قبل أن أتحدث عن خصائص إنسان ما بعد العثمانيين، أود الإشارة إلى ما طرحه مالك بن نبي رحمه الله في القرن الماضي في رؤيته لتحليل مشكلات المسلمين. حيث أسس جزءا من تلك الرؤية على عملية تحقيب تاريخي، من خلال وصف معروف لدى المثقفين، أطلق عليه” إنسان ما بعد الموحدين” في دلالة على حالة الانحطاط التي أصيب بها المسلمون بعد عصر الموحدين. والواقع أن عمليات التقسيم للتاريخ من أعقد الأمور التي قد يقدم عليها عالم اجتماع أو تاريخ.
القرن السابع الهجري
ومن حيث الصحة فإن التأريخ للانحطاط بما بعد الموحدين لا يفسر التحولات العامة في المنطقة بشكل صحيح.
لقد غادر الموحدون المشهد السياسي في القرن السابع الهجري، وسقطت الأندلس بعدهم، لكن العالم الإسلامي كله كان يستعد لاستقبال الإمبراطورية العثمانية بكل امتداداتها. اختفت دولة الموحدين لكن المسلمين فتحوا القسطنطينية، وفتحوا البلقان وتمددوا حتى أسوار فيينا وحازوا آسيا الوسطى، وأصبح البحر الأبيض المتوسط بحرا إسلاميا كاملا.
سوف يتساءل البعض عن المغزى من إعادة النظر في صحة وصف مالك بن نبي، وأهمية استبداله بوصف المرحلة الحالية الذي أختاره وهو “إنسان ما بعد العثمانيين”. والجواب أن تحليل الأوضاع الراهنة في الاجتماع العربي الإسلامي وفق المعطيات والوقائع التي ظهرت عقب سقوط الدولة العثمانية يعتبر الأقرب والأكثر تأثيرا، من الناحية السياسية والدينية والثقافية والاجتماعية في فهم الإنسان في المنطقة، حيث نواصل العيش داخل تفاعلات ما بعد الزمن العثماني.
إن أقل ما يمكن قوله في خصائص إنسان ما بعد العثمانيين هو طابعه الانقسامي وميوله الأقلوي والفئوي، وفقدانه الشعور بمعنى الخلافة والإجماع، وتدني درجة الوعي الثقافي والمجتمعي لديه بهذين العنصرين، اللذين بقيا أساسيين في تشكيل التاريخ النفسي والسياسي والاجتماعي للمسلمين إلى حدود القرن العشرين.
السقوط العثماني
كان السقوط العثماني أكبر حجما وأعمق تأثيرا في الاجتماع العربي والإسلامي من غيره، وقبل ذلك في مستقبل وجود الإسلام في أوروبا والبلقان.
لقد عرف المجال الإسلامي في السابق تفكك دول كبيرة مثل المرابطين والموحدين والأيوبيين والمماليك، إلا أن تأثيرات ذلك لم تكن بقدر النتائج التي خلّفها انفجار العصبية العثمانية من تحولات متواصلة.
في إحدى المناسبات سأل روبرت كابلان الأمير الحسن بن طلال عن رؤيته لواقع الشرق الأوسط، فكان جواب الأمير: إننا نعيش في وضع مصطنع، ضمن شرق أوسط يعرف حالة بلقنة، مضيفا أننا نواصل التعامل مع نتائج انهيار الخلافة العثمانية، بدون الأدوات التي كانت تمتلكها.
لقد أدى سقوط العثمانيين إلى غياب الشرعية عن السلوك والتقليد الإسلامي اليومي، وأنتج حالة فراغ هائلة في هذا الجانب.
وأريد أن أستخدم هنا مصطلحا بالغ الأهمية في وصف حالة ما بعد العثمانيين، وهو أزمة “المتّسع العثماني”. وأقصد بمفهوم المتّسع تلك الجغرافيا السياسية والثقافية الواسعة، التي كانت تدخل ضمن سلطة وتأثير الدولة العثمانية، التي كانت تمثل المركز الذي يدير تفاعلات المحيط والأطراف الإسلامية.
