لماذا يتغذى العنف على الإسلام؟
وبالرغم من أن العنف نفسه لم يكن في تاريخه قاصرًا على ديانة دون أخرى، فضلا عن العالم الإسلامي -وليس الإسلام-، وكذلك "العمليات الانتحارية" قد وجدت سابقًا - وابتداء - لدى فئات غير إسلامية أصلا، بالرغم من ذلك كله، هنالك سؤال من المهم معالجته، وهو لماذا يتغذى العنف الآن على الإسلام أو الثقافة الإسلامية؟ ولماذا يبدو قاصرًا على المسلمين تحديدًا؟ وفي الواقع، إن هذا السؤال له صلة ما بتفسير العنف نفسه، فالذين يقولون بأن العنف أصيل وتكويني في الدين الإسلامي، يبدو السؤال لديهم لا قيمة له، في حين أن السؤال هنا يُطرح لبيان فساد معتقد وتصورات هؤلاء القائلين بالتفسير الديني، وأن أحد عوامل وقوعهم في هذا الخطل والجناية على الإسلام هو تلبس العنف بالإسلام، أو بتعبير أدق: اتخاذ العنف صيغة إسلامية عقدية مع القاعدة وغيرها من التنظيمات الأخرى.
ومن المفيد أنني لست وحدي الذي أطرح هذا السؤال لأجيب عليه، وإذا كنت أطرحه بدافع إنصاف الإسلام من هذا الخلط، فإن أوليفيه روا مثلا طرحه ليؤكد تفسيره للإرهاب بأنه شعار مناهض للإمبريالية، فهو بهذا معني أيضًا بالإجابة على السؤال: "لمَ يتغذى الشعار المتطرف المناهض للإمبريالية من المراجع الإسلامية؟"[(161)].
أحال روا تفسيره إلى التهميش الاجتماعي؛ فبعض العوامل الاجتماعية - كما يرى - "تلعب دورها في هذا المجال، فالمناطق المعزولة اجتماعيًّا (الضواحي والأحياء الفقيرة) تكتظ بسكان من أصل مسلم، كما أن الشرخ بين الجنوب والشمال يجتاز بلدانًا وشعوبًا مسلمة، ويؤدي الارتداد إلى الإسلام دور اكتساب هوية معارضة"، لكنه ما يلبث أن يعترف بقصور هذا التفسير، لأن أسلمة الضواحي الأوربية ظاهرة هامشية، كما أن عددًا من المناضلين كبن لادن والظواهري غير مهمشين اجتماعيًّا واقتصاديًّا. وأمام هذا الواقع، يلجأ روا إلى إحالة التهميش هنا إلى الدين نفسه، فيرى "أن هذه الأصولية هي ثمرة تحول الإسلام المعاصر إلى دين هامشي أقل ما يقال عنه إنه واضح وجليّ"[(162)] في ظل تراجع الحركات الإسلامية عن العالمية، مع تحولها إلى حركات إسلامية - قومية وإعادة صياغة أيديولوجيتها لدخول اللعبة السياسية. وروا يفرق هنا بين "الراديكالية الدينية المرتبطة بالهجرة وبالتثاقف وتغيير الهوية من جهة، والعنف في الشرق الأدنى من جهة أخرى، الذي ينشد وحدة الدول العربية ويدعم اللاإمبريالية والعالمثالثية، اللتين تكنان العداء للولايات المتحدة الأميركية على خلفية أنها تقدم دعمًا غير مشروط لإسرائيل" ليصل إلى فكرة أن النزعة القومية - وليس الإسلامية - هي التي تهدد النظام المصري والعائلة المالكة السعودية!.
