مَاذا نَبغي من هَذا الحِوَار
المسلمون الملتزمون بإسلامهم، يُتَّهمون اليوم، بالتقوقع في الماضي والعكوف على القديم الذي فات أوانه.. ويتهمون بالتعصب والتزمت.. ويتهمون بتكريس أسباب التخلف...
ومهمة القضاء في مثل هذه الحال - لو كانت للقضاء كلمة في مثل هذه الاتهامات - هي معرفة المعنى المراد بهذه الاتهامات والوقوف على الضوابط المنطقية لها أولاً، ثم إجراء تحقيق يكشف عن مدى صدق هذه الاتهامات، وصحة تلبس المتهَمين بها ثانياً. وبطبيعة الحال لا بدّ أن تكون الغاية المرسومة من وراء هاتين الخطوتين، النطق بالحكم وبالقرار العدل في هذا الأمر.
ولو كان في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، قضاء عادل، من هذا القبيل، يخوَّل النظر في مثل هذه الاتهامات، إذن لاستراحت الأطراف، وسارت الأمور الثقافية والفكرية هي الأخرى على سنن الاستقامة والانضباط والعدل.
ولكن ليس في مجتمعاتنا ولا في المجتمعات الأخرى قضاء يعهد إليه النظرُ في مثل هذه الدعاوى والاتهامات.. ربما لقناعة هذه المجتمعات والقائمين على أمرها أن الحوار العلمي والثقافي هو الضمانة المفضلة، لبلوغ الغاية المثلى، ولتحقيق العدالة بين الأطراف.
وإنها لقناعة سليمة بحدّ ذاتها، لا مجال - في نطاق الدراية الموضوعة - للارتياب فيها.
غير أن هذا الحوار العلمي والثقافي يتطلب أجواءَه ومنابره الخاصة به.. ثم إنه يتطلب قبل ذلك الرغبة المتبادلة في اللجوء إلى هذا الحوار والموافقة التامة على تحكيم جماهير الأمة في سيره وقرار العدالة العلمية بشأنه.
هذه المتطلبات للحوار العلمي والثقافي غير متوفرة في أكثر مجتمعاتنا اليوم، وربما كان ذلك أحد مظاهر التخلف الذي نعانيه، ولا ندري؛ فلعل المسلمين المتمسكين بإسلامهم هم الذين يتحملون مسؤولية هذه الظاهرة التخلفية أيضاً..!
وهكذا فإن توجيه هذه الاتهامات يأخذ حظه من الانتشار بكل الوسائل الممكنة.. وأصحاب هذه الدعاوى، يتفننون في التعبير عن ادعاءاتهم ولصقها بالناس كما يشتهون.. فإذا فتحت محاضر النقاش والبحث المتبادل والحوار المواجه، أعرض المتهِمون والمدعون، وانطلقوا كلٌ في اتجاهٍ وصوب لا يلوي واحد منهم على أحد..!
هذا، على أن ضرورة النقاش والحوار المتبادل في مثل هذه الحال، ذات أهمية مضاعفة. إذ إن هذه الضرورة لا تعود لمصلحة واحد من الطرفين دون الآخر، بل تعود بالخير لكلا الطرفين؛ إذ ربما كان المتَّهِمون على حق، والمسلمون الذين هم محط الاتهام لا يدركون ذلك.. فمن الخير للمتَّهِمين أن يتقابلوا مع خصومهم على مائدة البحث والحوار، حتى يتبين أن اتهاماتهم ليست مجحفة ولا ظالمة، وإنما هي قائمة على دعائم المنطق والعدل.. وربما كان الآخرون على حق، فمن الخير أيضاً أن يتبين ذلك بالنقاش والحوار المتبادل. وإذا كانت الأطراف كلها لا تبغي من وراء خصوماتها واتهاماتها إلا بلوغ الحقيقة والدفاع عنها، فما أيسر السبيل إلى ذلك، وما أقدسها من خلافات، أو حتى اتهامات، تتهارج ظاهراً، ولكنها تسعى متعاونة بذلك إلى بلوغ الحق باطناً.
ولكن ما السبيل الذي لا بدّ منه، عندما يفضل أصحاب الدعاوى والاتهامات، أن يصوبوا اتهاماتهم، حتى إذا قذفوا بها خصومهم، انطلقوا سراعاً مدبرين لا يلوون على شيء؟
لا سبيل في هذه الحال سوى أن نتبعهم ونحاورهم ونحن نركض وراءهم، على طريقة الحوار الذي أجراه ذلك الفقيه الذي قالوا إنه كان يسير في طريق خاوٍ ليس فيه أحد، فمرّ به رجل أعجبته القلنسوة الجميلة التي كانت على رأسه، فخطفها من رأسه وانطلق مسرعاً لا يلوي.. فأسرع الفقيه وراءه ينادي: يا هذا، وهبتك القلنسوة، قل: قبلت..!
