لا يتعيّن أبدا ً في مسائل من هذا النوع، أن نلجأ إلى نكران أي أثر للطائفية كمشاعر حقيقية، لأن ما من بلد في العالم، يمكن أن يزعم أن مجتمعه " معقم " تماما ً منها. وبدلا ً من ذلك يتوجب فهمها منظور جديد.إن محاولة فهم العلاقة بين الحرب والطائفية، كما تجلت في التجربة العراقية بعد الاحتلال الأمريكي وعلى وجه التحديد، أحداث عام 2006 حين اندلعت على نطاق واسع في معظم المدن أعمال عنف وقتل في أعقاب تفجيرات سامراء، ُأحرقت خلالها مساجد المسلمين من أهل السنة والشيعة على حد سواء، وتمّ تهجير نحو خمسة ملايين عراقي من منازلهم وأحيائهم السكنية إلى داخل وخارج البلاد؛ تتطلب أن نتعرّف بعمق على طبيعتهما وتحديد إطارهما المفهومي، فما جرى لم يكن حدثا ً عابرا ً يمكن التغاضي عنه، ولم يكن كليا ً أيضا َ، وبصورة نهائية من " إنتاج " قوى اجتماعية ارتطمت مع بعضها البعض فجأة.ما حدث كان النتيجة المنطقية لسلسلة عوامل وبواعث وتفاعلات،اختلطت فيها السياسة بالدين، والمشاعر الطائفية التقليدية بالهلع من الأخر جراء انهيار البلاد. إن الحرب هي التجليّ الأعلى للعنف، ذروته وتجسيده في آن واحد، ولنقل أنها أداته كذلك، إذ لا تعني الحرب أي حرب، شيئا ً إذا لم تكن هي العنف في ذروته، وتكون متلازمة ومقرونة بالعنف.إنها تصبح حربا ً، فقط حين تصبح هي ذاتها نوعا ً من عنف قابل ٍ للتشظيَ إلى أجزاء،تضرب في كل مكان دون تمييز. وبهذا المعنى يصبح ُ العنف ُ نفسه أداة ً تستخدمها جماعات ٍ مأزومة ٍ، أدركت أنها لن تتمكن من حل تناقضاتها بسهولة دون اللجوء إلى توظيفه واستخدامه.وفي الحالات التي يصل فيها المجتمع إلى لحظة الصدام الداخلي،وتتطلع قوى اجتماعية فيه إلى حسم تناقضاتها مع جماعات أخرى بواسطة القوة؛ فإن الطائفية-في هذه الحالة- لن تكون سوى وسيلة من وسائل توظيف واستخدام العنف.ولذلك فليست الطائفية بالضبط تجسيدا ً للطائفة،أو تعبيرا ً عنها، كما أنها ليست مرادفا ً لها( أي أننا لا نستطيع القول أن الطائفية تعني الطائفة؟) وهي ليست، تماما ً تجسيدا ً لثقافةً ومشاعر الجماعة المأزومة، أو تلك التي وجدت أن صدامها مع جماعة أخرى بات أمرا ً محتوما ً، فانزلقت إليه بسبب عوامل داخلية وخارجية.وفي الواقع، ليست الطائفية سوى منظومة معقدة من المشاعر والترابطات الوجدانية الاجتماعية والمذهبية، ومن الثقافة الشعبية التقليدية كذلك،وهي تجمع بقوة حضورها التقليدي في الحياة اليومية وشكليا ً،بين أفراد ينتمون إلى مذهب ديني واحد، ولكنهم ينتمون عمليا ً إلى طبقات اجتماعية ومصالح مادية وعقائد متناقضة ومتصارعة. بكلام آخر، إن جماهير الطائفة هي مواد اجتماعية متحللة من طبقات اجتماعية مختلفة، لا ترتبط ، بعضها مع بعض بمصالح مادية أو ثقافة مشتركة، ولكنها ترتبط مع بعضها البعض برابطة هشة هي مزيج من المشاعر والثقافة الشعبية والروحية الراسبة والمستمرة. إن عامل المصنع، الشيعي مثلا ً، لا يستطيع أن يحمي نفسه من بطش ربّ العمل( الشيعي) لمجرد تذكيره، بأنهما معا ً ينتميان إلى مذهب واحد، كما أن صاحب المصنع السني لا يتوقف عن اضطهاد واستغلال العامل السني لأنه "سني".