لا تبدو إجابة وتحليل روا متماسكًا ومنطقيًّا، فالإسلام دين عالمي رغم انشغال الحركات الإسلامية بخصوصياتها الوطنية، لأن مشكلاتها وعوائقها على المستوى الوطني من التعقيد بحيث لا تسمح لها بالتفكير بالعالمية في المرحلة الحالية، كما أنه ليس من المنطقي الحديث عن عالمية قبل النجاح على المستوى الداخلي، ليتم البناء عليه. وفضلا عن ذلك فإن عالمية الدين منفصلة عن عالمية حركة أو حركات إسلامية. فالدين الإسلامي ديانة عالمية وهو ثاني أكبر ديانة في أوربا والغرب، وثقل المسلمين الديمغرافي أصبح يقلق الحكومات الغربية واللوبي الصهيوني، وهذا ما يفسر الإلحاح على ضرورة إدماجهم بأشكال مختلفة. ففكرة قومية الحركات الإسلامية فيها تبسيطية شديدة، فهل يمكن القول مع روا إن حركة الجهاد في فلسطين هي حركة إسلامية قومية لأنها منشغلة فقط بتحرير فلسطين؟! إن أساس نظرية التغيير أصلا أن لا تنشغل الحركة بإطار يفوق قدرتها وطاقتها، فهو يخلط بين حركة التحرير الوطنية وبين الحركات الأخرى، ومن شأن حركة التحرير ألا تنقل الصراع خارج أرض المعركة، فضلا عن أن واقع التقسيم القطري وتعقيداته اقتضت ذلك.
ثم إن بن لادن وتنظيمه ليسا حركة عالمية ولا قومية، بقدر ما هو تنظيم ينطلق من مسلمات عقدية ويستميت من أجلها، في ظل سياق سياسي إقليمي ودولي بدءًا من أفغانستان لإحياء فكرة الجهاد ونصرة المسلمين، وانتهاء بالوجود الأمريكي في الجزيرة العربية الذي اعتبره غزوًا ومخالفًا لنصوص دينية اعتبرها تنهى عنه، وفي ظل وجود أزمة مع النظام السعودي القائم أيضًا.
وحين حاول فريتس شتيبات أن يشرح الدور السياسي للإسلام، رأى أنه "من الطبيعي -إزاء تلك التبعية للقوى الأجنبية وخيبة الأمل في التصورات والأفكار الأجنبية- أن يتوجه الناس إلى المألوف لديهم، ويستمدوا القوة من منابعهم ويلتمسوا السند في ما هو خاص بهم، وذلك على نحو ما عبر عنه المستشرق فالتر براونه في كتابه عن الشرق الإسلامي بين الماضي والمستقبل. هذا المألوف وهذا السند الخاص بالنسبة للشعوب الإسلامية هو الدين الإسلامي.
وليس هذا شيئًا جديدًا على الجماهير العريضة، إذ كان الإسلام دائمًا هو العلامة الأساسية المميزة لهويتها الجماعية، وكان الانتماء للجماعات الدنيوية الأخرى كالوطن أو الطبقة أمرًا ثانويًّا يضاف للانتماء الإسلامي. أما الشعوب التي لا توجد بها أقليات دينية تستحق الذكر، فيلتقي عندها الوعي الوطني والهوية الدينية في وحدة واحدة، ويصدق هذا أيضًا على الوعي الطبقي خصوصًا عندما تبدو الطبقات العالية متغربة ومنبتة عن الإسلام"[(163)].
إن ما يشير إليه شتيبات وأستاذه فالتر براونه (ت1989م) مهم في فهم الإطار العام لانتساب كل أشكال الاحتجاج إلى الإسلام. وقد قلت إن أي تنظيم عنفي لا يمكن أن يزهد - مثلاً - بالتراث الذي تركه سيد قطب رحمه الله، وإن كان سيد المفكر والأديب لم يمارس عنفًا قط. فالعنف في البيئة الإسلامية لا بد أن يحمل خصائصها فيأتي تعبير هؤلاء الأفراد من خلال منظومة المفاهيم التي يعتقدونها، فضلاً عن أن هذا اللجوء لما هو مألوف ليس فقط لكونه يشكل المرجعية الثقافية لهؤلاء، بل لأنه كذلك يشكل القاعدة الأساسية التي يمكن أن تجلب المشروعية لهم والتعاطف الشعبي معهم. ومما يشغل حيزًا مؤثرًا هنا، هو الدخول في التفاصيل، فعامة هؤلاء الذين يمارسون هذا العنف ليسوا من متخصصي العلم الشرعي، وكثير منهم - وخاصة تنظيم القاعدة - جاء من تخصصات علمية تجريبية، وبعضهم آل إلى الالتزام الديني بعد تسيب، وهذا في مجمله يحيل إلى بعض الدلائل من حيث إن مسائل الجهاد هذه والتعامل مع النصوص وفهمها في ضوء واقعها الفقهي القديم، ثم الاجتهاد في كيفية تنزيلها على واقع مختلف كليًّا في ظل نظام دولي معاصر، وفي ظل أنظمة مربكة في تصنيفها بناء على المعهود فقهيًّا، كل ذلك يحتاج إلى متخصص هضم هذه المسائل والعلوم المتصلة بها، فضلاً عن أن طبيعة التشدد المغلق والمغالاة إنما تنشأ من هؤلاء غير المتخصصين، والذين التزموا دينيًّا في مرحلة متأخرة، فتكون لحظة التحول بالنسبة لهم فارقة ومعاكسة بشدة، تساوي في تشددها اللحظة الأولى في الانفلات والتسيب.