إن ملاحظة الأمير الحسن حول فراغ ما بعد العثمانيين بالغة الدقة، وتكاد تكون قانونا يحدث في أعقاب انهيار الإمبراطوريات الكبيرة. وقد لاحظ كابلان دينامية الفراغ ما بعد العثماني، وانهيار أبعاد الزمن والمسافات. إنها تماما أزمة المتّسع الذي تخلقه الإمبراطورية، ويستمر بعدها عقب عملية انفجار عصبيتها. وحسب مساحة التأثير الضخمة للدولة العثمانية، فقد كانت آثار انفجارها عظيمة، والفراغات التي تركتها مؤثرة في تشكّل المنطقة العربية، والأزمات التي رافقت تلك العملية.
لاحظ المؤرخ الأمريكي ديفيد فرومكين أن تشكيل دول الشرق الأوسط بعد سقوط الدولة العثمانية، تمّ وفق خطوط رسمها سياسيو بريطانيا على خريطة فارغة، عقب الحرب العالمية الأولى. وهي ملاحظة دقيقة لأن إنسان ما بعد المتَّسع العثماني في المنطقة العربية، يستطيع أن يحدّد هويته حسب ثقافته الفرعية، وانتمائه القومي ومذهبه ولغته المحلية. لكنه لم يعد قادرا على تحديد هويته الجامعة التي يقتضيها الإجماع الإسلامي.
أزمة روحية ضخمة
لم يستفق إنسان ما بعد العثمانيين في هذا الحزام المتصل من الدول، بعد سقوط الدولة العثمانية المركزية على واقع التجزئة السياسية فقط، بل استفاق على واقع أزمة روحية ضخمة، وتجزئة أخطر في الوعي الجمعي، الذي كرّسته الحدود الوهمية والمصطنعة في الشرق الأوسط. لم يكن قانون الفراغ وحده لاعبا في مشهد الشرق الأوسط ما بعد العثمانيين، فقد انضافت إليه عملية تدمير النظام القديم للمنطقة، الذي قامت به بريطانيا وفرنسا، وأنتج أزمة للحضارة السياسية فيها. إذ انتقل الاجتماع الإسلامي من جغرافيا واضحة الحدود، إلى جغرافيا متسيّبة، افتقرت إلى الممارسين المقتدرين لفنون السياسة والحكم وبناء العصبيات.
إن العناصر العربية وغير العربية التي كانت تنتمي إلى المتّسع العثماني قد وجدت نفسها لحظة انهيار المركز والإجماع السياسي، أمام خيار مواجهة الفراغ الإمبراطوري. حيث تولدت لديها ردود أفعال في شكل انكفاءات ونزعات قومية، وفق حدود سياسية وشعورية جديدة.
المشاعر القومية بالغة الخطورة، وفي حاجة إلى التحكم فيها. وقد أدرك الأوروبيون بعد الحرب العالمية الثانية أن أحد أهم أسباب الحرب، هو فشلهم في التحكم في النزعات الوطنية والقومية المتنامية. ولذلك برزت المؤسسات الكبرى التي تخفف من نزعة الدولة القومية، وهي الأدوات التي لا تتوفر للمنطقة العربية بالفاعلية نفسها.
كانت المكونات الاجتماعية والسياسية والثقافية داخل الدولة العثمانية طاقة محبوسة في وعاء كبير، أدى انفجاره إلى فوضى في المتّسع العثماني. إن إنسان ما بعد العثمانيين مختلف في وعيه وطريقة تفكيره. وما يميز خريطة المائة عام بعد انهيار ذلك المتّسع، هو افتقارها إلى الشكل الواضح والموثوقية، بتعبير المؤرخ غولو مان.
