تخطي إلى المحتوى
أوبنهايمر والقنبلة الذرية بين العلم والأخلاق والفلسفة قصة عالِم وجد نفسه في خضمّ السياسة والمسؤولية أوبنهايمر والقنبلة الذرية بين العلم والأخلاق والفلسفة قصة عالِم وجد نفسه في خضمّ السياسة والمسؤولية > أوبنهايمر والقنبلة الذرية بين العلم والأخلاق والفلسفة قصة عالِم وجد نفسه في خضمّ السياسة والمسؤولية

أوبنهايمر والقنبلة الذرية بين العلم والأخلاق والفلسفة قصة عالِم وجد نفسه في خضمّ السياسة والمسؤولية

هل كان العالم الأميركي يوليوس روبرت أوبنهايمر (1904-1963)، الذي عاود اسمه الظهور بقوّة، مع بدء عرض فيلم كريستوفر نولان الضخم عنه، يشعر حقا بتأنيب الضمير لمساهمته في اختراع القنبلة الذرية؟ هذا ما يُستشف من ملامح سيرته الذاتية بعد انفجار القنبلتين النوويتين في اليابان، وهذا ما يلمح إليه الفيلم أيضا المستند إلى سيرة غيريّة تعدّ الأفضل بين ما كتب عنه.

في حقيقة الأمر، لم يكن اختيار أوبنهايمر لقيادة "مشروع مانهاتن" وقيادة مختبر "لوس ألاموس" السريّ اعتباطيّا، فهو لم يكن مؤهلا على المستوى العلميّ والسياسي – بوصفه شخصا متفوقا جدا علميا وذا كاريزما هائلة لإدارة مشروع كهذا وقيادة الوصول إلى القنبلة النووية التي هي في الأساس مشروع حربي فحسب، بل أيضا، وسواء أدرك هو أو من اختاره ذلك أم لم يدركه – فقد كان مؤهلا أخلاقيا، وانطلاقا من صفته العلمية، لفعل أمور شنيعة أو قد تبدو شنيعة.

نقول "قد تبدو" لأن فيلم "أوبنهايمر" يحيلنا بالفعل وبشكل مرير ومزعج على المعضلة السياسية والأخلاقية المتمثّلة في الامتناع عن فعل ما قد تم فعله، إذ كانت الحرب بالفعل مندلعة لا محالة بين اليابان والولايات المتحدة الأميركية.

لنا في الحادثة التي يعرضها الفيلم، والتي وقعت خلال فترة دراسة أوبنهايمر، عندما قام بتسميم تفاحة كان يُتوقّع وصولها إلى شفتي البروفسور الذي يُدرّسه فقط لأنه استاء منه، لمحة مقصودة عن هذا الجانب في شخصية أوبنهايمر. وعلى الرغم من أنه لم يصبح قاتلا بل وسعى إلى إبطال ما فعله، فإنّ ذلك يعطينا دلالة جد خطيرة على إمكاناته في الذهاب إلى الحدّ الأقصى والجذريّ. تكاد حادثة التفاحة المسمومة تكون تمثيلا لموقف أوبنهايمر من القنبلة النووية، فقد ساهم مساهمة جوهرية في صنعها وفي استخدامها، ثم حارب بشراسة ضدّ الخطوة التالية لها المتمثلة في صنع القنبلة الهيدروجينية.

هذا الموقف الأخير يعكس أن أوبنهايمر كان يتمتع بالفعل بحسّ أخلاقي عال، ولو جاء متأخرا. نعرف من خلال سيرة أوبنهايمر أن الناس كانوا يجدون صعوبة في محبته، وأنه كان كريه الطبع منذ شبابه المبكر، غير أنه وخصوصا إبان أزمة الحرب العالمية الثانية وبعدها، يبدو أنه تعلّم معنى الأخلاق والمسؤولية، فساهم بشكل كبير في تأخير اختراع القنبلة الهيدروجينية وتقنينها. والقنبلة الهيدرجينية تقوم على اتحاد الذرات مفجرةً بذلك طاقة هائلة عكس القنبلة النووية التي تقوم على انشطار أو انقسام الذرات مطلِقةً بذلك طاقة عظمى.