كما أن التراث الفقهي مليء بالأفكار التي يمكن أن تشكل مصدرًا ثريًّا لهؤلاء في الاحتجاج وتوفير الغطاء الشرعي لممارسة عنفهم، بغض النظر عن صحة هذا التطبيق أو موافقته لواقع الفقه وشروطه أم لا. ولو رصدنا ملامح وسمات فقه العنف لوجدنا أنها تتلخص في معرفة فقهية منقوصة ومغلقة في آن واحدٍ، ويمكن قراءة ملامح ذلك في الآتي:
* الاجتزاء الواضح لبعض النصوص الدينية من دون استكمال الرؤية الكلية في إطار كليات الوحي ومقاصده.
* لاعقلانية مفهوم "الفقه" في تصور هؤلاء حين يبدو لديهم "تعبديًّا" خالصًا؛ فلا يبدو أن هناك أهدافا محددة يريدون تحقيقها سوى أفعال طائشة تحت مسمى "المتاح" و"الممكن"، والهدف المعلن "النكاية" بالعدو والانتقام لما يفعله في فلسطين أو العراق ... وهنا لا مجال للحديث عن المصالح والمفاسد، والمآلات، والذرائع، وحساب مستويات الضرر الناتجة؛ ليكون الهدف هو الفعل لأجل الفعل فقط!.
* يبدو أن أصحاب هذه الأفعال والمشرّعين لها يتعاملون مع "الفقه" وكأنه مسائل اعتقادية يقينية حدية واحدية؛ فتستباح بها دماء المسلمين بقرار فردي بحجة أنهم يصابون بـ"التبع" لا أصالة! هذا إذا تجاوزنا كل الإشكالات القبلية السابقة على هذا الإشكال.
* يتم تجاهل الفارق بين القضايا التعبدية الشعائرية الدينية الخالصة وقضايا "الجهاد" والشأن العام التي تجمع الديني إلى السياسي، وتتطلب معالجة مركبة، ولها بابها الواسع في الشريعة الإسلامية، وليست رهينة تصرفات فردية لأفراد أو تنظيمات، خصوصًا حينما يطاول الأمر الدماء والشأن العام للإسلام والمسلمين.
شكّلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م صدمة عالمية أثارت جدلاً كبيرًا على المستويات كافة، الثقافية منها والسياسية والدينية والفكرية، ونشطت في ظل ذلك العديد من المقولات والصور النمطية، كما أحدثت انقلابًا في العلاقات الدولية وبناء التحالفات وتحجيم عدد من المفاهيم التي تعارف عليها النظام الدولي ما قبل ذلك التاريخ، ولعل من أبرزها مفاهيم السيادة الوطنية واستقلال الدول وتحديد العدو الذي تقوم فكرة الحروب الدفاعية ضده، وغير ذلك حتى تحولت الحرب إلى حرب أفكار، والحروب الدفاعية إلى حروب استباقية، ومن ثم فقد أحدث ذلك وما نتج عنه تغيرات كبيرة على مستويات عدة. فعلى المستوى الثقافي والفكري نشطت مقولات الطبيعة الثابتة للإسلام، وللعرب كذلك، وتم استحياء الإرث العدائي - الذي ساد في ظل الحروب الصليبية - ضد الإسلام، وفي المقابل شهدنا حضورًا كثيفًا لمقولة الحرب الصليبية على الإسلام، التي يتزعمها "الغرب"، الأمر الذي استدعى إحياء تلك التصورات السلبية عن الغرب، بعمومه، الذي يبدو في المخيلة العامة كلاًّ متجانسًا ويخوض حروبًا دينية تجاه الإسلام!.
