأن وضع الغرب الحالي معلول لوضع مغاير لكان عليهم معرفته لتحقيقه شرطاً في تحصيل وضع مماثل للوضع الغربي (تسليماً جدلياً لهم بتكرار التاريخ وبوحدة المسارات الحضارية المختلفة في كل الجزئيات).
فكيف يمكن عندئذ مواصلة الدعوة إلى محاكاة الوضع الحالي الذي هو معلول الوضع الذي كان ينبغي أن يبحثوا عنه ليجدوا الشروط التي عليهم محاكاتها بهدف الوصول إلى ما يريدون الوصول إليه. لماذا لا يفهمون أن الغرب لو كان في بدايات نهضاته المتوالية على ما هو عليه حالياً لامتنعت نهضاته جميعاً بحكم تعذر إيفاء الظرف عندئذ بما يتمتع به الغربي الحالي من حقوق لم ينلها إلا بالتدريج، وبفضل ثمرات الثورات السابقة فضلاً عن استفادته من الاستفراد بتلك الثورات وما توفره من ثروات (مثل الاستحواذ على ثروات العالم، والاستفراد بالأسواق، فضلاً عن وضع عماله الذي لم يكن مختلفاً عن وضع عمال جنوب آسيا الحالي وانعدام الديموقراطية وحقوق الإنسان إلخ .. وكلها من الوسائل التي مكنت بعض بلاد آسيا التي تخلصت من الأحكام العقدية المسبقة من أن تصبح نموراً. فالمطلوب هو تحقيق شروط النهضة قبل ثمراتها لا العكس: وذلك هو الفرق الأساسي بين دخول الآسيويين للحداثة ودخول العرب إليها. نحن دخلناها بعقلية المستهلكين مثل الغرب الحالي الذي يمكنه ذلك وهم دخلوها بعقلية المنتجين مثل الغرب الذي حقق الحداثة لا الغرب الحالي المستفيد من ثمراتها)؟
هذا الخطأ حال دون مفكرينا وفهم شروط النهوض الفاعل في جميع المجالات وخاصة في المجال الذي يشملها كلها أعني الفكر الجامع. فالغرب الذي حقق ما نراه عليه الآن ليس الغرب الحالي، بل هو غرب القرون السبعة الفارطة من الثالث عشر(إنشاء الجامعات) إلى التاسع عشر (الثورة الاجتماعية). وفي هذا الغرب لم تكن الشروط التي يتصورها مفكرونا شروطاً ويطالبون بمثيلها موجودة لكونها ليست شروطاً وعللاً بل مشروطات ومعلولات تحققت بفضل النهضة ولم تحقق النهضة. ومن ثم فقد قلب مفكرونا الآية جاعلين خصائص وضع الغرب الحالي علة ذاتها مما جعلهم يهملون البحث في الشروط الفعلية التي حققت النهضة الغربية وخاصة شروط ثورات العصر الحديث الخمس: العلمية (المبدعون من المفكرين الذين تمحضوا للعلم، فكانوا شبه رهابين في محراب الجامعات في حين أن باحثينا يستنكفون من البقاء ساعة واحدة في المكتبة مكتفين بترديد ممضوغات سطحية، يخجل منها كل من يعلم معنى البحث العلمي ما هو)، والصناعية (رجال الأعمال الذي يغامرون بثرواتهم وحياتهم في الإبداع الصناعي والتقني)، والسياسية (الحركات الثورية التي دفعت الثمن الباهظ لتحصيل الحقوق)، والاجتماعية (تكفي قراءة الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر لفهم ما كلفته الثورة الاجتماعية)، والثورة الجامعة بينها جميعاً أعني الثورة الفلسفية وخاصة منها المثالية الألمانية (كبار المبدعين لليتوبيات والتصورات الوجودية التي تبني المستقبل وتعطي للوجود معناه فتجعل الفاعلية التاريخية أمراً ممكناً مؤدية بذلك الوظيفة نفسها التي كانت الأديان تقوم بها).