كان أوبنهايمر سياسيا محنكا بالفعل، ويبدو أنه كان لديه من التناقضات الأخلاقية ما يكفي لأن يمنحه فهما عميقا للبشر وما يستطيعون فعله عندما يمتلكون مثل هذه الأسلحة وخصوصا أصحاب العقليات العسكرية المتحجّرة في الاتحاد السوفياتي سابقا والولايات المتحدة الأميركية. اعتبر أوبنهايمر أن القنبلة النووية التي وصلت طاقة تفجيرها إلى 22 ألف طن من متفجرات الـ "تي إن تي" كانت ضرورية في الحرب العالمية الثانية، غير أن القنبلة الهيدروجينية وصلت سعة تفجيرها إلى 7 ميغا طن، أي سبعة ملايين طن من الـ "تي ان تي"، أي أضعاف مضاعفة من القنبلة التي حذفت 70 في المئة من مدينة هيروشيما في لحظة واحدة. وقد جرّبها الاتحاد السوفياتي في المحيط الهادئ في عام 1953.

كان أوبنهايمر شخصيّة ذكية للغاية، ولم يكن غيره من العلماء قادرا على فهم طبيعة الإنسان في سياقات كهذه، وكذلك على قراءة المشهد سريعا منذ استسلام اليابان والانتباه إلى أن القوة التدميرية للقنبلة النووية كفيلة أن تؤدّي الأغراض السياسية والعسكرية الضرورية. أما صناعة قنبلة أشد فتكا من النووية فقد تنبّه إلى أنها محض عبث يتجاوز المنطق العسكري والسياسي، وإنما هو سباق محموم يرمي إلى أن يتقيأ عُقد الإنسان في السباق منتهيا إلى طفولة في ذروة المشاغبة والتدمير الذاتي الذي لا معنى له ولا حاجة إليه سوى التسابق واعتلاء تقدّم عسكري وهمي لا نتيجة مرجوة منه، فحرص أوبنهايمر على تبيان ذلك وإنقاذ العالم من الجنون المرعب الحاصل آنذاك.

 

أظهر أوبنهايمر في الحقيقة قدرة غير متوقعة وغير مسبوقة على تحمّل العالِم المسؤولية السياسية والمشاركة فيها وتوجيهها، على الرغم من أن العالِم لا ينتمي عادة إلى هذه الحقول ولا يملك اللياقة الكافية للمنطق السياسي والاجتماعي المنوطين بها.

غير أن هذا الحدث الطارئ جعل عوالم مختلفة تتلاقى، وأثبت لنا أن الإنسان بما هو إنسان، كائن سياسي. وكون العالم وصل إلى هذه المرحلة، أي أن يضطر العالم إلى أن يُصبح سياسيا، فإنّ ذلك يعني أن تحديات العالم المعاصر أعقد وأن مصائر البشر أكثر ارتباطا بعضها ببعض عما كانت عليه الحال في الحقب السابقة.

إن القنبلة الذرية هي تاريخ آخر تماما، فتلك كانت المرة الأولى يتحدّث فيها الإنسان ببساطة عن إمكان تدميره العالم وكأننا في أقصى رواية فانتازية. هناك شيء اختلف تماما في بنية الخطاب والتفكير والنظر إلى العالم بعد القنبلة الذرية، كما ولد نوع جديد من مسؤولية الإنسان تجاه المسؤولية ذاتها، إذ لم يسبق للإنسان أن فهم أو أدرك أو تخيّل أنه قادر على تحمّل مسؤولية العالم، وأنه بالفعل، هو والعالم، ندّان واحدهما أمام الآخر.

هناك بالحريّ  ثورة أخلاقية وفلسفية تشكلت بعد ذلك، لذلك كان فلاسفة النصف الثاني من القرن العشرين يحومون كثيرا حول هذه المسألة، فقد أفرد برتراند راسل لهذه القضية حيزا كبيرا من كتاباته، وساهم في صوغ السلام والقانون الدولي النووي، وانتقد الكثير من الفلاسفة ورعبهم البادي من هذه القوة.

غير أن البشرية، وعلى الرغم من هذا الأفق المظلم الذي رسمته القنبلة النووية، اهتدت أخيرا إلى الطاقة النووية، وهذه جد عظيمة النفع، بل لعلها تصبح ذات يوم البديل الوحيد من النفط الذي سيصل يوما إلى نهايته المحتومة.

ما القنبلة الذرية؟

لكن ما هي، بالضبط، القنبلة الذرية؟ ولماذا لم تُكتشف حتى أربعينات القرن العشرين؟ وما دور آينشتاين الحاسم في اختراعها وأخذ أوبنهايمر زمام الأمور في خصوص قنبلة هيروشيما المسماة بـ"الولد الصغير" وقنبلة ناغازاكي المسماة "الرجل البدين" وهي، مثلما يُستدلّ من اسمها، أعقد وأقوى انفجارا؟

ليس خافيا أن سبب التسميتين اللتين أطلقتا على القنبلتين عائد فقط إلى الشكل الذي أخذته القنبلة من الخارج، فـ"الولد الصغير" نحيفة الشكل، في حين أن "الرجل البدين" منتفخة عظيمة الجرم.

