حين ظهرت الصحافة المصرية، منذ أكثر من قرن ونصف القرن، كان يغلب عليها الطابع الفكاهي الساخر، ومن يراجع تاريخ الصحافة، سيذهله هذا الكم الهائل من المجلات الساخرة، التي كانت تصدر في مصر أوائل القرن الماضي، تلك المجلات التي تطوّرت تطوّراً كبيراً في العشرينيات، ثمّ بلغت ذروتها في الأربعينيات، من خلال مجموعة من الصحف، مثل: (البعكوكة)، و(أبو نظارة)، و(كلمة ونص)، و(الفكاهة)، و(التنكيت والتبكيت)، و(الأستاذ)، و(الاثنين والدنيا)، و(ألف نكتة ونكتة)، و(السيف)، و(المسامير) و(أبو فصادة)، و(أبو شادوف)، و(الخازوق)، و(أبو قردان)، و(اشمعنى) و(المطرقة)، و(أبوالهول)، و(اضحك)، و(المنارة)، و(ألف صنف).
وأدى هذا الازدهار في الصحافة الفكاهية، إلى ظهور كوكبة من الساخرين الظرفاء من أدباء مصر ومفكريها، مثل: (عبدالله النديم، وعبدالعزيز البشري، وإبراهيم عبدالقادر المازني، وفكري أباظة، وحسين شفيق المصري، وبيرم التونسي، ومحمد مصطفى حمام، وكامل الشناوي، وبديع خيري، ومحمود السعدني، وأحمد رجب، وعبدالله أحمد عبدالله).
وقد انزوت هذه الصحف الفكاهية الساخرة في العقود الأخيرة، لأسباب ربما تعود لتضييق الرقابة على الصحافة، التي تنتقد السلطة مباشرة، أو لعدم تحمس الناشرين لإصدار هذا النوع من الصحف، أو لتغير مزاج المصريين تجاهها، وقلة عدد الكتاب الساخرين في مصر.
لعل نشأة الصحافة الفكاهية الساخرة وتطورها في مصر، تعود إلى طبيعة الشعب المصري، وما يتميز به من روح الفكاهة، فهو من أكثر شعوب العالم فكاهة وتنكيتاً وسخرية وضحكاً. فكما يؤكد الدكتور عادل الصيرفي، في دراسته للدكتوراه (صحافة الفكاهة وصحافيوها فى مصر، منذ عام 1925م حتى عام 1973م)، بكلية الإعلام، جامعة القاهرة، فإن الشعب المصري من أكثر شعوب العالم احتفاء بالفكاهة والسخرية، فأقدم وثيقة تضم نكتة على سطح الأرض، كانت وثيقة مصرية مدونة على ورق البردي، والنكتة عند الشعب المصري، تعبر عن وعيه العميق بقيمة الحرية بكافة أشكالها ومظاهرها، والكثير من الحكام كانوا يقيسون اتجاهات الرأي العام من خلال النكات، كما أن الشعب المصري لم يسلم من سخريته ملكٌ أو رئيس.
ويرجع تاريخ الصحافة الفكاهية في مصر إلى عصر الخديوي إسماعيل، في القرن التاسع عشر، ويعود الفضل في نشأتها إلى اثنين من رواد الصحافة والفكر، هما: (عبدالله النديم)، أديب الثورة العرابية، و(يعقوب صنوع)، رائد المسرح العربي. فقد أصدر (صنوع) أول مجلة فكاهية ساخرة هي (أبو نظارة)، بتشجيع من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وصدر العدد الأول منها سنة (1876م) بمدينة القاهرة، وقد كتب تحت العنوان هذه العبارة: (جريدة مسليات ومضحكات)، كما كتب على صدرها أنها: (صحيفة أسبوعية أدبية علمية، بها محاورات ظريفة، ونوادر لطيفة، وفوائد مفيدة، ومقالات فريدة، وقصائد عجيبة).
وقد صب (صنوع) انتقاداته على (الخديوي إسماعيل) وسياسته، واستغلاله للفلاح المصري، ليعيش هو عيشة البذخ والسفه، وكان يطلق على (الخديوي) لقب (شيخ البلد)، أو (شيخ الحارة)، واخترع شخصية (أبو الغلب) التي ترمز للفلاح المصري، وفي رسم من الرسوم البارعة الساخرة، يبدو (الخديوي إسماعيل) وهو يبيع أهرامات الجيزة في سبيل ملذاته وحبه للظهور.
