تخطي إلى المحتوى
محاكمة "الاستغراب".. قراءات نقدية متعددة لمشروع حسن حنفي الفكري... 2/3 محاكمة "الاستغراب".. قراءات نقدية متعددة لمشروع حسن حنفي الفكري... 2/3 > محاكمة "الاستغراب".. قراءات نقدية متعددة لمشروع حسن حنفي الفكري... 2/3

محاكمة "الاستغراب".. قراءات نقدية متعددة لمشروع حسن حنفي الفكري... 2/3

الاستشراق مدان

في محاولة للتعرف على مستقبل ومصير مشروع علم الاستغراب للدكتور حسن حنفي، يقول الدكتور أنور مغيث أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بكلية الآداب جامعة حلوان، والمدير السابق للمركز القومي للترجمة: "علم الاستغراب إذا اعتبرناه علما، فهو علم حديث، جاء مقابلا لعلم الاستشراق".

ويكمل مغيث: "علم الاستشراق تعرض لانتقادات شديدة جدا مؤخرا، بعد أن كان علم له مكانته ووضعه الكبير، من ضمن هذه الانتقادات، أنه يحول الشرق إلى جوهر غير تاريخي ثابت له سمات محددة، الشرقيون متعلقون بالنساء، الشرقيون غيورون، الشرقيون متوائمون مع الاستبداد، وهكذا أحكام عامة على الجميع، تعبر عن الجوهر الثابت للإنسان الشرقي، وهذا عيب لأنه يخرج الشرق من التأثيرات التاريخية، وعيب أيضا لأن الاستشراق كما يراه المفكر المصري الراحل الدكتور أنور عبد الملك ربما كان مفيدا في لحظة ما، عندما كان الشرق خاملا، ولكن الآن وقد أصبحت فيه دول وحركات تحرر وثورات ومساندات، لم يعد الاستشراق مناسبا لشعوب الشرق، لأنها أصبحت شعوب متحركة متفاعلة مع واقعها، أيضا لدينا نقد إدوارد سعيد للاستشراق".

مستقبل غائم

كل هذه الاعتراضات على الاستشراق تبدو منعكسة على الاستغراب، ويؤخذ عليه المأخذ نفسه، إنه يتكلم عن الغرب على أنه وحدة واحدة، وجوهر واحد، وله تصور نمطي عن الغرب، أنه قاهر ومستبد وفقط، وفي الوقت نفسه، هو عبارة عن تصورات مع الغرب وليس الغرب كله، وبالتالي هو علم من الناحية المعرفية مطعون في تأسيسه، سألنا الدكتور مغيث:

  • كيف ترى علم الاستغراب؟ وهل ترى أن الدكتور حنفي وضع أسسه الفكرية لمواجهة الاستشراق كعلم أم لمواجهة الغرب الاستعماري؟

يجيب: الاستشراق مرت عليه قرون يعمل وينتج معرفة، أما الاستغراب فلم تمر عليه عقود، والحصيلة في النهاية أنه لا شيء، ومن مبررات التأسيس التي قدمها الدكتور حسن حنفي "أنني كنت أنا الموضوع وأنا المدروس، الآن سأحول الدفة ويصبح الغربي هو المدروس وأنا الدارس، كل هذا كفيل أن ينتج أحكاما ولا يدرس معارف، لن نحصل منه على معرفة جديدة، وإنما على أحكام، بأن هذا غرور، وأن هذا كبرياء، وأن هذه غطرسة، وأن هذا استبداد، وأن هذا توحش، أحكام كثيرة، ليست خاطئة، ولكن ليس هذا ما ننتظره، العلم مفروض أن ينتج معرفة وليس أحكاما أخلاقية وقيمية على الآخرين.

ومن هنا أعتقد أنه ليس للاستغراب مستقبل كبير ينتظره.

مشروع التراث والتجديد تنبيه لنا جميعا أن نولي وجهنا شطر التراث لكي نستمد منه عونا في إصلاح وضعنا للأفضل، أما الاستغراب فهو كيف ينظر الشرقي إلى الغرب، وفي مقدمة علم الاستغراب يقدم حنفي المبررات حول كونه علما جديدا، أما باقي الكتاب فهو عبارة عن عرض للفلسفات الغربية، قال ديكارت، ثم جاء سبينوزا فقال كذا.

