مقدّمة
يتبوَّأ هذا البحث مكانه من الأهمية، بين بحوث هذه السلسلة، لعوامل مختلفة، من أهمِّها العوامل التالية:
العامل الأوَّل:
انحسار معظم الشبهات الفكية والعلمية المختلفة التي كانت تغشِّي – إلى وقت قريب – على عقولِ كثير من الناشئة والمثقفين، في طريق إقبالهم على الإسلام؛ إذ كان يدفع بها إليهم أناس احترفوا الغزو الفكري، ضد كل ما يتضمنه الإسلام من عقائد وأحكام!.. وإنك لتذكر كم سخَّر هؤلاء الناس دروساً لهم في المدارس، على اختلاف مضموناتها، للتلبيس على حقائق الإسلام والتشكيك في يقينيّاته، يسخِّرون لذلك عناوين العلوم آناً، والتاريخ آناً، والاكتشافات والنظريات الحديثة آناً آخر!
فلقد انحسر اليوم سلطان هذا التشويش الخادع، وأفلت زمام العلم من أيدي المتلاعبين بألفاظه، وعاد العلم الحقيقي بُرهاناً يملأ عقول الباحثين يقيناً بصدق كل ما يتضمنه الإسلام من حقائق الإيمان وأنظمة الحياة والسلوك.
فكان من آثار هذا الانحسار للشبهات – وخيبة الساعين بها إلى عقول الناشئة – أن أَقبل هؤلاء الشباب من كل حَدَب وصَوْب إلى تفهُّم الإسلام ابتغاء تطبيقه والانصباغ به.
ولا بدَّ في هذه الحالة من وجود عدد كبير من الداعين إلى الإسلام، قد أتقنوه علماً، واستقاموا عليه سلوكاً، وأَخلصوا لله تعالى في تمسُّكهم به؛ ليبصِّروا هذه الناشئة بحقيقة الإسلام، ويرسِّخوا مبادئه في نفوسهم، ويرشدوهم إلى السبيل الأمثل للاهتداء به فكراً وخلقاً وسلوكاً.
العامل الثاني:
أنَّ هذه الشبهات وإن تكن قد ابتعدت عن الطريق إلى فهم الإسلام، وحقيقته، وواقع سُمُوِّه على كل خرافة أو ضلالة شاردة عن موازين المنطق والعِلم، فإن المتربِّصين به من أعدائه، في شرق العالم وغربه، يدأبون بكل ما أوتوا من قوَّة، على الكيد له ولأهله أينما كانوا؛ وإنك لتنظر، فلا ترى من جامعة تجمعهم أو جسر يصل ما بينهم، إلا ابتغاء تنسيق السبل الماكرة العجيبة إلى خنق إسلام المسلمين في صدورهم، أو إلى حصر فاعلياته ضمن أضيق المجالات وأقلها شأناً في حياتهم.
فاقتضت هذه الظاهرة، أن يتضاعف أعداد القائمين بواجب الدعوة إلى هذا الدين الحنيف، بل إن هذه الظاهرة اقتضت أن يتحوَّل كل مسلم، صدَقَ مع الله في إسلامه، إلى جنديٍّ يقوم بواجب الدعوة إلى الإسلام جهد استطاعته، وفي نطاق إمكاناته.
قد كانت مهمة الدعوة إلى الإسلام من الفروض الكفائية، كما قال العلماء، يوم كانت المجتمعات الإسلامية، تسير قُدُماً في طريق الإسلام، بدفع من اتجاهها التي وضعت نفسها فيه، دون أن يكون على الطريق أو عن يمينه أو يساره، ومن يتربص بها الدوائر، ويختلق لها العقبات، ويصدُّها عن الوصول إلى الغاية بنيران الشهوات والأهواء.
أما اليوم، وقد جُنِّدَ كل إمكانات الدنيا، من مال وطاقة ونساء وفكر، في سبيل الصد عن صراط الله والوصول إلى مرضاته، فقد أصبحت مهمة الدعوة الإسلامية فرضاً من الفروض العينية، يخاطب به كل مسلم صادق مع الله في إسلامه، ولم تعد مقتصرة على ثلَّة من الناس، مهما بلغ شأنهم ومهما كانت أهميتهم.
إننا في عصر تلتهم فيه النيران بنيان الإسلام، على الرغم من أن دعائم أحقيَّته لم تتجلَّ للأبصار والبصائر كما تجلَّت في هذا العصر، لا لأقوام من الناس بأعيانهم، بل لأهل الأرض جميعاً؛ وفِرَق الإطفاء قليلة عاجزة عن الوقوف وحدها في وجه هذه النيران، إذن لا بدَّ من أن يهبَّ الكل، على اختلاف قواهم وإمكاناتهم، لصدِّ هذه النيران عن بنيان الحقائق الإسلامية، وعن صرحه القائم على دعائم الحق والعزة والعدل، كلٌّ يجاهد في سبيل ذلك حسب استطاعته.