إن المشاعر والروابط الثقافية " الطائفية " التي تجمع الموظف في شركة ما، بمالك الشركة، لا تلعب أي دور في الصراع بينهما، كما أنها لا تصبح عاملا ً في تحديد شكل العلاقة مع موظف من مذهب آخر.وعلى هذا النحو تغدو الطائفية منظومة ترابطات شكلية منفصلة كلية عن التعارض أو التوافق مع المصالح. ولذلك لن يتمكن العامل الشيعي أن يجمع إليه في المصالح، ربّ عمله صاحب المصنع الشيعي أيضا ً، أو أن يمنعه من استغلاله واضطهاده لمجرد تذكيره بهذه الرابطة،أو أن يصبح شريكه في المصنع، أو أن يحصل على حصته فيه، لمجرد أنهما ينتميان إلى مذهب واحد. ومع هذا، فسوف تبدو – في الآن نفسه- هي المنظومة التي من دونها لن تتشكل الطائفية كإيديولوجيا،أي كعقيدة فكرية تجمع الأفراد من مذهب واحد في حركة واحدة سياسية أو اجتماعية.إن تحولها إلى إيديولوجيا هو الشرط الحاسم والنهائي والكليّ لخروجها عن نطاق كونها تعبيرا ًشكليا ً عن هذه الترابطات.
ومتى تحولت الطائفية إلى إيديولوجيا أو عقيدة سياسية، تكون قد أعادت ربط الأفراد أنفسهم، المنحدرين من طبقات اجتماعية متعارضة في المصالح والرؤى، ولكنهم ينتسبون إلى مذهب واحد في المجتمع في رابطة جديدة، تقوم على أساس تصعيد المشاعر وتقديس" الهوية الفرعية". ومع ذلك، يتوجب ملاحظة، أن المشاعر الطائفية، أي هذه الترابطات الشكلية التي تجمع الأفراد المتناقضين في المصالح والأفكار في المجتمع، ستحملهم باستمرار على تخيّل " هويّة " مشتركة؛ بل واختراع هذه الهوية لمتطلبات الصراع.ولأن الطائفية كمنظومة مشاعر وترابطات شكلية، هشة، ليست ولم تكن في أي وقت، موضوعا ً صراعيا ً بذاتها، أي ليست مادة بذاتها ولذاتها، وإنما هي موضوع قابل للتوظيف والتحول إلى أداة في صراع سياسي؛فإنها لا تشكل أي خطر في مجتمع مستقرّ مثلا ً،أمكن فيه السيطرة على التناقضات الداخلية بطريقة سلمية،ولن يكون بوسع الأفراد-من كل الطوائف-لا تلمس المشاعر الطائفية ولا الإحساس بأنها تشكل بذاتها، خطرا ً أو تهديدا ً لوحدتهم.إن شعور الأفراد بالاعتزاز والفخر بطوائفهم أو قبائلهم (أو أحزابهم وعقائدهم الفكرية والسياسية) هو شعور سليم وطبيعي ومقبول، ويجب أن ينظر إليه على أنه تعبير عن الحق الثقافي في الولاء" لثقافة راسبة " ولكن شرط أن لا يصبح موضوعا ً صراعيا ً، وأن لا يقوموا باستخدامه كأداة في صراعاتهم ونزاعاتهم مع الآخرين.ولعل الآية القرآنية (وكل حزب ٍ بما لديهم فرحون) تعبّر ببلاغة رائعة عن الميول الطبيعية عند الأفراد في كل العصور إلى التفاخر، بأنسابهم أو مذاهبهم أو قبائلهم وأديانهم. وبالطبع، فمن حق كل فرد في المجتمع المستقرّ، أن يفخر بطائفته أو قبيلته، ويرى فيها ما لا يراه في طوائف وقبائل أخرى، ولكن شرط أن لا تتحول هذه المشاعر إلى أداة لقهر آخر، لأنه ينتسب إلى طائفة أو قبيلة أخرى.وحين تتحول" الطائفية" إلى عقيدة، ولا تعود مجرد ترابطات شكلية؛ فإنها يمكن أن تعيد توثيق روابط الأفراد من مذهب واحد على أساس عقائدي، يتحول إلى شكل مدمر من أشكال العنف.