فنحن لا نريد، عندما يصوب هؤلاء الناس اتهاماتهم نحونا، ثم يدبرون مسرعين، سوى أن نلحقهم لإبراء الذمة، كانت ذمَّتنا أو ذمَّتهم، على طريقة هذا الفقيه المتورع الأمين.
وأنا في هذه الفصول الحوارية التي كتبتها هنا، إنما أركض لاهثاً، وراء هؤلاء الإخوة المدعين والمتَّهِمين، ألاحقهم بحوار علمي هادئ لعله يبلغ أسماعهم، فيسري إلى عقولهم، فيضعونه موضع التدبر والتأمل الموضوعي من أفكارهم..!
وحواري في هذه الفصول كلها يدور حول نقاط كلية وأساسية هي:
أ- هل الحضارة، في حياة أمة ذات أصالة وسيادة، بنيان كلي متكامل متناسق، أم إنها يمكن أن تكون مزقاً مجمّعة من هنا وهناك، ثم أن يلصق بعضها ببعض على نحو ما؟
ب- أين مركز الإسلام في وحدتنا الحضارية أو بنياننا الحضاري؟ هل هو الأساس الثابت أم هو الفروع المتطورة والمتبدلة فيه؟ ثم هل الإسلام تراث حضاري بحدّ ذاته أم هو الأداة المثلى التي أكرم الله بها الإنسان لإقامة المجتمع الإنساني السليم وبلوغ الحضارة الإنسانية الراسخة؟
جـ- الاجتهاد الذي هو أساس هام من أسس الشريعة الإسلامية، ما الدافع إليه وما الباعث على شرعته؛ أهو عمل شكلي تنظيمي يُبتغى منه إدخال ما نشاء إدخاله في تشريعاتنا الاجتماعية، بشرط تمريره تحت قنطرة الاجتهاد، بدلاً من النوافذ التي تتخذ لمجرد إدخال النور وتمرير الهواء الطلق، أم هو حجة علمية يمسك بها المجتهد، ليمضي بها إلى الموقف الذي سيقفه بين يدي رب العالمين فيدافع بها عن نفسه، وتكون شاهداً له على عدم انحرافه وتفريطه وعلى تمسكه بالميزان العلمي الذي كان موضوعاً بين يديه في دار الدنيا للدراية والتحكيم؟
د- هل نحن صادقون مع أنفسنا فيما نخفي ونعلن.. فلا نرتدي فوق منابر البحث والكلام أمام الجماهير ثوباً، ثم نخلعه إذا ما خلونا بأنفسنا؟ وهذا السؤال يتوجه في غضون بحوثي التالية إلى كثير من المسلمين، بل الدعاة من المسلمين، قبل أن يتوجه إلى غيرهم.
فهذه النقاط الأربع، يمثّل كل منها أساساً هاماً لاتجاهات ومثارات فرعية كثيرة.. ولو أن الأطراف المختلفة في عالمنا العربي والإسلامي أبرزت مواقفها الحقيقية من هذه النقاط، وعرض كل منها وجهات نظره في مشكلات الحضارة وقضايا الإنسان والاجتماع، انطلاقاً من يقينه الجازم الذي يتبناه عن هذه النقاط الأساسية الكبرى، إذن لانتهت سلسلة الجدل والنقاش، ولما تشتت الباحثون بعضهم عن بعض في طرائق وأودية فكرية متباعدة دون أن يتبينوا لذلك سبباً ولا مسوغاً.
غير أن الواقع الذي نعانيه هو أن الأطراف التي تتهم في بحوثها المسلمين المتمسكين بإسلامهم بالجمود والتقوقع والفرار من مسؤولية الاجتهاد، تحاول جاهدة ألا تحرج نفسها في إجابة حاسمة عن هذه الأسئلة الأربعة، وألا تكشف أوراقها الخفية التي تتعلق بموقفها الحقيقي من هذه النقاط.. ثم تستمر هذه الأطراف، مع ذلك ماضية في دعاويها واتهاماتها ومطالبها، لا على موائد البحث والنقاش المتبادلين، ولكن فوق المنابر المتحركة السريعة التي تأبى أن تقف أمام وجه أي مستفسر ومحاور..!