العامل الثالث:
أن الدعوة الإسلامية، وقد ارتفعت أهميتها وزادت ضرورتها وخطورتها إلى ما قد رأيت، وليس شأنها كشأن الدعوة إلى أي مبدأ أو مذهب آخر!.. إنها تحتاج إلى كثير من العلم ودقته، وإلى كثير من الحذر ويقظته، وإلى كثير من رقابة النفس ألَّا تتسلَّل بشيء من حظوظها إلى طريق الدعوة وسياستها.
فما أكثر ما يتنكَّب الداعي إلى الإسلام، عن المنهج السويِّ الذي يجب عليه أن يلتزمه ولا يحيد عنه؛ بسبب جهلٍ وقع فيه، أو بسبب حظ من حظوظ النفس هيمنَ عليه، وإذا هو يأتي من حصاد عمله ودعوته بعكس ما كان متوقعاً، وربما امتدَّ لعمله ذاك أثر مستمر لا يكاد ينقطع!
* * *
فاقتضى الأمر – من أجل ذلك – تبصير المسلمين على اختلاف ثقافاتهم وقدراتهم ومستوياتهم، ممن أخلصوا لله في دينهم وإيمانهم، بالسبيل الذي يجب أن تنضبط به عملية الدعوة إلى الإسلام، على ضوء أوضاعنا القائمة اليوم، سواء ما كان متعلقاً بالمسائل العلمية المتعلقة بهذا الصدد، وما كان متعلقاً بأمر النفس وتزكيتها، وما كان منها متعلقاً بالسياسة الشرعية المتعلقة بالدعوة ذاتها.
وإن بحث هذه المسائل ليحتاج إلى مجلد كبير لكي تُستوعب فيه على نحو وافٍ مبسَّط، غير أن الوقت أعجل من ذلك.
إنه أعجل من ذلك، لأنَّ الـمَهَمَّةَ الـمُلقاة على أعناق المسلمين جميعاً، بصدد واجب الدعوة إلى الله، لا يمهل ولا تنتظر الوقت الذي ينضج فيه مثل هذا المجلد ويتكامل إخراجه.
وهو أعجل من ذلك، لأن مثل هذا المجلد الكبير، سيكون خطاباً للخاصة من المسلمين دون غيرهم، وإنما نريده منهاجاً يوضع تحت يد كلِّ مسلمٍ بصيرٍ بدينه مخلصٍ في القيام بواجب ربِّه عليه.
وهو أعجل من ذلك، لأنني لا أجد لدي من الوقت ما يتسع لعرض تفصيلات واسعة في هذا الصدد، قد يستغرق مني زمناً طويلاً، لا أدري هل يكون في الأجل متَّسع له، مع كل ما قد تراه حولنا من مشكلات الدعوة، وحاجاتها الملحة المستعجلة.
لذا، وجدت في بحوث هذه السلسلة، ما ينجدني في كتابة خلاصة جامعة لكلِّ ما يجب أن يلُمَّ به الداعي إلى الله عزَّ وجلَّ.
وعلى كل مسلم اليوم أن يكون داعياً إلى الله، جهد استطاعته، ولكن ببصيرة، وعلى هدي من آداب هذه الدعوة وشروطها .
وقد كنت، ولا أزال، أَحْرَصُ على أن تكون هذه البحوث علاجاً لقِمَّة ما يشغل بال المسلمين بل الناس اليوم، من أمور الفكر والثقافة، وأن أحزم كل مسائلها ضمن أسلوب يجمع، قدر الإمكان، بين الاستيعاب والإيجاز والإيضاح.
فذلك هو السبيل الوحيد لفتح مغاليق هذه البحوث أمام طبقات الناس المثقفين جميعاً، ومن ثَمَّ يتيسَّر لنا جميعاً أن نبذل جهوداً مشتركة عامة، لا تعلو فيها طبقة على أخرى، من أجل حلِّ معضلاتنا والقيام بواجباتنا والسير معاً إلى غاياتنا.
ومسألة الدعوة إلى الإسلام، ما أراها إلا من أهم هذه البحوث التي تشغل فعلاً بال كل مسلم صادق في إسلامه، فهي ضرورية في حياتنا جداً، ولكنَّ الخوض فيها من دون دراية وتسلُّح بالضوابط والكوابح التي لا بدَّ منها خطير جداً.
ولعلَّ الله يوفقني في الصفحات التالية، لبيان السبيل الذي يضمن لنا القيام بهذا الواجب الضروري، مكلوءاً برعاية ضوابطه وآدابه وأحكامه التي لا بدَّ منها، إنَّه ولي كل هداية وتوفيق.
أساس الدَّعوة إلى الله فيض من مشاعر الشفقة على عباده كلّهم أن لا يَتيهوا عن الحقّ، فيقعوا غداً في لظى ندامة لا خلاص لهم منها.
وميزان الصدق في هذه الدعوة هو الانتصار لدين الله من أجل مرضاته، لا الانتصار للذّات مِن أجل حظوظ النفس وأهوائها.
والنور الذي يستضيء به الداعي في طريقه، إنما هو العلم بالشريعة وأصولها، لا الانجراف في العاطفة وهياجها.
أما روح الدعوة وحياتها، فإخلاص لله في القلب، وتزكية للنفس، مع كثير ذكر ودعاء وتضرُّع وبكاء.