أثر العرف والظروف الاجتماعية
في فهم المجتهدين لمسألة قضاء المرأة
تراجعت المرأة المسلمة عن القيام بدورها الحضاري، في العصور اللاحقة لعصر الصدر الأول والخلافة الراشدة شيئاً فشيئاً، وانعزلت المرأة عن المشاركة الميدانية في مختلف المناحي الاجتماعية. وأصبح السمت الغالب على طبقات المجتمع المختلفة، ندرة مشاركة النساء في المجالات الاجتماعية المختلفة أو عدمها مطلقاً. إلا ما كان من بروز بعض عالمات النساء، ممن قمن بدور واضح في التعليم والتدريس، بلغ حدّاً أن كان لبعضهن مجالس للتدريس والإفتاء.
ووفق ذلك الظرف العرفي القاضي بمحدودية مشاركة النساء عموماً، ظهرت تأويلات البعض من العلماء، بأن المرأة تمنع من تولي القضاء، لما في ذلك من محادثة الرجال في مجالس القضاء، وكراهية ذلك لهن، حيث أن مبنى أمرهن على الستر والحجب، كما أن المرأة ليست أهلاً لحضور محافل الرجال.
لقد جاءت تلك الاجتهادات والآراء مرآة صادقة لواقع عاشه هؤلاء العلماء الأجلاء رحمهم الله. فلم يكن المجتهد آنذاك إلا انعكاساً لما يجري في مجتمعه.
فالمرأة كانت بعيدة كل البعد عن المشاركة في المجتمع، والنزول في ميادينه المختلفة، فجاء القول بالمنع موافقاً لما ساد في تلك الأجواء والأزمنة. وهذا كله لا يمكن أن يُوجه إليه نقد أو اعتراض. إلا أن توجيه النقد يتأتى من تعميم تلك الأحكام الاجتهادية والآراء الفقهية، على مختلف المجتمعات والعصور. ومن ثمّ اللجوء إلى بعض النصوص الشرعية المتشابهة والنظر فيها وتأويلها من خلال العرف السائد، والظروف الاجتماعية المقارنة لوضعية المرأة في المجتمع، مما يساهم في تغييب معاني النصوص الأصلية، وراء تلك التأويلات والاجتهادات المتأثرة بالأعراف السائدة.
فالفكر الديني بطبيعته يحاول الاستناد في توجهاته إلى الأدلة والنصوص السابقة له، في محاولة لإضفاء الشرعية، والقبول على فكره واجتهاده وتأويله. وعلى هذا يلجأ العديد من المجتهدين إلى النصوص الشرعية المتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية في مختلف العصور والأزمان، للبحث في ثناياها عما يؤيد هذا الرأي أو ذاك، من خلال اعتبار الواقع والعرف الذي تحياه المرأة في عصورهم.
ويظهر ذلك جلياً عند التأمل في بعض تأويلات العلماء رحمهم الله لنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية. تلك التأويلات التي تعكس طبيعة النظرة السائدة حول وضعية المرأة في مجتمعاتهم. فالرازي رحمه الله في تفسيره للآية الكريمة: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 30/21] يقول: ((قوله: {خَلَقَ لكم} دليل على أن النساء خلقن كخلق الدواب والنبات وغير ذلك من المنافع، كما قال تعالى: ، خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الأَرْضِ، [البقرة: 2/29] وهذا يقتضي أن لا تكون مخلوقة للعبادة والتكليف، فنقول خلق النساء من النعم علينا، وخلقهن لنا وتكليفهن لإتمام النعمة علينا، لا لتوجيه التكليف نحوهن مثل توجيهه إلينا، وذلك من حيث النقل والحكم والمعنى، أما النقل فهذا وغيره، وأما الحكم، فلأن المرأة لم تكلف بتكاليف كثيرة كما كلف الرجل بها، وأما المعنى فلأن المرأة ضعيفة الخلق سخيفة، فشابهت الصبي، لكن الصبي لم يكلف، فكان يناسب أن لا تؤهل المرأة للتكليف، لكن النعمة علينا ما كانت تتم إلا بتكليفهن لتخاف كل واحدة منهن من العذاب، فتنقاد للزوج وتمتنع عن المحرم، ولولا ذلك لظهر الفساد))!!.