إن التجربة العراقية في العنف والحرب الطائفية ( 2006 بعد تفجيرات سامراء) لا تقدم أي برهان على أن " الطائفية " التي انتشرت سلوكا ً وثقافة بعد تمرير صيغة الدستور الدائم، كانت تعبيرا ً أو تجسيدا " للطوائف"، فالطائفة شيء والطائفية شيء آخر. والمثير للدهشة والفزع، أن أكثر الطوائف تضررا ً من الاحتلال، هي الطائفة الشيعية. إن الحياة المرّوعة بشروطها الإنسانية المتدنية لدرجة الصفر لملايين العراقيين من الشيعة في الجنوب والمحافظات الأخرى وسط الفرات، حيث ينعدم أي أثر للخدمات البسيطة كالماء الصالح لشرب والكهرباء، وهي الظروف ذاتها التي يعيشها الملايين من أهل السنة غرب العراق، تجعل من فكرة وجود صراع طائفي مجرد تصور أخرق ولا أساس له. وعلى العكس، فقد بدت الطائفية باستمرار خطرا ً على الطائفة نفسها، بأكثر مما هي خطر على الجماعات الأخرى. مثلا ً،هل يمكن فهم التناقض بين اعتبار الشيعة أغلبية في المجتمع العراقي، كما يزعم الخطاب الطائفي، وبين اعتبارها " طائفة "؟ لأن القول بالأغلبية ، يعني تلقائيا ً أنهم لسوا " طائفة " مثلها مثل الطوائف الصغيرة. ومثل هذا التناقض في الخطاب هو الذي يشكل خطرا ً على " الطائفة " نفسها، لأنه يحط من مكانتها ويحولها إلى" أقلية " خائفة. وبلا مراء؛ فإن أي تحليل موضوعي ونزيه للخطاب الطائفي في العراق، سيلاحظ أنه مؤسس على فكرة " تصعيد الخوف " في صفوف الأفراد والجماعات، وفي الآن ذاته، تشجيعهم على تخيّل أنفسهم دائما ً وباستمرار في صورة الضحية، وأنهم يملكون هوية مشتركة.إن امتياز الضحية الوحيد،هو أنها ضحية تستحق التضامن والعطف.وهذا ما قام الخطاب الطائفي باستغلاله منذ اليوم الأول للاحتلال من خلال الترويج لفكرة، أن الشيعة هم ضحايا أزليين، و"مظلوميتهم " خالدة وسرمدية،لأنها "مظلومية تنتسب إلى مقدس مظلوم (الإمام الشهيد الحسين بن علي). وكان ذلك ذروة استغلال الثقافة الراسبة في المجتمع بهدف اكتساب، لا العطف والتضامن من آخرين؛ وإنما كذلك امتلاك الفارق بينهم وبين الآخرين الذين لا يمكنهم امتلاك، وهم لا يمتلكون أصلا ً، امتياز كونهم ضحايا يستحقون العطف. ولذلك،لا تبدو الحرب الداخلية،إلا بوصفها أعلى تجليات العنف المجتمعي من أجل الحفاظ على الفوارق داخل المجتمع، وإعادة صياغتها على أساس وجود فارق ثقافي نوعي بين هويات فرعية متخيّلة، يصورّ فيها طرف نفسه على أنه ضحية، فيما ُيصور طرف آخر على أنه جلاد. وربما لهذا السبب ستبدو الحرب هي أداة العنف المفضلة التي يلجأ إليها لحسم التناقضات بين الجماعات المتصارعة.
الكثيرون رددوا الفكرة التالية: هناك شبح حرب.لكنها لن تكون أبدا ً بين الشيعة والسنة،بل بين معسكرين،أحدهما وطني مناوئ للاحتلال، وآخر مرتبط به عضويا ً.وسيكون القتال على قاعدة أكثر وضوحا ً وأقل تقبلا ً للالتباس. وفي هذه اللحظة الفاصلة من تاريخ العراق الحديث، وفقط حين وقع زلزال سامراء وتتالت رجاته العنيفة لتضرب من بغداد غربا" حتى البصرة جنوبا"، أدرك العراقيون الحقيقة، فثمة من يتلاعب لا بالكلمات، بل بمصائرهم وأقدارهم وخياراتهم التاريخية، والفيدرالية التي تم الترويج لها لا تعني بالضبط فيدرالية؛ بل هي اسم حركي لحرب أهلية مستترة.والحرب الأهلية ليست بالضبط، حربا" بين طوائف (برهنت أنها ليست طوائف وإنما هي مدارس مذهبية وفقهية) بل هي حرب جماعات سياسية استخدمت " الطائفية " كأداة في الصراع، وأن هذا الصراع السياسي يمكن أن يستمر لوقت طويل ويصبح مادة تفجيرية تهدد العراق ككيان جغرافي.
