قبل أن ينصرم العام الحالي 2023، ثمة حيثيات كثيرة قد يكون واجباً تناولها بصدد حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي ضدّ المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة؛ في عدادها، وتماشياً مع نهج هذه السطور في هذا العمود، وقفة مع إصدارات العام من مؤلفات تخصّ فلسطين، وربما قطاع غزّة تحديداً. ولأنها متعددة الميادين والاختصاصات، أو المناهج والنُظُم الدراسية، فقد يكون مفيداً التشديد على حقل بحثي واحد محدد؛ مثل أعمال الأركيولوجيا وما يمكن أن تسفر عنه من نتائج تخصّ تصويب التاريخ، أو حتى تعديل بعض مسلّمات كبرى رُسّخت في حولياته لأسباب بريئة تارة أو خبيثة تارة أخرى.
كتاب أوّل تحت عنوان “مريم المجدلية: تاريخ بصري”، من ديان أبوستولوس – كابادونا أستاذة الفنون الدينية والتاريخ الثقافي في جامعة جورجتاون؛ ويحتوي، كما يشير عنوانه، على 65 من اللوحات المختلفة التي ترسم ملامح امرأة خضعت على الدوام لمزيج من التبريك والتشكيك، من “امرأة خرج منها سبعة شياطين” حسب إنجيل لوقا، إلى قديسة ظهر لها المسيح بعد صلبه حسب إنجيل يوحنا. ولعلّ أبرز الجديد في هذا العمل المتميز أنه يقيم تقاطعات تمحيصية معمقة بين معطيات النصوص الدينية وإرث الآباء الكنسيين على مرّ العصور، وما تقوله خلاصات آثارية ملموسة؛ وأنه، أيضاً، يختار منهجية صارمة تضع السرديات حول المجدلية، الشرقية منها والغربية، على محكّ أدوات النقد الثقافي المعاصرة.
كتاب ثانٍ هو طبعة أخرى جديدة من كتاب “الأرض المقدسة وسوريا”، للرحالة والجغرافي الأمريكي فرانك جورج كاربنتر (1855-1924)، الذي صدر للمرّة الأولى سنة 1922؛ وليس للمرء أن يتخيّل اعتباراً خاصاً، ملّحاً، لإعادة إصداره بعد 100 سنة ونيف، سوى أنه يخدم طائفة من الأغراض الاستشراقية والاستعمارية و… الصهيونية، أوّلاً ربما. ذلك لأنّ ترحال كاربنتر لم يستهدف سوى تثبيت “المهمة التمدينية” للانتداب البريطاني في فلسطين، من جهة أولى؛ وامتداح المشروع الصهيوني، وتثبيت اخضرار “صحارى الأرض الموعودة” (!) على أيدي الهجرات اليهودية المتعاقبة، من جهة ثانية. ولا عجب أنّ كاربنتر يفتتح كتابه بهذه العبارة: “700 سنة من هيمنة المسلمين على الأرض المقدسة انتهت مع الدخول المتواضع للجنرال أللنبي إلى القدس. وهناك دوّت الصرخة: ها قد حلّ يوم الخلاص!”.
كتاب ثالث، وغير بعيد عن أن يكون الأهمّ ضمن هذه المجموعة، يحمل عنوان “أركيولوجيا ناصرة يسوع”، وفيه يقطع الآثاري البريطاني كين دارك خطوة أخرى حاسمة في مسار حافل غاص عميقاً، وعلى غير المألوف الشائع، في حفريات الناصرة الفلسطينية. وكما في كتابه الأوّل “راهبات دير الناصرة”، 2016؛ وكتابه الثاني “المرحلة الرومانية والناصرة البيزنطية وسياجها الخلفي”، 2020؛ يتجاوز دارك سرديات الأناجيل حول سكنى يسوع وعيشه في المدينة مطلع القرن الأوّل الميلادي، إلى مسعى أكثر منفعة ودلالة في يقينه: الإجابة عن جمهرة من الأسئلة التي يطرحها الناس العاديون، وليس علماء الآثار أو أهل الاختصاص وباحثي الدراسات التوراتية. وهو، منذ مقدّمة كتابه، يعلن التالي: “لستُ في الناصرة تحت صفة ‘باحث توراتي’، يدرس ما يمكن لعلم الآثار أن يقوله عن التوراة. هذا نظام دراسي لم يعد بالكاد حاضراً في بريطانيا القرن الحادي والعشرين. في المقابل، جئت إلى الناصرة للتدقيق في الدليل الأركيولوجي على الناصرة بوصفها مركزّ حجّ بيزنطياً”.
واختيار الموضوع الأركيولوجي في هذه السطور، على سبيل اختتام الـ2023، إنما يُستمدّ أيضاً من حقيقة أنّ المؤسسة الصهيونية، قبل زمن طويل يسبق إعلان تأسيس الكيان الإسرائيلي، انفردت عن العالم بأسره في تحويل علم الآثار إلى ما يقترب من الديانة؛ وبما يتجاوز بكثير علم الحفريات في التاريخ الغابر، وتذهب وظائفه أبعد من إضاءة الماضي أو استكشاف حلقات غامضة في السجلّ الإنساني. وكان نيل سيبرمان، مؤلف كتاب “نبيّ من بين ظهرانينا”، الذي يروي سيرة إيغال يادين “المحارب وعالم الآثار وصانع أسطورة اسرائيل الحديثة”؛ قد اقترح المقولة اللافتة التالية: التنقيب عن الآثار اليهودية في أرض فلسطين التاريخية كان بمثابة “ترخيص شعري للاستيطان الاسرائيلي المعاصر”؛ بحيث تنقلب الرقيمات والألواح المكتشفة إلى ما يشبه عقود ملكية العقارات المعاصرة في شتى أرجاء فلسطين، مع فارق أنها عقود مقدّسة مكتوبة بمداد الآلهة.
وقد انحصرت مهمة علم الآثار الصهيوني في إثبات هذا الزعم أو ذاك حول تاريخ اليهود في فلسطين التاريخية، وليس التنقيب عن الموادّ الناقصة في تاريخ يحتمل درجة علمية نسبية من الإجماع أو الاختلاف. وذات يوم كان المدير العام للآثار والمتاحف في دولة الاحتلال قد قطع ذلك الشوط، القصير الأخير، بين الحلم الأقصى والهستيريا المفتوحة؛ حين اقترح إعادة تحقيب التاريخ الإنساني على النحو (اليهودي، الحصري!) التالي: عصر الحديد نسمّيه “عصر بني إسرائيل”، والهيلليني هو “الحشموني”، والروماني يصبح “عصر الميشنا”، والبيزنطي ينقلب إلى “التلمودي”…
ولا عجب أنّ أركيولوجيا فلسطين، هذا العام فقط، فكيف بـ75 سنة سابقة؛ ضمّت ناصرة يسوع إلى قدس الجنرال أللنبي؛ وبينهما ما هو أبعد من باب العمود، والأقصى، وتلّة المغاربة و… غزّة العزّة!