فقول الرازي رحمه الله وغيره من علماء أفاضل يعكس واقعاً وعرفاً سارياً في عصره وزمانه، كانت المرأة تعيش فيه حالة من الضعف، لم يسبق لها مثيل في عصور الرسالة والخلافة الراشدة مطلقاً.
وتعكس أقوال العديد من العلماء تلك الحالة وتصورها أبلغ تصوير، وعلى هذا رأوا منع المرأة من تولية القضاء. فالقضاء من الولايات التي تشتد فيه الحاجة إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة، والمرأة ناقصة العقل قليلة الرأي لحقائقها، كما أنها ليست في ورد ولا صدر من ذلك.
وعلى هذا لجأ بعض المفسرين إلى تأييد ذلك بتأويل بعض النصوص، ومن ثمّ القول بالمنع وتعضيده من خلال ذلك التأويل. ويتضح ذلك جلياً في عباراتهم الدائرة، حول أفضلية الرجل في ذاته، ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال، وكذلك الملك الأعظم لحديث: ((لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة))، وكذا منصب القضاء وغير ذلك، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه، وله الفضل عليها والإفضال.
والملاحظ على تلك الآراء أنها أوّلت نص الحديث، وفق تلك النظرة السائدة في المجتمع. وعلى هذا ذهبوا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بعدم فلاح المولّين الأمر للمرأة، وأن تجنب ذلك واجب، فالمرأة ليست من أهل الولايات، ولا يحل لقوم توليتها، لأن تجنب الأمر الموجب لعدم الإفلاح واجب. وقد ردّ ابن حزم ذلك، واعتبره في الولاية الكبرى فقط أي الخلافة أو الرئاسة.
إلا أن بعض المعاصرين ذهبوا إلى أن الحديث وارد في سياق الإخبار والبشارات للمسلمين، وليس في سياق استنباط الأحكام الشريعة منه، وهو في قوم فارس كذلك.
ولا تروم الدراسة الوقوف عند ترجيح هذا الرأي أو ذاك، بقدر ما تروم الكشف عن دور الأعراف والنظرة الاجتماعية السائدة، حول وضعية المرأة في توجيه مسار تأويل النصّ والآراء المثارة حوله من قِبل المجتهدين. كما تروم الكشف عن مديات تأثير تلك الأوضاع على المجتهدين، في محاولاتهم لتأييد توجهاتهم وآرائهم من خلال اللجوء إلى النصوص تارة، وإلى أقوال السابقين تارة أخرى.
واستند القائلون بالمنع إلى قاعدة الترك العدمي، وهو أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، أو يتركه السلف الصالح من غير أن يأتي حديث أو أثر فيه نهي أو تحذير عن ذلك الشيء المتروك يقتضي تحريمه أو كراهته، فيلجأ المجتهد إلى القول بردّ الفعل أو الحكم بناءً على ذلك. فالنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه من بعده لم يولّوا امرأة منصب القضاء. كما ولّى الخلفاء الراشدون ومن أتى بعدهم رجالاً كثيرين على أعمال القضاء، ولم يعينوا امرأة واحدة على القضاء.
والاستناد إلى هذه القاعدة لا يخلو من نقد، فقاعدة الترك العدمي (أو الترك غير المقصود) من القواعد التي كثيراً ما يلجأ إليها المنكرون، فيحتجون بها على ردّ الفعل المحدث، ويحكمون بها على بطلانه من غير إرجاع إلى القواعد، وإجراء على الأصول للنظر والقياس، فغاية حجتهم، أنهم يقولون هذا العمل لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن من عمل السلف، وعليه فهو حرام أو بدعة أو ضلالة، لأنه مخالف لكتاب الله وسنة رسوله. وكون أنهم لم يفعلوا الفعل ليس بدليل بل هو عدم دليل، والتحريم أو المنع لا يكون إلا بدليل أو بورود نص يفيد النهي عن الفعل أو الإنكار.