ليس العنف " أداة صمّاء " في يد "جماعة عمياء " وحسب.وفي التجربة العراقية، ثمة الكثير من الدلائل الساطعة التي تؤكد، أنه " مخلوق " يصيخ السمع إلى أنين الضحايا بكل حواسّه، كما أن الجماعة التي تستخدمه، ترى وتشاهد أهدافها بوضوح تام، وهي تعرف أين ولماذا تضرب بقسوة.ولأنه كذلك، فربما أعطى في بعض الحالات، انطباعا ً مضللا ً بأنه " كائن أعمى " يتخبط في الظلام، وبحيث أن ضحاياه يصدّقون أنهم كانوا" هدفه الخطأ " في " المكان الخطأ " وفي " اللحظة الخطأ " أيضا ً؛ لكنهم حين يشاهدون ضرباته المتكررّة في الأماكن والمواضع ذاتها مع آخرين؛ فإن مثل هذا الانطباع سوف يزول ويتبدد. ومع ذلك، ثمة مزاعم تنشأ في سياق محاولة تعريف طبيعة العنف ومصادره،تقول، إن الذين يشتبكون معه، إنما يواجهون أداة " صماء عمياء ". وهذا هو التجليّ الأكثر وضوحا ً في نوع وطبيعة المفارقة المأسوية للنقاش الدائر حول العنف في العراق، إذ تصبح ُ الحرب ضد العنف، كما لو أنها حرب ضد " كائن أعمى "، ولكنه كائن يملك في الآن ذاته، القدرة على رؤية ضحاياه وأهدافه؟ ولأن العنف" كائن" حيّ، بالمعنى الرمزي للتوصيف، فإننا يمكن أن ننظر إليه من هذه الزاوية وكأنه مجبول من طينة الكائنات العضوية(الحيّة) ومحكوم بشروط تطورها ونموّها.وفي السيرة الذاتية للعنف في العراق خلال سنوات الاحتلال الأمريكي 2003-2010، يمكن ملاحظة، أنه يبدو عنفا ً طائفيا ً، ولكنه في جوهره عنف سياسي بأدوات طائفية، كما يمكن ملاحظة كيف أن العنف كان يتبختر في الشوارع العامة ككائن حي، وأنه آخذ في النمو والتطور بشكل طبيعي مثل الكائنات الأخرى، ولكنه بخلافها جميعا ً، يتمتع بقابلية مدهشة واستثنائية على الخداع. أي على خداعنا بأنه " عنف طائفي " موجه من طائفة ضد أخرى. من قبليات العنف على الخداع مثلا ً،أنه يتمتع بالقدرة على إيهام خصومه، بأنه لا يتطور ولا ينمو ولا يرى ولا يسمع، وأنه فوق ذلك كله ضعيف ومنهك، وأنهم يستطيعون قهره وإلحاق الهزيمة به بقليل من" التدابير الأمنية " وسدّ " الثغرات " عند الحواجز.ويمكن للمرء أن يلاحظ مثل هذه التعبيرات الرائجة في الخطاب الرسمي (الحكومي) وفي أدبيات الطبقة السياسية، باعتبارها دليلا ً قاطعا ً على انعدام أي إدراك عميق لديها " للعدو " ولطبيعته، وهي لا تكاد تتوقف عن تقديم توصيف سطحيّ في الغالب، يشبّهه بأنه " مجرد أداة صمّاء بكمّاء عمياء " يمكن كسرها وتحطيمها بسهولة. ولأن العنف ولأسباب ودوافع محددة، يستطيع أن يظهر مقدرة استثنائية على التحايل والتكيف مع مختلف الأوضاع التي يواجهها؛ فإنه سوف يتجلى باستمرار بوصفه كائنا ً.لقد ارتبط العنف خلال سنوات الاحتلال، بظهور المشاريع السياسية والأفكار والشعارات الطائفية، ولم يكن مجرد " شر" متطاير اندلع دون بواعث.إن التفتيش في التاريخ الاجتماعي والثقافي للمجتمعات التي واجهت وعرفت مخاطر الحرب الطائفية،أو عاشت بعمق تجليات المأساة الناجمة عن تصدعها وانقسامها،قد يساهم في تفكيك الكثير من الألغاز المحيرة في سلوك الأفراد والقوى الاجتماعية.والتاريخ الثقافي للعراق- في هذا الإطار-يقدم مادة غنية، مؤلفة من مزيج خلاق من الأساطير والأدب والتاريخ الواقعي.