من ناحية أخرى أرى أن وضع الاستغراب قلق، لأنه يربط الحقيقة بالهوية، والعلم معناه البحث عن الحقيقة، أو دراسة ظواهر وإصدار نظرية، ثم ننظر السعة التفسيرية للظاهرة، وبالتالي أنا أبحث عن النظرية التي تستطيع أن تقدم لي أصدق تفسير للظاهرة، ومن ضمن التفسيرات لعلم الاستغراب أنه يستنكر تطبيق النظريات الغربية على المجتمعات الشرقية، وبالتالي فليس المعيار هل خرجت من عندنا أم جاءت من الخارج؟ أنما المعيار هو: هل لديها القدرة على تفسير الظاهرة أم لا؟ وهذا الطريق الذي يأخذنا إليه الاستغراب، هو طريق غير مريح معرفيا.

والاستغراب مشروع للدكتور حسن حنفي ظهر متأخرا عن مشروع "التراث والتجديد" لكن بينهما صلة، الدكتور حسن حنفي له سعة اطلاع واسعة ومتبحر في الفلسفة الغربية وترجم عنها ومتحدث للغات كثيرة ويعرف الفلسفة الغربية معرفة جيدة، لكنه كان يرى أن الاستعانة بالفلسفة الغربية غير فعال في إصلاح الواقعين العربي والإسلامي، إنما ينبغي تقديم نظرة ثورية للتراث، تحمل معاني التراث المستقرة في وعي الجماهير بمطالبها المعاصرة، مثل الحرية وتحرير الأرض والعدالة الاجتماعية وغيرها.

وعندما عرض علي الموضوع قلت له، وماذا فعل أساتذتنا؟ زكي نجيب محمود وتوفيق الطويل وعثمان أمين، وهم درسوا الغرب، وكتبوا عن ديكارت، وعن راسل وعن فلاسفة غربيين كثر، فقال لي: الأمر يختلف، وأردت أن أتلمس هذا الاختلاف فيما كتب فلم أتبينه".

ويتساءل مغيث: إذن ما الجديد هنا؟

مشروع غير مجدي لفهم العالم

ويجيب: "الاستغراب أيضا روج لفكرة غريبة، أن أي مسلم أو عربي يتبنى نظرية أو مذهبا غربيا يحكم عليه بأن يكون تابعا للفكر الغربي، وهذا كلام سخيف جدا (على حد تعبير أنور مغيث)، لأنه لا يوجد شيء اسمه تابع للفكر الغربي، لأنه إذا أعجبتني الماركسية فقد لا تعجبني البراغماتية، وإذا استهوتني الوجودية فلن أطيق المنطقية، وأنا أنتخب معارف أميل إليها، وهذه حريتي، لكن أن يوصم كل من يتبنى فكرا أو نظرية غربية بأنه تابع للفكر الغربي، فهذا غير مقبول.

الأمر الثالث الذي انطلق منه مفهوم الاستغراب، أن ما يطلق عليه العقلانية لديكارت أو التنوير للفلاسفة لوك وروسو وفولتير، ما هي إلا أيديولوجيا غربية الهدف منها الهيمنة والسيطرة على العالم.

وهذا غير صحيح، هؤلاء الناس لم يكتبوا لكي يستعمروا الأرض، بل بالعكس كتبوا لتحرير شعوبهم، ودفعوا أثمانا باهظة لأفكارهم، دخلوا السجن، ونفوا، وحرقت كتبهم، ولم يكونوا أبواق دعاية لقوى عسكرية استعمارية باطشة، طبعا هناك قوى عسكرية باطشة في الغرب لا تعفيهم من الإجرام الاستعماري، لكن في النهاية لا ينفع أن أبدأ التعامل مع كل فكرة مضيئة على أنها جزء من جهاز الدعاية الغربية.

وبالتالي، من وجهة نظري الخاصة، فإن مشروع الاستغراب ليس مشروعا مريحا من الناحية المعرفية، وليس مشروعا مثمرا للإنسان العربي في محاولته لفهم العالم الذي يعيش فيه".

حنفي نادما

  • هل ندم الدكتور حسن حنفي على مشروعه الفكري؟

يجيب الدكتور مغيث: نعم ندم، وعبر عن ندمه أمامي في إحدى الجلسات عندما انتقد اهتمامه اللازم بفكرة التراث وكيف أساء تلاميذه فهمه وحولوه إلى الانغلاق عن الهوية، وأصبح سارتر أو ماركس أو جون ديوي مرفوضين لأنهم ولدوا خارج العالم الإسلامي، وليس لأن فكرهم به عيب ما، وأنه لم يبذل أحدا جهده لنقد هؤلاء الفلاسفة أو تبيين أوجه القصور في تفكيرهم، ولأنهم نشؤوا في سياق غربي يكونون غير ملائمين لنا.