فهم المنطقة العربية
لكن الحدود التي صُنعت في المنطقة العربية، ليست محصّنة كفاية لمواجهة حقائق الجغرافيا وانتقامها بتعبير روبرت كابلان، عندما تعود الجغرافيا لتفرض شروطها علينا من جديد. إن القرنين الأخيرين من عمر الدولة العثمانية يمثلان مختبرا حقيقيا لتحليل وفهم المنطقة العربية، التي لم تتمكن حتى اللحظة من إيجاد حلّ للتعامل مع نتائج سقوط الدولة العثمانية، التي لم تكن مجرد نظام سياسي بل هوية كاملة.
كان سقوط الدولة العثمانية يمثل الإعلان الأخير عن نهاية صيرورة تآكل المحتوى الإمبراطوري وفراغه الداخلي. فقد جعلت صيرورة التآكل تلك الدولة حسب وصف المؤرخ الأمريكي فرومكين، مثل أطلال معبد قديم تبدو بعض أعمدته المتآكلة لأعين المارّين. إن القليل منّا من يمتلك ذكريات مباشرة عن ذلك السقوط، لكن أكثرنا الآن يمتلك وعيا بلحظة الفراغ الهائلة، التي دخلها الاجتماع العربي الإسلامي لاحقا بفعل ذلك الحدث.
في لحظة السقوط العثماني واجه السياسيون العرب الجدد في المنطقة لأول مرة بعد قرون، فكرة تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات وحدهم، وارتكاب الأخطاء وتحمل تبعاتها، بعيدا عن سلطة المركز العثماني السابق. لكن شعور إنسان ما بعد العثمانيين أن القرارات الهامة في المنطقة العربية سوف يتولاها مرة أخرى أشخاص في مناطق بعيدة وخارج المنطقة قد استمر طويلا.
إن أهم ما يتميز به إنسان ما بعد العثمانيين في المنطقة هو فقدانه الشعور بالإجماع. وقد كانت الوهابية لحظة بروزها مشروعا غير متوقّع الحدوث، لفكّ الارتباط مع الدولة العثمانية. وقطع الصّلة بالتفسير السائد حينها للهوية الدينية السنّية المشتركة في العالم الإسلامي، التي كانت الدولة العثمانية تمثل رمزا أساسيا لها. ذلك أنه منذ تمدد العثمانيين في المنطقة العربية في القرن السادس عشر الميلادي، كان العرب يعتبرون نظام الخلافة العثماني نظامهم هم كذلك، فهم حماة الإسلام ومكة والمدينة. إنه شعور لم تشعر به المكونات العربية قبل ذلك تجاه دولة المماليك، التي أسقطها العثمانيون رغم إنجازاتها. ويبدو أن الشيخ ابن عبد الوهاب لم يكن مقتنعا بشكل الخلافة في تلك اللحظة، وغير متحمّس لإمكانية إصلاح نظامها. وهو ما دفعه إلى التفكير في بديل محلي برؤية توسعية، لبناء دولة وطنية بمرجعية إسلامية ذات تأويل سنّي مختلف. ومنذ تلك اللحظة قل الحماس لإصلاح أعطاب مفهوم الخلافة.
كان التحالف الوهابي السعودي في نجد عامل التحفيز الأول، والموجة التي انطلقت في منتصف القرن الثامن عشر، لتصل تردداتها إلى القرن العشرين وما بعده. حيث شجعت عددا من القوى لاحقا على فكرة الانفصال عن الدولة العثمانية. ذلك أن تمرّد محمد علي باشا في مصر على العثمانيين ونزوعه الاستقلالي، كان من ضمن أسبابه الأساسية، تلك النتائج التي ترتبت عن انتصاراته العسكرية في منطقة نجد ضد الدولة السعودية الأولى. فقد حفّزت لديه طموحات الاستقلال عن الباب العالي والمطالبة بضم الشام إليه.