وإلا، فآلية عمل القنبلتين متطابقة، غير أن القوة التفجيرية لـ"الرجل البدين" أشدّ، كما هو معروف.

فما آلية القنبلة الذرية:

تُعتبر الذرة أصغر وحدة في أي شيء تقع عليه عينك أو لا تقع عليه، والذرة هي ذات طبيعة معينة تجتمع مع مثيلاتها اللواتي يحملن التركيبة ذاتها، لكي تصنع عنصرا ومادة معينة، فالحديد هو كذلك لأن ذرة الحديد ذات تركيب يخلق عند اجتماعها مع ذرات من النوع نفسه مادة كبيرة نراها بالعين يقال لها الحديد.

والذرة تتكون أيضا من أشياء أصغر، فالمسألة لا تتوقف عند الذرة فحسب وإن كان دورها حاسما. فما الذي يجعل ذرة الحديد مختلفة عن ذرة الألمنيوم عن ذرة البلاستيك عن ذرة التراب مثلا؟ لا بد أن يكون شيء غير الذرة فجميعها ذرات. علينا إذاً أن نستكشف بنية الذرة، مما تتكون؟

كلّ ذرة تتكون من: نيوترونات (متعادلة الشحنة)، وبروتينات (موجبة الشحنة)، وإلكترونات (سالبة الشحنة). ما يجعل أي ذرة تختلف عن سواها، هو عدد النيوترونات والبروتونات الموجودة فيها، وهو ما يسمّى بـ"العدد الذري". أما عدد الإلكترونات فلا يلعب دورا في ذلك.

ودائما (في الغالب) يكون عدد البروتينات وعدد النيترونات متطابقا تماما. وهذا ما يساهم في جعل الذرة مستقرة أيضا.

فمثلا تحتوي ذرة الكربون على ستة نيوترونات وستة وبروتونات. فهنا نجد التطابق بين النيوترونات والبروتونات وهذه حال معظم الذرات والعناصر.

غير أن المادة المُستخدمة في القنبلة النووية وهي اليورانيوم-239 غير متطابقة في عدد البروتونات والنيوترونات، مما يجعل ذرات العنصر المضطرب المشع غير متوازن وقابلاً لأن يُستخدم في انشطارات ذرية تولد طاقة انفجارية هائلة! 

 

نجد اليورانيوم في الصخور الرملية بدرجة أولى وفي أنواع أخرى من الصخور، فضلا عن مواد أخرى وعناصر مثل الزنك والفوسفات... إلخ. فنستخلصه من هناك بعد فصله عن غيره وإن كان دائما إذا وُجد في مكان فهو يكون بتركيز ونسبة قليلين. لذلك لم يكن تحصيل اليورانيوم في زمن أوبنهاور بالأمر اليسير، ولذلك لم تجر تجربة إحدى القنبلتين اللتين استخدمتا ضدّ اليابان لأنه لم يكن هناك يورانيوم كاف لذلك.

اليورانيوم سُمي 239 لسبب بسيط وهو أنه يتكون من 92 بروتونات و146 نيوترونات فالمجموع 239.

وهنا نلاحظ الفرق بين البروتونات والنيوترونات غير المعتاد في الطبيعة والذي يجعله عنصرا مضطربا.

أظهر أوبنهايمر في الحقيقة قدرة غير متوقعة وغير مسبوقة على تحمّل العالِم المسؤولية السياسية والمشاركة فيها وتوجيهها، على الرغم من أن العالِم لا ينتمي عادة إلى هذه الحقول ولا يملك اللياقة الكافية للمنطق السياسي والاجتماعي المنوطين بها

غير أن هناك مشكلة في مادة اليورانيوم 239، هي أنها غير قادرة على الانشطار الذاتي على الرغم من اضطرابها، وقد اكتشف العلماء آنذاك أن داخل مادة اليورانيوم المستخلصة من الصخور وغيرها مادة أخرى نظيرة لليورانيوم نفسه وهي اليورانيوم 235، وهذه المادة قادرة على الانشطار الذاتي والتسلسل في ذلك بصورة تجعل الذرة تشطر الذرة الأخرى وهكذا دواليك، محدثة سلسلة من الانفجارات والانشطارات المولّدة للطاقة لتفعيل أخرى حتى يتولّد هذا الانفجار الهائل. 