وإن كنت لا أدرك ما هي مشاعر الدكتور حسن حنفي، ولكنه كان يقول: "كنت أتمنى أن أفتح طريقا، وأنشر النور، ولكن أجد من استخدمني لينغلق"، وهذا الكلام كرره أكثر من مرة، ولكن حسب ظني أن الدكتور حسن حنفي الذي كان صاحب مشاريع مهمة، وبالفعل بذل فيها مجهودا كبيرا، وترك لنا إنتاجا مهما، تكون حالته النفسية فيما يخص إنتاجه حالة توتر، وغالبا ما يحمل على الترجمة حملا رهيبا، ويطالبنا بأن نكف عن الترجمة وننتج، ثم نفاجأ بعد هذا الكلام أنه يترجم.

ثم يتكلم عن السياق الغربي غير الملائم لنا كشرقيين، ثم يكتب عن سارتر وفيشته وفويرباخ، ويكتب بإعجاب لا مهاجما ولا ناقدا ولا مزلزلا لنظرياتهم، وبالتالي كان صاحب مشروع عميق ومتعدد الجوانب، ومن هنا أحيانا ينقلب على وجهه التراثي، ويبدأ يتكلم عن الحداثة والعقلانية، وأنه يجب أن نبدأ المسار من أوله، عقلانية، ثم مادية، ثم ديمقراطية، وأحيانا ينقلب على الوجه الغربي ثم يتحدث عن أننا يجب أن ننطلق من التراث الذي يطلق عليه المخزون النفسي عند الجماهير.

والندم كلمة ربما كان يرددها ليلقي علينا نحن تلاميذه باللوم لأننا لم نواصل مشواره على الوجه الذي يليق به.

الاستغراب في مواجهة الهيمنة

  • إذا كان الاستشراق هو رافد للاستعمار الغربي ضد العرب والمسلمين وأداة للاستعمار البشع، قد يكون الاستغراب رافدا لمقاومته، ومواجهة التحدي الغربي والحفاظ على هوية الأمة وثوابتها والنهوض بها حضاريا وماديا، فما رأيك؟

يجيب الدكتور أنور: أعتقد أن البشاعة والعدوان لا سبيل عمليا لهما سوى المقاومة وليس الفكر فقط، وأما الهيمنة الغربية فهي لم تأت نتيجة اعتقاداتنا بأفكار غربية، بل أتت نتيجة للهيمنة الاقتصادية والهيمنة السياسية، وبالتالي لا سبيل للتخلص من الهيمنة بالأفكار، بل السبيل أننا نبدأ لنأخذ طريقا للتنمية الاقتصادية المستقلة، وطريقا للاستقلال السياسي، وطريقا لتقوية أنفسنا من خلال علاقات مع جيران في موقعنا نفسه، إنما أن يكون هناك مشروع فكري هو الذي سيوقف الهيمنة رغم تبعيتنا السياسية والاقتصادية، لا أظن أن هذا يفيد.

وعلم الاستغراب أقولها صراحة لن يمثل مواجهة ولا هيمنة، ولكنه يمثل إما هروبا وإما عزاء، نحن بالتأكيد نشعر بالأسى وبالعجز، والاستغراب ممكن يقدم لنا هنا عزاء من تراثنا وهويتنا وأفكار لدينا ما زالت لها قيمة وبالتالي ليس هذا بالضبط هو مواجهة الهيمنة.

وأظن الإجابة الواضحة والبديهية التي قدمها مفكرو النهضة الأوائل مثل أحمد لطفي السيد وخير الدين التونسي وطه حسين وسلامة موسى وغيرهم، أنه لا سبيل بمواجهة الغرب إلا بتبني نمط الحياة الغربية نفسه من صناعة وعقلانية وتحرر.

وهذا ما فهمه علماء اليابان، ثم علماء الصين، ليس بالعودة للتراث وإبرازه في مواجهة الأفكار الغربية، بل بالعكس تبني هذه الأفكار من اقتصاد ونظم سياسية، واليابان في بداية القرن الـ19 تبنت الحياة البرلمانية وتبنت الدستور، وتخلت عن قداسة الإمبراطور، وتبنت تحرير المرأة ومساواتها بالرجل، وهذا ما كان يهدف إليه مفكرو النهضة العربية لإقناعنا به.

ولكن اعتبرنا ذلك عمالة للغرب، رغم أنهم قالوا وبشكل واضح إنه مشروع لمواجهة الغرب ولتحقيق مكانتنا وسط هذا العالم، وأظن أن هذه الفكرة ما زالت صالحة، أما العودة إلى الاستغراب ورؤية الغرب وإطلاق الأحكام عليه، يعد هذا نكوصا وليس مواجهة للهيمنة.

المصدر: 
الجزيرة