كان المؤرخ التركي مراد بردكجي قد نشر في عام 2022 كتاباً بعنوان «مطبخ أتاتورك»، وقد حاول من خلاله دراسة تفاصيل من حياة أتاتورك المجهولة، والمتعلقة بما كان يتناوله، وأيضا ما هي القصص والنقاشات التي كانت تجري على مائدته. والطريف في هذا الكتاب أنه اعتمد بشكل أساسي على نوعين من المصادر، الأول مصادر داخل القصر سمح بتداولها، والأخرى، التي تهمنا في مقالنا، هي مذكرات أحد طباخي أتاتورك، ويدعى جمال غراند، والتي جمعها أحد الصحافيين قبل سنوات طويلة. ويمكن القول إنه من خلال بردكجي، كانت رسائل الطباخين وكتبهم تغدو مصدراً جديدا في التأريخ لتركيا المعاصر.
ولعل هذا الاعتماد ما يذكرنا أيضا بما لاحظته المؤرخة الأمريكية آنا غول عن تاريخ مصر، إذ اكتشفت هذه الباحثة، وبعد تقليب طويل في مجلات وكتب سوق الأزبكية، أن هناك إرثاً من الكتابة والذكريات عن إعداد الطعام في مصر، وأن هذا الإرث (وبالأخص مثلا كتاب أصول الطهي لأبلة نظيرة) قد يصلح ليكون مدخلاً مهما للتأريخ لمصر وهويتها في القرن العشرين، فمثلاً، وجدت أوغلو من خلال قراءتها لتغير وصفات كتب الطبخ في مصر منذ بدايات القرن العشرين وحتى الخمسينيات تقريبا، أن هذه الكتب وبالأخص بعيد الأربعينيات، أخذت تركز على وصفات الشرق الأوسط، والمشرق العربي، وتبتعد شيئا فشيئا عن المذاق الافريقي، ومن هنا تعتقد أوغلو أن أبلة نظيرة، ربما كانت قد سبقت جمال عبد الناصر في صناعة مخيال ذوقي قومي عربي، إن صح التعبير، لمصر، من خلال وصفاتها المشرقية.
وكما ذكرنا، فإن أهمية ما فعلته أوغلو، أنها أيضا حولت بعض الذكريات والوصفات إلى مادة مهمة للتأريخ والبحث.
والطريف في هذا الجانب أيضاً أن هناك مادة مهمة من ذكريات طباخي الرؤساء المصريين، نشرت في السنوات الأخيرة، إما على صيغة مقابلات صحافية، أو مقابلات تلفزيونية، وبالتالي فإن هذه المادة، تصلح أن تكون مدخلاً لقراءة تاريخ مصر السياسي وتحولاته من خلال أطباق المطبخ، وما الذي كان يقدم على موائد الرؤساء. وقد قدم لنا الكاتب المصري ياسر ثابت في هذا الجانب مساهمة مهمة، عندما أعاد في كتابه الجديد (ثورة المائدة: تاريخ عائلي للطعام)، دار المحرر للنشر، التذكير بهذه الذكريات. ففي كتابه، الذي حاول فيه قراءة تاريخ الطعام في مصر منذ أسواق المماليك في القرن الرابع عشر، وحتى واقع الفلافل (كباب الفقراء) في شوارع مصر، خصص ثابت عدة فصول للحديث عن ذكريات طباخي الزعماء المصريين، وما باحوا به من قصص عن موائد هؤلاء الزعماء.
يقف ثابت عند مذكرات الطباخين في فترة مطبخ الملك فاروق، إذ كان يعمل فيه يومياً نحو عشرين طاهيا تحت قيادة الشيف عبد العزيز، الطباخ الملكي الخاص بالملك، ويتم تخصيص مهمة واحدة لكل طاهٍ في المطبخ لا يتجاوزها حتى لا يختل النظام. كان الملك فاروق من عشاق الأكل طوال اليوم، وأكلاته المفضلة كانت الفتة وإلى جانبها لحوم العجول ولحوم الخراف ولحم «الموزة» وأكل المخ. بينما كان يفضل في الصباح تناول البيض مع الفطور، وكان يفضل البسطرمة.
يروي عطية (أحد الطباخين) ذكرياته في القصر الملكي ويتحدَّث عن فاروق، فيخبرنا أنه كان لطيفا غير متكبر، وأنه كان يمازح خدمه، فكانوا يوقدون النار على القدر المليء بالماء لوضع اللحم فيه، فيأتي ببعض الجنيهات الذهبية ويلقيها في القدر وهو يغلي ثم يضحك ويقول: «اللي عاوز جنيه يمد إيده يطلَّعه». كان العامة في شهر رمضان يدخلون ساحة القصر للاستماع للقرآن الكريم، كما عملوا على تحضير الوجبات بشكل يومي في تلك الفترة، نظرا لكثرة المآدب الرسمية، ومما يذكره في هذا السياق أيضا أن الملك فاروق استشاط غضبا عندما علم أن المسؤول عن المطابخ الملكية، واسمه الشيف عبد العزيز، أخذ (بقشيشا) من الملك عبد العزيز آل سعود، الذي أبدى إعجابه بالطعام الملكي».