لقد لعبت الأعراف والأوضاع السائدة دورها في طريقة تناول المجتهد، وحكمه على القضايا المختلفة. بل وألجأتهم في كثير من الأحيان - بحسن نية وقصد - إلى حدّ تأييد تلك الأحكام بأدلة ضعيفة، لا ترقى إلى مستوى الاستدلال بها في موضع النزاع.
في الوقت الذي كان من الممكن تجاوز تلك الإشكالية في دوائر الفكر الديني، من خلال إعطاء تلك التأويلات والآراء الاجتهادية حيزها الطبيعي، فهي في نهاية الأمر لا تخرج عن كونها آراء واجتهادات بشرية محدودة، بطبيعة الظرفية التاريخية والمكانية والزمانية التي ظهرت فيها. فهي وإن علت منزلة أصحابها، إلا أنها لا ترقى إلى حدّ العصمة والإطلاقية ومفارقة الزمان والمكان. تلك الخصائص التي لا تكون إلا لنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة.
ويظهر دور الأعراف والظروف الفكرية والاجتماعية بشكل أبرز في هذه القضية، لدى العديد من الكُتاب المعاصرين. فقد تمّ طرح المسألة من قِبل الجمعيات النسائية في مصر على وجه التحديد. وطالبت بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة، وتمّ عقد مؤتمر في عام 1944 م بدار الاتحاد النسائي المصري بالقاهرة.
ومن أهم ما دعا إليه المؤتمر مطالبة الحكومات العربية بالعمل على المساواة تدريجياً بين المرأة والرجل في الحقوق السياسية، وتعيين المرأة في الوظائف التي يشغلها الرجل المتساوي معها في الشهادات والمؤهلات.
ولاقت تلك الدعاوى ردود فعل عنيفة من قِبل المصلحين في العالم الإسلامي، وذهب علماء الأزهر رحمهم الله في عام 1952 م، في فتوى صادرة لهم، إلى أن الإجماع كان منعقداً على بطلان ولاية المرأة للقضاء، وإثم من يوليها، فلا يعتد برأي من جوز توليتها القضاء بعد انقراض عصر المجمعين من غير دليل معتبر.
إن محاولة تفهم الأوضاع الاجتماعية السائدة آنذاك، والأعراف المصاحبة لطرح تلك القضية، يمكن أن يكشف لنا عن مديات تأثيرها في هذه القضية. فقد رأى علماء الأزهر رحمهم الله وغيرهم من المصلحين في ذلك العصر، أن التمسك بالمنع والدفاع عنه هو الطريق السليم لوقف هجمات التيار النسوي الداعي إلى المساواة بين الرجل والمرأة مطلقاً على النمط الغربي الوافد. وازدادت حدة الأوضاع والظرفية التاريخية إلى الحدّ الذي حدا بهم إلى القول، بوقوع الإجماع على عدم تولي المرأة القضاء، والتخلص من وطأة التيارات والأعراف السارية، المطالبة بالمساواة والتحرر، التي امتد أثرها في ذلك الوقت.
فالقول بالإجماع في مسألة قضاء المرأة أمر تردّه أقوال العلماء الذين أجازوه كالحسن البصري والإمام الطبري وابن حزم رحمهم الله. كما يردّه ما ذهب إليه الحنفية إلى أن المرأة تقضي في غير حدّ ولا قود.
يقول الشوكاني رحمه الله في ذلك:
((إذا خالف أهل الإجماع واحد من المجتهدين فقط، ذهب الجمهور إلى أنه لا يكون إجماعاً ولا حجة، قال الصيرفي: ولا يقال لهذا شاذ، لأن الشاذ من كان في الجملة ثم شذَّ كيف يكون محجوجاً بهم، ولا يقع اسم الإجماع إلا به، قال: إلا أن يجمعوا على شيء من جهة الحكاية، فيلزمه قبول قولهم، أما من جهة الاجتهاد فلا، لأن الحق قد يكون معه)).