وما نريد البدء به هو التوكيد على أن كل ما يعتبره المتباكون على الفكر المبدع شروطاً لم يكن كذلك، بل كان نتائج للفكر المبدع وثمرات له وبصورة مطلقة كما يبين التاريخ ذلك ودون مهرب العلاقة الجدلية. فهل كانت الديموقراطية شرطاً؟ أم إنها لم تكن إلا نتيجة يقتضيها تسيير المجتمع عندما يصبح معقداً فتتساوى فيه الوظائف من حيث الضرورة والمنزلة (هل كان لويس الرابع عشر ومؤسس ألمانيا الحديثة وملكة إنجلترا ونابليون ديموقراطيين؟) وهل كان تعميم التعليم شرطاً؟ أم هل هو لم يكن إلا نتيجة عندما يصبح التكوين عامة والتكوين المهني خاصة مطلوباً استجابة لحاجة يقتضيها سوق العمل خاصة (في بداية القرن العشرين كان عدد المتعلمين في أي بلد غربي متقدم أدنى مما هو عليه في جل بلاد العرب). ألم تصبح الجامعات والمعاهد في الحالات الأخرى مزارع للكسالى الذين لا يريدون إلا الأعمال الإدارية والرسمية كما هي الحال في جل بلادنا العربية؟ وهل كان تحرير المرأة شرطاً؟ أم ليس هو إلا نتيجة اقتضتها ضرورتان هما الحرب التي قضت على جل الرجال، وسوق العمل التي تحتاج إلى يد عاملة مضاعفة (المرأة لم تنل حق التصويت في الغرب إلا منذ أمد قصير)؟ وهل كان الفصل بين الدين والدولة شرطاً؟ أم ليس هو إلا نتيجة لما صارت علية العقيدة المدنية والترابط العضوي في تنظيمات المجتمع المدني المعقد اللذين أصبحا مغنيين في الدولة الحديثة عن اللحمة الدينية (لم يحصل ذلك إلا في نهاية القرن التاسع عشر وفي فرنسا فقط) إلخ.. ؟
لكن هذه الشروط الوهمية كلها تحولت عندنا- بانقلاب دورها من نتيجة إلى شرط- إلى حوائل دون البحث في الشروط الحقيقية التي جعلت النهضة الغربية تكون ممكنة بمحدداتها الفعلية والفكرية. ذلك أن هذه الشروط عندما تتحول إلى مطالب عقدية من دون فهم الضرورات الاجتماعية التي تقتضيها، تتغير طبيعتها فتصبح مكابح تعوق حركة النهوض. ولعل أكثر الأمثلة دلالة تعميم التعليم المجاني: فهو عندما لا يكون استجابة لحاجة حقيقية يصبح مجرد محو أمية لا تقدم المعرفة وتعطل الاقتصاد بالتكوين الرديء وتبذير الثروة الوطنية في تعميم ثقافة سطحية تشجع على الاستهلاك بدلاً من التعويد على الإنتاج والإبداع. لذلك فكل الأمور التي يؤكد المتباكون على ضرورتها للنهضة ليست- برغم أهميتها الخلقية التي لا ينكرها إلا معاند - شروطاً للنهضة، بل هي بعض ثمراتها عندما تتحقق بأسبابها ومقوماتها. وطبعاً فهذه الثمرات بعد أن تحققها شروط متقدمة عليها (وقد كانت مطلبنا في هذه المحاولة) تصبح شروطاً في ما يليها مما هو أفضل منها من المطالب التي نريدها ولكن بأسبابها.
