مقهى بلا رواد
بطل القصة أبو سليم كان أكثرهم صحة وانسجاماً مع نفسه ولكن (الجوالات) و (الحواسيب) هي التي تؤرقه.. في غمرة من ذلك تقع عينه في المقهى على امرأة كهلة يقارن بينها وبين أم سليم زوجته فيرى فوارق كثيرة؟ فأم سليم كبرت وهذه ما زالت تحافظ على حبها للحياة وللزينة، لا تكف- وهي في المقهى- عن تعاطي العمل على حاسوبها المحمول..
يتحرك قلب أبي سليم، يميل للمرأة، يتابعها في ترددها على المقهى بشغف فتتغير نفسه ويحاول أن يقيم صلة معها، ويدهشه اضطلاعها بالحاسوب فيقرر الأخذ بالتطور الرقمي مجاراة لها، مما يدهش الصغار وحتى الأسرة التي ترى أن أشياء تحدث في الخفاء ويخاف أفرادها عليه فيبعثون إليه برسالة حين يفاجئونه بالاحتفال بعيد ميلاده.. وكأنهم يقولون له: لقد وصلت إلى سنّ ينبغي أن تنتبه فيه إلى نفسك.
وينفض زملاء المقهى كل إلى همومه.. وأكثرهم هماً أبو سليم.
الزمان يا سيدي.. الزمان تغيّر. كل ما فيه تغير.. ويتغير.
هكذا قال أبو الشكر بنبرة ألم، كأنما يتحسّر على شيء فاته.
قال أبو سعيد وقد ملأ بجمسه الكرسي كالعادة ويداه معقودتان على كرشه:
-هل نستطيع أن تقف في وجه التيار يا جماعة ؟ لا نستطيع، لا يمكن.. التيار جارف.
وافقوه كلهم بتعابير مختلفة.. وأخذوا يفيضون، يعبرون عن أفكار في داخلهم حبيسة، تريد الخروج. أفكار مضطربة، تطحن في أفئدتهم، يخشون الزمن، الزمن الذي يقهر الإنسان.
***
أخرجت جوالها، عرضت له فيلم فيديو لأحد أساتذتها وهو وراء جهاز الحاسوب منهمكاً.. وطالب من الشباب يقترح عليه أشياء، والأستاذ كأنه تلميذه..
حملق جدّها بها وقال بتعجب وفي صوت عالٍ:
- أهكذا إذن؟
نظرت فيها بعينيها العسليتين الرائقتين، وقالت ببساطة:
- نعم يا جدي.. لم يخجل أستاذنا الكبير أن يتدخل بجهازه طالب.. لم يعد أحد في هذه الأيام يستطيع أن يعيش دون تكنولوجيا يا جدي. ولا أن يستغني عن الآخرين.
أعجبته هذه الكلمة.. يجب أن يتثقف بمثل هذه الكلمات التي يسمونها - كما تقول نوّار – في مصطلحاتهم.
وقالت له العفريتة بخبث :
- أنت يا جدي رجل عظيم، متطور..
أعجبته هذه الكلمة (متطور) فقال :
- وأنت تلميذة إبليس، لقد غيرت أفكاري يا شيطانة!
فقالت بلهجة ماكرة، ضربت فيها على موطن ضعفه :
- أشكرك يا جدي، تفضلت علي بهذه الجلسات، وجعلتني معلمتك.
***
أتكون حياة الفرد منا محسوبة بالسنين؟ ما علاقته بالزمان والمكان؟ ما علاقته بالأشخاص؟ وهم مختلفون في الأعمار والأفكار والاتجاهات؟ هل يمكن أن يحيا من غير أن تتغير أفكاره ولا يلاحظ التغييرات التي تطرأ عليه..؟
بطل الرواية أبو سليم رجل ذو مكانة في أسرته وذو ملاءة أيضاً مشى بنجاح في عمره نحو السبعين. فجأة، وهو يستمع إلى الصغار من حوله يتحدثون عن مصطلحات الانترنت والحواسيب يسأل سؤالاً يثير أحفاده فيكتشفون أن جدهم جاهل بتكنولوجيا الاتصالات التي تقوم عليها الحياة اليوم ويعلقون تعليقات تزعجه وهي عندهم من البدهيات فمن ذا الذي لا يعرف في الحياة المعاصرة معنى الرابط أو (الماسيج) أو (الواتس آب) وما شابه ذلك..
لكن الجدّ وهو في غاية الاستياء تربطه علاقة اجتماع دوري مع أصدقائه في المقهى فيفضي كل منهم إلى (الشلة) بهمومه التي يجدها في بيته أو في المجتمع الذي تغير عليهم بسبب التطور الحادث فلم يعد الجيل كما كان وطفرة الاتصالات الرقمية تضعهم في اضطراب، وأسعار السوق تدهشهم وسوى ذلك من المتغيرات.
-وعلى كل حال، فالإبريق سيصير فارغاً..
-الإبريق؟ تقول الإبريق؟
ضحكوا على التشبيه، وجنحت بهم خيالاتهم، إلى أفكار شتى. وعلقوا، كل بما يلهمه تفكيره وأوهامه وأحلامه..
وأخفض أبو الشكر صوته، وأدنى رأسه من الجماعة، فأدنت الشلة رؤوسها مثله، والتموا بعضهم على بعض فوق الطاولة المملوءة بكؤوس الشاي وفناجين القهوة، وهمس:
-وأنا أيضاً منعني الطبيب من...
-الله لا يسود وجوهنا، ولا ينكّس راياتنا!
وتحرك فخري حركة غير عادية لهذا الكلام، فتدحرجت كؤوس الشاي، وانكسرت، وسال ما فيها على الأرض، فلفتوا نحوهم أنظار المقاهيين.. لم يهتموا لما حدث، لأنّ السرور كان أغلب من كل ما يجري.
- يا جماعة، هؤلاء الأطباء.. يحرموننا مباهج العيش؛ اترك الملح، إياك والسكر، لا تدخن، لا تشرب المنبهات.. وأخيراً يحولون بينك وبين زوجتك.. يتدخلون بينكما.. شيء فظيع!