سيقول القارئ: فما جدوى الحوار الذي تعقده في هذا الكتاب إذن..؟ ما جدوى الحوار إذا كان الذين تحاورهم يسرعون مدبرين، دون أن تملك وضعهم في أي موقف مما تناقشهم فيه أو تدعوهم إليه، ودون أن تأخذ منهم في النهاية حقاً ولا باطلاً، فضلاً عن أن تتلاقى معهم على صراط من التفاهم والاتفاق؟
والجواب أننا نبتغي من هذا الحوار هدفين اثنين:
أولهما: إبراء الذمة ما أمكن تجاه هؤلاء الإخوة الذين يصوّبون إلينا اتهاماتهم ويطرحون نظرياتهم، ثم يولون مدبرين.. فإنا لا نستبعد إن لحقناهم مسرعين نناديهم بمنطق العلم ودوافع الحب والشفقة، أن تبلغ الكلمات آذانهم فتسري إلى عقولهم فتحرك فيهم مشاعر الموضوعية وحب الانقياد للحق.. ومهما يكن، فإن شفقتنا عليهم ما ينبغي أن تكون أقل من شفقة ذلك الفقيه على من خطف قلنسوته وانطلق بها مسرعاً، فتبعه مصراً على أن يعلّمه كيف يدخلها في ملكه بطريق شرعي..!
ثانيهما: تجلية الأمر بدلائله المنطقية وروحه الموضوعية، أمام جمهرة الناس وسوادهم، أولئك الذين ينصتون لما يسمعونه بتدبر، ويقرؤون ما يقع تحت أبصارهم بنهم وجدّ.. على اختلاف فئاتهم وميولهم ومذاهبهم.
فهؤلاء الناس، ما ينبغي أن يسمعوا من طرف واحد.. ولا بدّ من أن نوفر لهم جواً حوارياً كالذي يكون في ندوة جامعة، يدور فيها النقاش، وتتلاقح الآراء، ثم يستبين فيها الحق.. إن لم يتيسر ذلك في مكان جامع أو على صفحاتٍ من مجلة أو كتاب، فإن بوسع هذا الجمهور المتلهف على القراءة والبحث، أن يجمع أطراف الحوار من شتات، وأن يلاحق الفكرة ونقدها والنظرية ونقاشها، ويقيم من ذلك كله ندوة فكرية أمام بصره، وأن يحيلها إلى نقاش حيّ يتخذ مجراه العلمي في داخل ذهنه.
إني لأعلم أن في هؤلاء الناس الذين يجتاح النّهم الثقافي عقولهم وأفئدتهم، من يجمع قصاصات الآراء والأفكار المسجلة في صحف أو مجلات، ثم يضم إليها ما يلتقطه من الانتقادات والردود الموجهة إليها، ويؤلف في مجموعها ما يشبه ملتقى لأفكار متخالفة - بل متناقضة - شتى، ثم يستخلص منها بجهده الفكري الدائب، وحياده العلمي الذي لا غرض له من ورائه، ما يمكن أن يكون زبدة القول وفصل الخطاب.
هؤلاء الناس يمثّلون اليوم غالبية عظمى للجيل الصاعد المثقف. دعك من قلةٍ تسخّر معارفها لمصالحها، وتصرف عقلها لما تقضي به عصبيتها.. ولكن انظر إلى جلّهم وعامتهم؛ كيف يسعون وراء غذاء العقل قبل غذاء الجسد، ويلاحقون بدراهمهم الزهيدة أحدث ما تنشره المكتبات في باب المعارف والثقافة والعلوم، ويتَّبعون الحوارات العلمية، ويصغون إلى المناقشات الفكرية، باحثين في نشوة بالغة عن الحقيقة أينما كانت، عازمين على اعتناقها أياً كانت.
ولا ريب أن هذا التعشق للمعرفة في أفئدة غالبية الجيل الصاعد، يمثّل أهم عوامل الصحوة الإسلامية التي تجتاح العالم العربي والإسلامي، وتسري أشعته إلى ربوع الغرب وعالم ما وراء البحار[*].
فتلك هي الفائدة التي نتوخاها من الحوار من طرف واحد.
صحيح أنه هنا في هذا الكتاب ذو طرف واحد، ولكنه لن يبلغ سمع أصحاب الاتهامات والدعاوى التي أشرنا إليها، إلا ويصبح ذا طرفين متكاملين.. فإن تحققت الموضوعية وتغلب الرشد على الغي فإنه يغدو مثمراً أيضاً.
وأما إن لم تتحقق الموضوعية ولم يتغلب جانب الرشد، فلنا في الجماهير المتعطشة إلى المعرفة العلمية والفكرية الصافية عن كل الشوائب والأخلاط، ما يغني عن أي شيء آخر.
يدور حواري في فصول هذا الكتاب، حول النقاط الأربع الأساسية التي طرحتها في هذه المقدمة قبل قليل، أمام كل من يبحث اليوم في شؤون الحضارة العربية ويعالج مشكلات التخلف ويقترح لها المخارج والحلول.