لذلك فلا ينبغي أن يتصور المرء أننا نعارض مثل هذه المطالب الخلقية. ما نعارضه هو تصورها شروطاً في حين إنها معيقات عندما تتقدم على الشروط الحقيقية التي تجعلها ممكنة. فنحن نعلم أن الظرف قد تبدل وأن الحصول على هذه الحقوق مفيد إذا استعمل جيد الاستعمال، وأنه قد يساعد إذا صاحبه الوعي بهذه الخصائص. فهل يمكن أن يحصل العامل في بلد ليست له بعد مقومات الاقتصاد ذاتي الحركة والقدرة على معركة التنافس الدولي على الحقوق نفسها التي يحصل عليها من له وراءه تراكم ثروة وخبرة تجعله أكثر قدرة على المنافسة مثلاً، دون أن يؤدي ذلك إلى إفلاس الاقتصاد الوطني ومن ثم إلى النتيجة المعكوسة؟ وقس على ذلك غيره من المطالبين بحقوق لم ينلها الغربي إلا بعد عمل تراكم على الأقل خمسة قرون.
لذلك فنحن نرى أن ما يتصوره البعض شروطاً يمكن أن يعطل عملية تحقيق الأسباب الفعلية للنهوض الحضاري والفلسفي إذا كان غير ملائم للظرف الخاص، ولم تكن شروطه الموضوعية قد تحققت. فذلك أمر يدخلنا في معارك ليس من ورائها طائل أو هو على الأقل ليس من الشروط الأولية للنهوض. وعندئذ يصبح طلب نتائج النهضة من دون أسبابها والتضحيات الضرورية لتحصيلها حائلاً دون حصولها بشروطها. ولهذه العوائق صلة مضاعفة بمسألتنا: فهي حائلة دون شروط النهضة التاريخية المصاحبة للمشروع الفلسفي لكونها تتصور الجهد والتضحية التي دامت قروناً في الغرب يمكن أن نستغني عنها فلا نقوم بها، ويمكننا أن نتمتع بنفس الحقوق. وهي دالة على عدم وجود هذا المشروع الفلسفي الحقيقي المدرك لشروطه لكون أهم علامات وجوده هي التناسب بين الوعي الفلسفي والشروط الموضوعية التي يقتضيها الفعل المؤثر في هذه الشروط. ولعل أفضل دليل على صحة هذه القاعدة طبيعة دخول العرب واليابانيين للحداثة: فهؤلاء فهموا أن سر الحداثة في أسبابها فأتقنوها فصاروا قادرين على ربح المعركة، وأولئك تصوروا سرها في نتائجها فبقوا مستهلكين في أدنى المنتجات فضلاً عن العلوم.
وإذن فالمعنى الوحيد من تحليلنا هذا الأمر هو أننا ننفي أن تكون بعض الشروط المزعومة شروطاً حقيقية في النهوض وفي الإبداع الفكري والحضاري لكون التاريخ يبين أنها كانت نتائج النهوض وثمراته لا شروطه وأسبابه. وما كنا لنتحدث فيها لو لم يكن وجودها واعتبارها شروطاً قد حال دوننا وتحديد الشروط الحقيقية التي حاولنا تعيينها هنا، وكنا قد درسناها بإفاضة في كتاب (آفاق النهضة) وفي كتاب (شروط النهضة). كما أننا ما كنا لنبحث هذا الأمر لو لم يكن الفكر الشعبوي والديماغوجيا السياسية والمساواتية الوهمية قد حالت دوننا وتكوين قاطرات المجتمع المحركة أعني المؤسسات النخبوية شديدة الانتخاب. فالشروط الزائفة هي العلة الرئيسية في ما آلت إليه النهضة العربية الثانية بمثل هذا الفكر من دمار قضى على الثروة العربية المادية، ويكاد يأتي على الثروة العربية الرمزية باسم ثورات شعارية زائفة تهدم أكثر مما تبني.