المحور الذي دار من حوله كل ذلك الجدل وتلك التغيرات، كان - ولا يزال - هو موضوع الإرهاب والعنف، وبسببٍ منه دار جدل كبير حول تجديد الخطاب الديني وتعديل مناهج التعليم في عالمنا الإسلامي، وإعادة بناء التسامح وغير ذلك. ومع أنه كُتب الكثير عن العنف والإرهاب، فإن الموضوع لا يزال بحاجة إلى رصد وتحليل وفق منهجية مختلفة عن ذلك كله، منهجية مركبة تقوم على تفكيك المفهوم نفسه، وتشريحه لإظهار مكوناته جميعها، وفحصها ودرسها، ورصد مراحل تشكلها وعوامل تشكيلها، والتفاعلات التي نشأت من حولها، وكيف تمت قراءتها؟ سواء في العالم الإسلامي أم في العالم الغربي، وفي سؤال المفاهيم يكمن الكثير من المشكلات، ومن ثم فقد حظي ذلك باهتمام بارز في هذا الكتاب، بدأ بتحرير مفهومي الحرب والجهاد والفوارق القائمة بينهما، ثم الجهاد والعنف، ومشكلات الوصل والفصل بينهما، وصولاً إلى الحديث عن عبثية جهاد تنظيم القاعدة الذي تسبب في كثير من هذا الجدل.
والأمر لا يقتصر على مشكلة المفاهيم - على مركزيتها - بل يتعداه إلى موضوع الجهاد وتطبيقاته في العالم المعاصر، وتحديدًا كيفية تطبيقه في ظل الدولة الحديثة، والمشكلات التي تحيط به جراء مَوْضَعَته في بناء مفهومي وسياق يكاد يكون مختلفًا كليًّا عن البيئة التي تَشَكل فيها وشكلت رافدَ فاعليته وأحكامه، فكيف يمكن تطبيقه في ظل الدول القطرية، بعد أن كان مرتهنًا لمفهوم "دار الإسلام" الواحدة؟ وكيف يتم تنظيمه في ظل إدارة تلك الدولة العلمانية في الأعم الأغلب، والتي ترتهن لنظام دولي يديره ويهيمن عليه تلك الأطراف التي يشكّل بعضها هدفًا لموضوع الجهاد نفسه؟ بل كيف يمكن تطبيقه في ظل التحولات التي طرأت على قيادة الدولة القطرية ووظيفة الدين فيها، ومع اختلاف وسائلها وبناء تحالفاتها ورسم الحدود القطرية ومفاهيم السيادة والاستقلالية التي تمركزت حول المصالح الخاصة بتلك البقعة الجغرافية فقط على حساب ما كان يعرف قديمًا بالأمة الإسلامية على المعنى السياسي.
تلك التعقيدات دفعت إلى نشوء الجهاد ضد الداخل أولاً كمقدمة للجهاد ضد الخارج لدى فئة من تلك الجماعات العنفية، في حين انشغل بعضٌ آخر بجهاده العالمي العابر لتلك الحدود القطرية المصطنعة، والتي لا يعترف بها، ويتحرك بناء على مفهوم "الأمة الإسلامية" سياسيًّا وعقديًّا، لكن بعضًا ثالثًا ذهب إلى إجراء تعديلات على مفهوم الجهاد نفسه، فنشأ ما سُمي بالجهاد المدني والذي يبدو قولاً مبتكرًا من جنس النظام الجديد الذي يقوم على فكرة الدولة القطرية. وقد خصصنا لبحث هذا فصلاً خاصًّا.
على الجهة المقابلة لعالمنا، طُرِح العديد من الأفكار والمقولات التفسيرية لما سمي بـ"الإرهاب الإسلامي" حتى شكَّل تاريخ 11 سبتمبر 2001م علامة فارقة في سوق الكتب الغربية على وجه الخصوص، ومن ثم انشغلتُ في القسم الثاني من هذا الكتاب، بمعالجة موضوع "الإسلام والإرهاب" وتم فيه حصر الرؤى والأطروحات المتداولة في المجال الغربي، في حدود معرفتي ومتابعتي لها، مع صوغها في نماذج تفسيرية كلية، ثم ربطها بأصولها وخلفياتها الفكرية التي تشكل الأطر الحاكمة لتلك الرؤى والتفسيرات، وعلاقة تلك النماذج التفسيرية للإرهاب بالأطروحات الاستشراقية والأنثروبولوجية البارزة. وستكون تلك النماذج حاصرة للرؤى والأطروحات، وشاملة للسياسة والثقافة والدين والاستراتيجيا، بحيث يكتمل المشهد الغربي مع الحرص على إبراز التنوع في تلك الرؤى، حتى نتجنب الأحكام التبسيطية والاختزالية.
