تخطي إلى المحتوى
إحياء الشعر بعد موته! إحياء الشعر بعد موته! > إحياء الشعر بعد موته!

إحياء الشعر بعد موته!

أصبح من الواضح تناقص عدد النسخ المطبوعة من كلّ مجموعة شعرية تصدر في أي مكان وبأي لغة. كان العدد الأدنى المتعارف عليه إلى قبل عقود هو طباعة ألف نسخة من كل كتاب شعري وأصبح العدد حاليا، في بعض دور النشر، لا يتجاوز ثلاثمائة نسخة، يقوم الشاعر عادة بإهدائها إلى أصدقائه في حفلات التوقيعفي معارض الكتب أو من دونها.

وإذا ما أقيمت أمسية أو صباحية شعرية لعدد من الشعراء فعادة ما تكون في صالة صغيرة يحضرها عدد قليل من معارفهم.

لكن، هل هذا يعني أن الشعر انتهى عصره وعلينا أن نستسلم لمقولة موت الشعر، تبعا لتقليعة موت المؤلف وموت الكتاب وموت الناقد والقارئ إلى آخر الميتات.

فبل شهر حضرتُ أمسية شعرية للشاعرة المغربية سكينة حبيب الله في مدينة نانسي الفرنسية وكنتُ قد تأخرت ثلاث دقائق عن بدء الأمسية. حين فُتح لي الباب وجدتني في صالة معتمة جدا لا يسمع فيها سوى صوت الشاعرة وهو يأتي من مكان غير مرئي. تحسّست طريقي لكي أصل إلى المقاعد الخلفية، وهناك بقيت أسمع الصوت وهو يأتي بإيقاع منظّم مع مؤثرات موسيقية تعلو وتنخفض، لتبدأ بعدها اضاءة خفيفة تتفتّح في كتلة على المسرح حيث تقف الشاعرة وعلى يمينها حامل الورق الذي وضعت عليه نصّها؛ وإذ ظلّت تلقي نصا شعريا حواريا بين الجدّة والأم والحفيدة وباللغتين العربية والفرنسية فإنّها لم تكن تنظر إلى الورق سوى في مرّات قليلة وبطريقة خاطفة.

الشعر ما زال بخير ومن المستحيل أن يموت! ولكن، أي شكل للشعر هذا الذي يمكنه أن يتعايش مع المجتمع ويحفّز بعضهم على دفع ثمن تذكرة للحضور، أو إلى الحضور بالمجان على الأقل؟

كانت الشاعرة الفلسطينية كارول صنصور قد عرضت قبلها في ليلة سابقة، وفي مهرجان أفينيون المسرحي أيضا، حيث انطلق المشروع العام الماضي، كما عرضت السورية رشا عمران والفلسطينية أسماء عزايزة، تجربة يخضنها ضمن برنامج "شاعرات" المخصّص لعروض أداء شعري مزدوج اللغة، بدأت فكرته مع المخرج والفنّان الفرنسي هنري- جول جوليان، ويعتمد على رؤية فنية للنصوص الشعرية يتداخل فيها الأداء المسرحي الصوتي مع وسائط أخرى موسيقية وبصريّة.

ما قدّمته أولئك الشاعرات، أمام حضور كبير من المشاهدين، يؤكّد أن الشعر ما زال بخير وأنّه من المستحيل أن يموت! ولكن، أي شكل للشعر هذا الذي يمكنه أن يتعايش مع المجتمع ويحفّز بعضهم على دفع ثمن تذكرة للحضور، أو إلى الحضور بالمجان على الأقل؟

بدا لي أن مَسْرَحة الشعر على هذا النحو صارت جاذبة للكثيرين في عصر طغت فيه الوسائل البصرية والسمعية المبهرة، مع أن علاقة الشعر بالمسرح ليست جديدة فإذا ما عدنا إلى كتاب "فنّ الشعر" (335 ق. م) لأرسطو سنجد كل تقسيماته، أو فصوله، متعلّقة بالمسرح، حتّى إن فنّ الشعر، كما يبدو في الكتاب، هو نفسه فنّ المسرح.