الطائفية والحرب
تتميز الجماعة الدينية والأقوام بعدد من الخصائص التي تظهر في العادات والتقاليد واللغة والطقوس والرموز، يعاد استخدامها يومياً ، كي تضمن الجماعة تماسكها وتلاحمها.
كانت الدولة عبر التاريخ العربي الإسلامي قائمة على الأسر والأقوام ذات الشوكة، ولكن في العصر الحديث ومع قيام الدولة ووضع الدساتير والقوانين المعاصرة التي استفادت فيها من تجارب الدول الغربية، أليس من المفروض أن يضعف الانتماء لهذه التشكيلات ليقوى لحساب الدولة الحديثة؟
هل عملت الدولة العربية على تنمية الشعور بالمواطنة وجعلته الأساس في الاجتماع السياسي؟
هل استفاد الساسة المعاصرون من التاريخ ومن الانتكاس لعصر الطوائف الذي سيعود بنا لما قبل الدولة، وليرجع الغزو والغنائم والحرب؟
الطائفية والحرب
مستخلص
استعمل الأستاذ فاضل الربيعي المنهج الأنثروبولوجي وقام بتحليل موضوعي للتجربة العراقية، وأعاد قراءة الأحداث التي جرت بعد الاحتلال في 9 نيسان / أبريل 2003 قراءة تربط الظواهر والتداعيات بالنتائج وبالتاريخ الاجتماعي السياسي، فقد حاول فهم جوهر الصراع ومحركاته الثقافية، وبرأيه أن ما جرى بين عامي 2006 و 2010 ليس حرباً أهلية تصادمت فيها كتل اجتماعية وروحية وثقافية بل صراع سياسي عنيف استُخدمت فيه الطائفية سلاحاً.
استعاد المؤلف الأسطورة والتاريخ القديم والمعاصر ليثبت وجهة نظره، فقام بتحليل الوقائع، وبين أنه بالرغم من اختلاف العصور فإن العناصر المؤلفة للحدث بقيت هي نفسها، لهذا لجأ إلى تفكيك المفاهيم التي جرى استخدامها في توصيف الأحداث خلال تلك الأعوام، ثم أعاد تركيبها.
بينما لجأ الدكتور وجيه كوثراني في بحثه إلى وضع مداخل ثلاثة؛ الأول المدخل الأنثروبولوجي الثقافي لموضوعات الطوائف وقصد أن ثمة ثوابت في الخصائص الإثنية أو الجماعة الدينية تتجسد في العادات والعبادات واللغة واللهجات والطقوس والأساطير والرموز يعاد إنتاجها في الحياة اليومية للناس، من أجل تقوية الجماعة وتماسكها واستمرارها.
وبين أن الدولة العربية الإسلامية عبر التاريخ كانت دولة أسر وأقوام ذات شوكة، وأساس الاجتماع السياسي هي القبائل والإثنيات والطوائف.
المدخل الثاني كان سياسياً دستورياً وقانونياً لموضوع الدولة، فالدولة العربية استعانت بالدساتير الغربية كي تصوغ قوانينها ودساتيرها. فإلى أي حدّ تقاطع المعطى الأنثروبولوجي الثقافي للجماعات مع تقليد قيام الدولة الحديثة؟
أما المدخل الثالث السياسي الاجتماعي فقد تساءل المؤلف فيه عن دور العمل السياسي التغييري؛ لماذا يراوح العمل السياسي مكانه في لبنان؟
كما تحدث عن دولة الطوائف اللبنانية التشاركية وبيّن ما هو الميثاق الوطني؟ وتكلم على الليبرالية اللبنانية ومفارقاتها في الاجتماع السياسي.
كما بيّن واقع الرهان الديمقراطي بعد الطائف، وكيف نمت الزبائنية على حساب المواطنية، ومأزق الانتقال من الاجتماع العصباني الطائفي إلى الاجتماع الوطني، وأوضح أخيراً لماذا لا يتعظ اللبنانيون؟