وبوسعي أن أجزم بأن أحداً ممن يتهم المسلمين بالتقوقع والجمود، ويطرح حلاً لا ثاني له بنظره، ألا وهو الاستسلام لمصير الوحدة الحضارية، أو التوفيق - كما يسمونه - بين الحضارتين الإسلامية والغربية.. أقول: بوسعي أن أجزم بأن أحداً من هؤلاء لم يتخذ موقفاً صريحاً واضحاً من أي هذه النقاط الأساسية بعد..!
وإنني لعلى يقين من أن موقفاً صريحاً صادقاً شافياً لو اتخذ من قبل سائر الكاتبين والباحثين، من هذه النقاط الأربع، لانتهى البحث واللجاج، إما إلى اتفاق واجتماع على صراط فكري وسلوكي واحد، وإما إلى تغاير كلي في السبل والمنطلقات.
وكلتا النتيجتين تأتي بالراحة المطلوبة، وتنهي اللجج الذي يتوالد دون غاية ولا حد.
أما نحن، الذين اصطبغنا بالإسلام يقيناً علمياً، ثم تأثراً وجدانياً، وعرفناه من خلال معرفتنا لأنفسنا، عبيداً مملوكين لقيوم السماوات والأرض، فإنا نعدُّ الوقوف عند هذه النقاط الأربع باتخاذ موقف صريح صادق منها، هو القنطرة التي لا بدّ من اجتيازها إلى أي حوار علمي مجد حول مشكلة التخلف والحضارات.
وطالما أعلنا ذلك وكررناه.. وسنكرره في الفصول التالية من جديد.. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
محمد سعيد رمضان البوطي
في هذا الكتاب يضع المؤلف يده على مشكلات مهمة كثر فيها الجدال والأخذ والردّ؛ فيعرضها أولاً ويشير إلى الملابسات فيها، ثم يناقشها مناقشة علمية تقوم على الحجة والدليل والحقائق الواقعية، ليخرج منها إلى نتيجة واضحة لا لبس فيها.
ناقش في الكتاب ست مشكلات من المشكلات التي أفرزتها الحضارة، وأهمت المثقفين وهي: هل الدين ظاهرة اجتماعية؟
الشخصية الإسلامية في مواجهة المركزية الغربية.
صيغة للتوفيق بين الحضارتين الإسلامية والغربية.
الحرية بين المذاهب الفلسفية والموقف الإسلامي.
الاجتهاد ودوره في الحياة المعاصرة.
الصحوة الإسلامية وأهم الآفات المحدقة بها.
كتاب يهمّ كل مثقف يبحث عن مشكلاتنا الحضارية.
هذا الكتاب يقوم حول قضايا مصيرية؛ تستبين من خلالها هويات الأمم ويشاد فوقها بنيانها الحضاري، وهي قضايا الفكر والعلم.
يتناول الكتاب مجموع المشكلات التي يناقشها واحدة واحدة؛ فبدأ بسؤال يقول: (هل الدين ظاهرة اجتماعية؟) وناقشه بما ينظر الغربيون إلى الدين، وبين موقفهم منه، والفرق بينهم وبين المسلمين والإسلام في ذلك.
وانتقل إلى موضوع (الشخصية الإسلامية في مواجهة المركزية الغربية) فتحدث عن انجذاب المسلمين نحو الحضارة الغربية، والعوامل التي أدت إليه، ودور الغرب في إيجاد ما سمي بالمدرسة الإصلاحية وبيان حقيقتها.
وتوقف عند مشكلة (البحث عن صيغة للتوفيق بين الحضارتين الإسلامية والغربية) فصحح أخطاء شائعة في كلام من يتحدث عنهما في أصولهما. وبين الأسباب التي تجعل فكرة التوفيق بينهما أسلوباً من التلاعب. وبحث في كيفية السبيل لمجابهة طوفان الحضارة الغربية والخطوات اللازمة لذلك.
وتناول المؤلف بعدئذ (مشكلة الحرية بين المذاهب الفلسفية والموقف الإسلامي) فعالجها معالجة فلسفية وبيّن حقيقتها، وبين موضوع الحرية في مفهوم الإسلام.
ثم بحث في مشكلة (الاجتهاد في الشريعة الإسلامية: حقيقته، مجالاته، أقسامه، حجيته، آثاره)؛ فعرّف كل ذلك وبينه بياناً فقهياً وفلسفياً، وتحدث عن ضوابطه، وأشار إلى ما يمكن أن نأخذ منه لعصرنا.
وختم الكتاب بمشكلة (الصحوة الإسلامية وأهم الآفات المحدقة بها)؛ فذكر ظاهرة جديدة قامت في الملتقى الفكري الثامن عشر المنعقد بالجزائر، وأشار إلى ربط بعض الناس اليقظة الإسلامية بالتخلف الذي يعاني منه المسلمون وردّه، ثم بين مظاهر الصحوة الإسلامية، وأنهى مناقشة هذه المشكلة بآفات الصحوة الإسلامية وعلاجها.