 ويمكننا أن نستذكر هنا تجربة مهمّة في المسرح الشعري العربي الحديث، وهي تجربة الشاعر المصري صلاح عبد الصبور من خلال مسرحياته الشعرية "مأساة الحلاّج" (1964) و"الأميرة تنتظر" و"مسافر ليل" (1968)، وفي هذه الأخيرة كتب تذييلا مهمّا هو بمثابة التنظير للمسرح الشعري حيث عرض رؤاه وما يعرفه عن التجارب السابقة وإذ تساءل لماذا الشعر في المسرحية، أجاب "لأن المسرحية ظلت تُكتب شعرا عمرها كلّه، فيما عدا القرن الأخير، ولأنّها تحاول أن تعود في سنواتنا الأخيرة إلى النبع الذي انحدرت منه، وقد أسعفها على العودة ذلك التغيير في مفهوم كلمة الشعر، إذ لم تعد كلمة مرادفة للنظم، بل أصبح بين الشعر والنظم مباينة أعمق من المباينة بين الشعر والنثر، فالخلاف بين الشعر والنثر خلاف شكلي، أمّا الخلاف بين الشعر والنظم فهو خلاف في الرؤيا والاقتراب والتحقيق".

مع هذا، فالمنحى الشعري المسرحي ليس هو التجربة الوحيدة، فلقد كان هناك الكثير من التجارب الشعرية المختلفة، في العقود الأخيرة، وفي مختلف اللغات، معظمها يمزج بين النصّ المكتوب ونصوص أخرى بصريّة، سينمائية وتصويرية وتشكيلية، وكذلك أدائية صوتية موسيقية.

وفي العالم العربي ظهرت في فترة سابقة الكثير من الأوبريتات الشعرية التي قُدّمت في بيروت وبغداد وصنعاء والرياض وغيرها من خلال إعداد نصوص لشاعر واحد أو عدد من الشعراء. وأظنّها كانت تجارب ملفتة لجهة إيجاد علائق فنية مختلفة للشعر في الوقت الذي يظن فيه بعض الشعراء أن مكانة الشعر تتراجع بسبب سيطرة وسائل فنّية حديثة كالسينما والتلفزيون وتزايد انتشار الرواية على عكس الأشكال الأدبية الأخرى.

إن الشعر ضرورة كحياة، ضرورة لتربيتنا جماليا لكي نعيد رؤية الأشياء وترتيبها بطريقة مختلفة، وهو ضرورة لمن يكتبه أيضا، سواء كتبه للعامة أم لنفسه

كلّ هذا يطمئننا إلى أن الشعر ما زال يعاش، فما زال هناك الملايين من الطلبة الذين يدرسونه يوميا كعلامة حيّة على تطوّر اللغة وتحوّل رؤى الإنسان وجمالياته؛ إنّهم يتربّون بالشعر. ما زالت هناك بلدان ومدن ترتبط بشعراء لأنهم كتبوا عنها أو عاشوا فيها، فحلب المتنبي وألمانيا غوته وإسبانيا لوركا وتشيلي نيرودا ونيويورك ويتمان وعراق السيّاب وفلسطين درويش.

فكلّ ما حولنا يقول إن الشعر ضرورة كحياة، ضرورة لتربيتنا جماليا لكي نعيد رؤية الأشياء وترتيبها بطريقة مختلفة، وهو ضرورة لمن يكتبه أيضا، سواء كتبه للعامة أم لنفسه.

بعض الشعراء صاروا لا يعبأون بقرّاء أو مستمعين، يقولون نحن نكتب لأنفسنا، نكتب لنشفى أو لنتنفس، أو نكتب هكذا بلا سبب، وهذا حقّهم، ولا أحد يستطيع أن يقول غير ذلك.

المصدر: 
مجلة " المجلة"