وأدَى توجّه مجلة (أبو نظارة) إلى مصادرتها المستمرة، ولذا كان صنوع يضطر لتغيير اسمها، فهي مرة (أبو نظارة)، ومرة أخرى (أبو نظارة زرقاء)، وثالثة (رحلة أبي نظارة زرقاء)، ورابعة (النظارة المصرية).
أما (عبدالله النديم)، أحد آباء الصحافة المصرية، فقد قام بتأسيس عدد كبير من المجلات الفكاهية الساخرة، التي كانت لسانه للإصلاح، وكان يوجه من خلالها نقداً للسلطة، ولعل أشهر هذه المجلات: مجلتا (التبكيت والتنكيت) و(الأستاذ)، وهما المجلتان اللتان عاش مطارداً من السلطات بسببهما.. فقد أصدر العدد الأول من صحيفة (التنكيت والتبكيت) يوم (6 يونيو سنة 1881م)، في حجم كتاب عادي، باعتبارها- كما ذكر في عددها الأول- (وطنية أسبوعية أدبية هزلية، هجومها تنكيت، ومدحها تبكيت، ولغتها لا تلجئك إلى قاموس الفيروزبادي، ولا تلزمك مراجعة التاريخ، ولا نظر الجغرافيا، وسخريتها نفثات صدور وزفرات تصعدها مقابلة حاضرنا بماضينا). وهي في مجموعها مقالات اجتماعية عن الحياة في مصر، وذكر أيضاً: (إنه لا يريد أن تكون ممتنعة بمجازات واستعارات، ولا مزخرفة بتورية واستخدام، ولا مفتخرة لفخامة لفظ وبلاغة، ولكن أحاديث تعودناها ولغة ألفنا المسامرة بها).
واستمرت مسيرة الصحف الفكاهية الساخرة في مصر، ففي سنة (1900م)، صدرت مجلة (حمارة منيتي)، التي أسسها محمد توفيق، وهو ضابط سابق في الجيش المصري، واشتهر بقدرته الفائقة على التنكيت والإضحاك، وهاجم الكثير من الشخصيات السياسية البارزة، حتى إن الشيخ محمد عبده لم يسلم من هجومه، وقدمه للمحاكمة بسبب كتاباته. كما صدرت أيضاً في هذه الفترة مجلات فكاهية كثيرة، مثل: (الكشكول)، (خيال الظل)، (الفكاهة)، (السيف والمسامير)، (أبو فصادة)، (أبو شادوف)، (المطرقة)، (أبو الهول)، (المنارة) و(البعكوكة).
وفي سنة (1907م)، أصدر أحمد حافظ عوض، مجلة (خيال الظل)، وأدخل فيها الصور الكاريكاتورية، ثم مجلة (الكشكول)، التي ظهرت سنة (1921م)، لصاحبها سليمان فوزي، وقد اهتمت بالفكاهة السياسية. وأصدر حسين شفيق المصري، مجلات فكاهية عدة، هي: (البغبغان) و(السيف والمسامير) و(الناس)، وكان يحررها بالكامل. إلا أن أكثر مجلات تلك الفترة استمراراً، وأعلاها توزيعاً وشعبية، كانت (الفكاهة)، الصادرة عن (دار الهلال) أول ديسمبر (1926م)، برئاسة تحرير حسين شفيق المصري أيضاً، و(البعكوكة)، التي أصدرها محمود عزت المفتي، في منتصف الثلاثينيات. وكانت الأخيرة تطبع (160) ألف نسخة أسبوعياً، وهذا الرقم قلما وصلت إليه مطبوعة آنذاك، حيث كان توزيع الصحف لا يتجاوز المئة ألف نسخة.
كما أصدر بديع خيري، عام (1928م)، مجلة (ألف صنف)، وهي مجلة فكاهية أسبوعية في أربع صفحات من القطع المتوسط، تميزت بأبيات زجلية ثابتة على أغلفة أعدادها. وأصدر بيرم التونسي من منفاه عام (1937م)، مجلة فكاهية باسم (الإمام)، ولما عاد أصدر (الصرخة)، و(اضحك).. وغيرهما.