أي أنه عنصر داخل العنصر بنسبة ضئيلة جدا لكنه شبيهه وإن لم يطابقه. وهو موجود بنسبة ضئيلة جدا في كل كتلة من اليورانيوم 239 بنسبة أقل من 1 في المئة، في حين أن وجود اليورانيوم 239 هو بنسبة 90 في المئة تقريبا في مسحوق أو مادة اليورانيوم المأخوذة من الصخور. فمن الصعب جدا تجميع يورانيوم 235 واستخدامه في قنبلة. 

 

فما الحل؟

كان الحلّ الذي لجأ إليه العلماء آنذاك هو تحويل اليورانيوم 239 غير القادر على الانشطار الذاتي إلى مادة البلوتونيوم 239 معمليا، وحينئذ تستطيع مادة البلوتونيوم الانشطار الذاتي مثل اليورانيوم 235 وبذلك حُلّت مشكلة توفر المادة. 

 

دور آينشتاين

ولكن، كيف يحدث هذا التفاعل؟

هنا يأتي دور آينشتاين، الذي لولاه لما كان لأي من هذا وجود. اكتشف آينشتاين في نظريته النسبية الخاصة أن ثمّة علاقة وثيقة بين المادة والطاقة. بمعنى أنه يمكننا تحويل المادة إلى طاقة وتحويل الطاقة إلى مادة، فهما الشيء ذاته! ويعدّ هذا الاكتشاف في واحدية الطاقة والمادة ثوريا في حد ذاته، فما بالكم عندما وضع له قانونا، على شكل المعادلة الشهيرة:

E=mc^2 حيث أن E ترمز للطاقة، و m ترمز للكتلة و c ترمز لثابت سرعة الضوء (299 كيلومتر في الثانية!) مضروبة في نفسها.

ما معنى ذلك؟

آينشتاين يقول لنا إنك إذا أردت أن تعرف كم من الطاقة تحتوي أي نسبة من المادة، فاستخدم هذه المعادلة، والرقم معناها سيكون كبيرا جدا حتى لو كانت المادة ضئيلة جدا جدا.

هنا يأتي دور آينشتاين، الذي لولاه لما كان لأي من هذا وجود. لقد اكتشف آينشتاين في نظريته النسبية الخاصة أن ثمّة علاقة وثيقة بين المادة والطاقة. بمعنى أنه يمكننا تحويل المادة إلى طاقة وتحويل الطاقة إلى مادة، فهما الشيء ذاته

لماذا؟ تخيل أن الكتلة متناهية الصغر (مثل الذرة) ولكن انشطارها وانقسامها يولدان طاقة هائلة لسبب أننا لو ضربنا أي عدد ولو كان بسيطا للكتلة (الذرة مثلا كتلتها قطع صغيرة جدا) في ثابت سرعة الضوء مضروبا في نفسه يعني 299 مضروبة في 299، فإن ذلك ينتج رقما كبيرا جدا يبدأ بـ 89 تريليونا مضروبة في الكتلة أيًا كانت، فتخيل العدد الذي سيكون الطاقة الناتجة من ذلك.

عدد الطاقة الحركية أو الحرارية أو الضوئية المنبعثة من ذلك سيكون هائلا. وسبب تولد الطاقة عن الانشطار الذاتي أن ثمة نيوترونات تُفقد أثناء الانشطار والانقسام، وهذا الفُقدان للنيترونات ينبعث على شكل طاقة هائلة. فمعلوم أن المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم، لا شيء يختفي ويفنى، فلما ذهبت النيترونات، فإن ذلك يعني أنها ذهبت على شكل طاقة منبعثة، وهذه الطاقة هي التي تبعث طاقة حرارية وحركية وضوئية والتي هي الانفجار الكبير الهائل محدثة تسلسلا لجميع الذرات لتنقسم وتنشطر بالطريقة ذاتها، وتفقد نيترونات وتنبعث الطاقة بالطريقة ذاتها أيضاً... 

كان دور أوبنهايمر وغيره من العلماء ممن كانوا يتسابقون لصنع القنبلة الذرية هو ترجمة مفهوم آينشتاين الحاسم هذا حول أن المادة والطاقة واحد، وأننا يُمكن أن نخلق طاقة هائلة من مادة قليلة.

كان ينبغي انتظار هذه المعادلة بالذات E=mc^2حتى يكون هناك أي حديث عن الطاقة النووية.

أوبنهايمر صنع القنبلة بلا ريب، على ضوء مصباح آينشتاين وعبقريته.

المصدر: 
مجلة " المجلة"