والغريب أننا نرى أمام ناظرينا التكرار الناجح لتحقيق النهوض في جل بلاد آسيا غير الإسلامية فضلاً عن تجربة اليابان في القرن التاسع عشر يتحقق بما يماثل الشروط التي تحققت بها النهضة الغربية ولا نعي ذلك: أعني بكل التضحيات الضرورية والثمن الباهظ الذي دفعه الغرب ليحقق نهضاته الخمس التي أشرنا إليها والتي لم نحقق منها نحن أي واحدة: العلماء المتفرغون للبحث في معابد العلم والعمال الذين يعلمون أكثر من ضعف ما يطالب به عمالنا والأجور البخسة حيث تجعل جل الشركات المهاجرة تفضل الانتصاب في آسيا بدلاً من البلاد العربية التي يطالب عمالها بنفس الحقوق التي يطالب بها العامل الغربي الذي استفاد مؤخراً - بين الحربين - من ثمرات الثورات الخمس التي ذكرنا والتي ليس لنا منها أدنى واحدة فضلاً عما استفاد منه الاقتصاد الغربي أعني الاستفراد بالسوق العالمية واستغلال ثروات العالم الثالث، والعمل البخس في المستعمرات، والتجربة الطويلة في جودة الإنتاج الذي يجعله مقبولاً مع الإبداع الدائم للشروط المساعدة على النجاعة مثل التحرر من الحدود القطرية وتكوين التجمعات الاقتصادية الكبرى إلخ.. أعني كل الشروط الحقيقية التي يهملها مفكرونا العجلون.
هل يمكن إنشاء فلسفة عربية معاصرة متميزة عالمياً؟
سؤال للسعي في بناء هذا المشروع الحضاري التاريخي.
- ما الذي يحول بيننا وبين النظر العقلي الفلسفي؟
- أهو الغرب الذي نلهث وراءه في كل صغيرة وكبيرة؟
- أم طبيعة تفكيرنا غير العقلانية، أم أن لغتنا ليست لغة فكر وثقافة؟
- أم لأن المفكرين الإسلاميين قد أضاعوا الفرصة بالسعي وراء تعقيل الدين وتديين العقل؟
العديد من الأسئلة التي يطرحها هذا المشروع الحضاري.
وفي هذه المحاورة يحاول مفكران عربيان مرموقان في مجال الفكر والفلسفة الخوض في غمار هذا الموضوع الصعب، لاستخلاص أنساق فكرية، تصلح لبناء فكر عربي أصيل ومتميز.
يتناول حوارية هامة بين مفكرين عربيين مرموقين في مجال الفكر والفلسفة، يحاولان استخلاص أنساق فكرية تصلح لبناء فكر عربي أصيل متميز، يتفقان حيناً، ويختلفان أحياناً، ويقدحان زناد الفكر الفلسفي العربي الإسلامي لإنتاج فلسفة عربية معاصرة متميزة تتيح للإنسان العربي أن يتقدم بخطاً ثابتة على هدى وبصيرة.
ويقدم كل منهما بحثه مستقلاً ويقدمه للناشر، ليحيله إلى الآخر ليعقب عليه برأيه فيه.
ويدعو البحث الأول إلى فلسفة عربية متميزة، ويبين الشروط التاريخية والبنيوية التي تحدد أفق التفكير الفلسفي عامة، ومفهوم الفلسفة وما تقتضيه خاصة.
ويستقرئ التجربة العربية بسالبها وموجبها، والتجارب التاريخية العامة لحصر المحددات الظرفية.
ويذيل البحث ببيان الخطأ الذي وقع فيه المنظرون العجلون من المفكرين العرب في مسألتي الفلسفة عامة، والعربية منها خاصة.
ويعرض البحث الثاني الفلسفة وآفاقها في الفكر العربي المعاصر، فيتناول سياقها العربي التاريخي والسوسيوثقافي، والموقف العربي الراهن وموقف الإيديولوجية الشعبية الحالية منها، والشرط التاريخي لنشوء الفكر الفلسفي العربي الإسلامي، والإنتاج الفلسفي وآفاقه وشروطه في الفكر العربي المعاصر، واحتمالات إنتاج فلسفي عربي.
ويتساءل التعقيب عن كفاية المؤامرة الدينية السياسية، وبيان مفهوم الفلسفة، وأساس المشروع النهضوي، لتفسير أزمة الفكر الفلسفي العربي، والتفسير والحل المقترحين لها.
وينتهي الكتاب بتعاريف هامة، وفهارس فنية مفيدة.