إن حصر الأطروحات الغربية في هذا المجال، من شأنه أن يتناول العديد من القضايا الحيوية ذات الصلة بموضوع الإرهاب، بدءًا بما يثيره المصطلح ذاته والمصطلحات المطوّرة عنه أو المنبنية عليه (مثل "الإرهاب الجديد"، "فرط الإرهاب")، ومحاولات إحالة الإرهاب إلى جذور دينية عقدية إسلامية، ومقولات مثل محضن الإرهاب، والطبيعة العنفية، وسؤال التفسير، والعلاقة بين الجهاد والإرهاب، فضلاً عن معالجة أسئلة مهمة لا محيد عن طرحها، نحو: لماذا يعد الإسلام مبعثًا للعنف؟ ولماذا يتغذى العنف على الإسلام؟ وما علاقة أحداث 11 سبتمبر بالحداثة والعولمة، إلى غير ذلك من القضايا والإشكالات التي يفرضها الموضوع وتفريعاته من قبيل كيفية تفسير تناقضات السياسة الأمريكية في التعامل مع ما سمته الأصولية، والآن الإرهاب، وتحديدًا تنظيم القاعدة والجهاد الأفغاني، وتفسير ذلك في ضوء أدلجة العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية وحدود مراعاة الأيديولوجيا في السياسات الخارجية.
الإضافة الأهم التي سنقدمها في هذه الدراسة تتمثل في حصر الرؤى والأطروحات الغربية الكثيرة والمتزاحمة، وصوغها في نماذج تفسيرية كلية شاملة، ووضعها في سياق متصل يساعد على فهمها والربط فيما بينها، تمهيدًا للوصول إلى خلفياتها الفكرية والأيديولوجية التي تتحكم بها . ليتم بعد ذلك محاولة الإجابة على سؤال بالغ الأهمية، يتمثل في أسباب استعصاء الفهم الغربي للظاهرة الإسلامية بشكل عام، وللممانعة الإسلامية بشكل خاص ، والتي يتم وسمها بأسماء شتى، كالأصولية والإسلام السياسي، والإرهاب الإسلامي، إلى آخر القاموس الذي لا ينتهي. بل إن "جميع الكلمات المشوشة مثل الإحيائية أو الإصلاحية أو الأصولية هي مصطلحات استُحضرت بشكل استبدادي من اللغة الإنجليزية؛ فهذه الكلمات لا تصف - ولا يمكن لها أن تصف - الدرجات المتفاوتة للاجتماع والاحتجاج الإسلاميين"[(2)]، وهذا ما يفرض التركيز على تنوع الإسلام وتعقيده في نقد التفسيرات التي تجعل منه كلاً متجانسًا بسيطًا، أو أن المسلمين بمنزلة رجل واحد أصولي إرهابي عنفي!.
بقي أن تسمية "الغضب الإسلامي" اختيرت بعد تأمل، لتعبر بوضوح عن عدم تكوينية العنف في المجال الإسلامي، وأنها "حالة" عابرة، أثارتها عوامل عدة، ويمكن لها أن تهدأ بتهيئة أسباب الرضا، وإزالة عوامل الاستفزاز، فالكتاب يبين بوضوح أن تفسير الظاهرة يكمن في تحليل مركب، على مستوى الفكر الإسلامي، وفي سياق تفاعله مع التحولات العالمية، ومن التبسيط المخل قصرها على مجرد فئة ضالة انحرفت، أو ظاهرة إسلامية أيديولوجية مع تجاهل حركة العالم، والنظام السياسي الداخلي وتفاعلاته أيضًا ، بمعنى أن العنف المسلح هذا إنما ظهر في ظل "الدولة" القطرية، وعلاقتها بالداخل المجتمعي وبالخارج الغربي، وموقفها من الدين وحركته ودوره في حياة المجتمع وسلوكياتها تجاه أهدافه العليا. وهكذا تتم قراءة نشوء مفهوم الجهاد ضد الداخل أولاً، ثم تحول الاستراتيجية إلى الجهاد ضد العالم تحت عنوان "الجهاد ضد الصليبيين واليهود" لاحقًا.
آمل أن تقدم هذه الدراسة مساهمة ذات بال، في موضوعها ومجالها، وأن تشكل إضافة للمكتبة العربية، والله ولي التوفيق.
معتز الخطيب
الدوحة-2006