ضَيَاع الذّات.. مَصدَرُ المشكلاتِ كلّهَا محنة هذه الأمة واحدة، وإن تراءت لها جوانب قد تبدو منفصلة ومستقلة بعضها عن بعض. وربما كانت المحنة الفلسطينية، أو محنة ما يسمى بالتخلف عموماً أبرز هذه الجوانب وأخطرها، غير أنها لا تعدو واحدة من فروع كثيرة أخرى، ينبثق جميعها من جذع واحد لا ثاني له. وقد كدنا نضيع بين تلافيف هذه الفروع والأغصان المتشابكة، بل لعل كثيرين منا قد ضاعوا فعلاً. منذ سنوات طويلة، ونحن نحبس أنظارنا وتأملاتنا عند رؤوس المشكلات والمصائب التي تطوف بنا دون أن نحرِّر أنفسنا يوماً من سجن هذه الفروع المتشابكة، لنبسبر أغوارها، ونصل إلى جذعها فجذورها. فكيف نطمع أن نحل هذه المشكلات، ونحن واقعون منها وسط هذا التيه؟ من أين نبدأ، وإلى أين ننتهي ؟ وأين هي النقطةُ المحورية التي تحدد لنا كلاً من طرفي الابتداء والانتهاء؟ أنبدأ المعالجة من مشكلة التجزُّء والفرقة، أم من مشكلة التخلُّف العلمي والتقني، أم من مشكلات الفقر والتخلف الاقتصادي، أم من مشكلة ضياع الوطن والأرض، أم من مشكلة الاضطراب الفكري وازدواج الرأي والسلوك؟ كل هذه المشكلات مصائب «متموضعة» في جسم هذه الأمة. ما في ذلك ريب. ولكن السؤال المحير هو: عند أي واحدة من هذه المشكلات يكمن منبع سائر المصائب والمحن الأخرى؟ والجواب: أن هذه المصائب كلها فروع متساوية لمصيبة كبيرة هي في الحقيقة أهم وأخطر منها جميعاً، إلَّا أنها مصيبة خفية لا تطفو على السطح، بل تختبئ في الأعمال، فلا حيلة في السعي إلى إبرازها واضحة للعين المجردة وأمام أصحاب النظرة السطحية للأشياء. ولو بقيت هذه الأمة قروناً متطاولة، وهي تقرع مصائبها السطحية هذه واحدة بأخرى، وتعالج كلّاً منها كما يعالج الرجل شقوق بناء أقيم على غير أساس، لما جاءت جهودها بأي طائل، ولظلَّت تهوي من ضعف إلى ضعف، ولبقي العدو المتربِّص بها يزداد تمكُّناً منها واستلاباً لذخرها ومقدّراتها، حتى يحين منها التفاتة جادة إلى جذور المعضلة وأساس المحنة، ثم تعكف بصدق على معالجة تلك الجذور، عندئذٍ يمكن أن يقال: إنها عثرت أخيراً على الشعلة الهادية وسط الظلام، وعلى الباب الذي يخرجها من سجن تلك الدائرة المغلقة. فما هو ذلك الجذع المستصلب الغليظ الذي تتوالد منه فروع هذه المحن كلها؟ إنَّه، وبكلمة بسيطة وموجزة: ضياع الذات. نعم، ضياع الذات هو الجذع المستصلب الخطير الذي انتشرت منه في كل الجهات فروع وأغصان من المحن المتنوعة التي لا حصر لها. وإنَّما أشدد على هذه الكلمة، وأؤكِّد أنها على الرغم من بساطتها وسهولة ما تدل عليه – هي ينبوع مصائبنا كلها، لأنني أعلم أن كثيراً ممن حبسوا عقولهم وسط رقعة من شطرنج السياسة، أو عوَّدوا أفكارهم وأعصابهم على الدوران النظامي الرتيب ضمن الدوائر المغلقة، لا يقيمون لهذه الكلمة ولا لمدلوها أي وزن. إنَّهم لا يزالون يتوهَّمون – حتى بعد أن أنهكتهم التحركات السياسية ودوَّختهم المناورات التي تظل تراوح في مكانها – أن جذور هذه المحن كلها إنَّما تتمثل في إرادة الدول العظمى والتحركات السياسية الكبرى، أو في الجمود عند الأفكار العتيقة! وإنَّما يغذِّي هذا الوهم لدى أصحابه، تقادُم انحباسهم في قاع تحركاتهم الدائرية المغلقة التي لا يستبين فيها بدء من ختام، ولا يتضح فيها الفرق بين أثر ومؤثر أو نتيجة وسبب! وربما غذَّاه لدى فئات أخرى من الناس أنَّهم استمرأوا المحنة وتفيَّأوا منها ظلالاً وارفة أَنَعشَت أهواءهم وحقَّقَت الكثير من رغائبهم. فهم لا يتأفَّفون منها إلَّا بمقدار ما ينشطون في السعي ابتغاء نيل ثمارها واكتساب آثارها. غير أنَّ هذا كله ما ينبغي أن يحجب عنا الحقيقة الجاثمة أمام أنظارنا وما ينبغي أن يجعلنا نتغاضى عن مصدر البلاء وجرثومة هذه الأمراض. ولا سيما وقد تراكم حصاد هذه المصائب أمام أعيننا، كأخطر ما يمكن أن تبدو عليه مصائب أمة ما، في أيّ عصر من العصور. أَلم تتفكَّك منا بقايا القوى وتتحوَّل إلى أنكاث؟ أَلم يتمزَّق ما بيننا من صلات القربى ورحم الآلام والآمال؟ أَلم تتبعثر ثرواتنا الاقتصادية موادَّ وأدوات أولية في أسواق الصناعات الأجنبية، لترتدَّ إلينا أغلالاً تصفدنا حتى الأعناق؟ أَلم تتعاظم نواة الاحتلال الصهيوني تحت أسماعنا وأبصارنا حتى ضربت لها جذوراً في عمق بلاد الشام، وأقامت على أرضنا المقدسة أوتاداً من القوة، لا تبلغها قوى هذه الأمة جمعاء؟ أَلم يتحوَّل كيدنا لها وصمودنا ضدَّها إلى الكيد لأنفسنا والتربص ببعضنا، حتى استحرّ الموت منا بعشرات الآلاف؟ إذن، فهل يجوز أن نبقى – وهذه هي حالنا – رهن الاحتباس على رقعة شطرنج تتلاعب بها أيدي سياسة تستطيل من أجل المحنة في انتظار انمحاقنا، أو أن نبقى دائرة مغلقة نطوف فيها حول محور الوهم، ونقطع في تَطْوافنا حوله آلاف الأميال؟ إنَّ جزءاً يسيراً من آلام هذه المصائب، من شأنه أن يوقظ النائم وينبّه السادِر، فكيف وإنه ليس بذلك الجزء اليسير، ولكنه كل هذه المصائب والآلام.
يتضمَّن هذا الكتاب إعادة مبسَّطة وموسَّعة لحوارٍ وجَّهه المؤلِّف ذات يوم إلى باحث متخصِّص في الفلسفة ورئيس لقسمها في إحدى جامعات البلاد العربية. وبقطع النظر عن هوية هذا الباحث، فإنَّ المهمّ أن يجسّد هذا الحوار أمام المثقفين مشكلة من مشكلاتنا الفكرية والعلمية التي نعاني منها، وأن يضع الحلّ العلمي لها. والأحداث تمرّ عادة، وتنطوي بعد حدوثها، ولكن يجب أن تبقى معانيها وآثارها مصدر عبرة، ومادَّة ثقافة ومعرفة والتزام.