فالإجماع المشار إليه من قِبل العلماء ليس له ما يؤيده من الناحية الأصولية. وتبقى الظرفية التاريخية والاجتماعية، وراء تلك الآراء والتوجهات. فشيوع فكر المساواة والدعوة إليها وفرضها بالنمط الغربي الوافد على المجتمعات المسلمة، التي غلبت عليها عوامل الضعف والتراجع في كافة الأصعدة.. كل ذلك أسهم في بروز تلك الفتاوى والأحكام الاجتهادية.
فالتأويلات والأفهام البشرية لأي نص حصيلة ثلاثة عناصر متضايفة:
- النص ذاته.
- الموروث الثقافي لقارئ النص.
- المجتمع بظروفه المتقلبة المتغيرة.
ولا تخرج تلك التأويلات والاجتهادات البشرية في فهم النصوص، عن كونها اجتهاداً بشرياً محكوماً بنسبية الزمان والمكان والأوضاع الاجتماعية، والأعراف المقارنة لظهوره.
جاءت الشريعة الإسلامية والكثير من الأعراف البشرية متأصلة في النفوس، فسلكت معها مسلكاً حكيماً يتسم بالتدرج وعمق المعالجة، وحددت إطاراً عاماً، لم تسمح لتلك الأعراف بتجاوزه مهما بلغت درجة قوتها في النفوس؛ فأبقت على الأعراف الموافقة للتعاليم السماوية، وبنت على بعضها الكثير من الأحكام، في حين استبعدت ما خالف الشرع بحكمة وروية.
ولقد اختلف العلماء في موضوع الأعراف من خلال استنباطهم للأحكام في حالة غياب النص.. كيف كان ذلك؟
يحاول هذا الكتاب إضافة نوعية في دراسته للعرف وما ينبني عليه.
أثر العرف في فهم النصوص (قضايا المرأة أنموذجاً)
تأليف: دة. رقية طه جابر العلواني
يتناول هذا الكتاب قضية أثر العرف في فهم النصوص، ويتخذ من قضايا المرأة أنموذجاً للدارسة.
ويدرس العرف في الدراسات الأصولية والاجتماعية، فيبين أركان العرف، وتقسيماته وأنواعه وحجيته بين العلماء، ومفهومه في الدراسات الاجتماعية.
ويوصّف الحالة الاجتماعية والأعراف المتعلقة بالمرأة في العصور الإسلامية المختلفة، في عصر الجاهلية، وفي عصر الرسالة والتشريع والعصر الراشد، وعصر الأئمة المجتهدين والمذاهب الفقهية، أي عصر التنوع في الفهم والتفسير، وفي عصر التقليد والركود الفكري، أي عصر النظرة الأحادية المذهبية واستعادة وحدة الفهم والتأويل، وفي عصور التقليد المتأخرة، أي عصر التنوع الثاني.
ويكشف في نماذج وأمثلة عن أثر العرف في فهم النصوص المتعلقة بقضايا المرأة، ويقدم موضوع ميراث المرأة في الإسلام نموذجاً، ويوضح فلسفة قانون الميراث في الشريعة الإسلامية، وأثر العرف والظروف الاجتماعية في تأويل نصوص ميراث المرأة، ويعرض لنموذج شهادة المرأة في الإسلام، فيبين مفهوم الشهادة وشروطها، وأثر العرف في فهم النصوص الواردة في شهادة المرأة، ويقدم قضية ولاية المرأة القضاء نموذجاً، فيبين مفهوم ولاية القضاء، وحكم تولي القضاء، وأثر العرف والظروف الاجتماعية في فهم المجتهدين لمسألة قضاء المرأة.
ويتضمن معالم وضوابط في فهم النصوص، فيبين تاريخية التأويل في الأديان وإشكاليته في الفكر الديني الإسلامي، وضوابط فهم النصوص، وشهادة المركز، ومراعاة مقاصدية النصوص وضبطها، وضبط موقع العقل من النص.