طباخو العسكر
بعد الانقلاب على الحكم الملكي في مصر، جاء عدد من الضباط المصريين، الذين أيضا كانت لهم موائدهم وأطباقهم الخاصة، ولعل في المقارنة بين المطبخين، ما يتيح قراءة تحولات المدينة المصرية ونخبها في النصف الثاني من القرن العشرين. كان الرئيس الأول للضباط محمد نجيب يعشق المحشي، فيما كان الجبن الأبيض مع الجرجير والخيار الوجبة المفضلة لجمال عبد الناصر، أما الرئيس أنور السادات فكان قليل الأكل وكان يفضل الشاي الأخضر والخبز والجبن. يذكر الكاتب الصحافي عبد الله إمام في كتابه «عبد الناصر كيف حكم مصر»، أن الرئيس جمال عبد الناصر، كانت وجبة الإفطار تعد له من الفول المدمس والجبن الأبيض والطماطم والخيار والجرجير، وفي بعض الأوقات يتناول بيضة واحدة مسلوقة في وجبة الإفطار، أما وجبة الغداء فقد تكونت من اللحم والأرز والخضراوات والسلطة. وفي عام 1958 طالبه الأطباء بضرورة اتباع نظام غذائي يتناسب مع إصابته بمرض السكري؛ لذا كان من الصعب عليه تناول النشويات أو الحلويات أو الأكلات. وفي فصل الصيف كان جمال عبد الناصر عاشقًا لأكل الجبن مع البطيخ، ويميل إلى تناول الأسماك ـ خاصة عندما يسافر إلى الإسكندرية.
وفي شهر رمضان، مال ناصر إلى تناول الوجبات الخفيفة، وكان يُفضِل الخضراوات مع قطع اللحم الصغيرة، أما في وجبة السحور فلم تكن تتجاوز الفول المدمس وكوب الزبادي حتى لا يصاب بأي متاعب خلال نهار رمضان، نظراً لأنه كان مريضاً بالسكر.
وعند الانتقال لذكريات الطباخين في زمن أنور السادات، نرى أن الأكلة المفضلة للرئيس كانت المعكرونة الإيطالية، والتي كانت تأتي له خصّيصا من إيطاليا، ونظرا لطبيعة السادات الريفية فقد كان يفضل الأكل البلدي، مثل: الموزة البتلو والوزّ والبط، حسبما ذكرت ابنته كاميليا في أحد الحوارات الصحافية لها بعد وفاته. أما محمد أمين طباخ الرئيس، فقد كشف عن اعتياده تجهيز الطعام المسلوق الخالي من الزيوت والسمن. ولعله لم يتح لطباخي قصر السادات الاستمرار طويلا بعد مقتله، وانتقال وقدوم إدارة جديدة لمطبخ الرئيس الجديد محمد حسني مبارك. ومما يلتقطه الكاتب ثابت في هذا الجانب أنه طوال ثلاثين عاما قضاها الرئيس محمد حسني مبارك في سدّة الحُكم، وداخل القصور الرئاسية، كان له نظام غذائي مُحكم ومنضبط في تناول الطعام، حسبما كشفه سلامة أبو لبن، طبّاخه الخاص، الذي أكّد أنه كان يُفضّل تناول الكافيار والجمبري بالصوص، وهي من الوجبات المفضّلة لديه دائماً، وكان المطبخ الرئاسي يُعد له صدور الحمام مع الخس، وكان يتناولها رغماً عنه، وذلك لأنها كانت من وصفات طبيبه الخاص. كما يروي سلامة، أن طعام مبارك حظي بعناية كبيرة، بدءا من الطبيب البيطري ليتأكد من خلوه من الميكروبات، وصولا إلى رئيس ديوان رئيس الجمهورية زكريا عزمي الذي حرص على التأكد من سلامة الأكل وجودته. أما الأطعمة التي كان يتناولها مبارك ويُفضلها، فقد تنوعت بحسب الوجبة، فوجبة الإفطار تشكلت من البيض والفول المدمس والزبادي وقلب الخس، الذي وصفه له الأطباء وقاية من أمراض القلب. أما الغداء فكان الجمبري المشوي أو المسلوق -وأحيانا الكافيار- وشوربة الخضراوات.
ويبقى أن نسجل هنا أن الفرق بين المطابخ لم يقتصر فقط على المرحلتين الملكية والجمهورية، بل نرى أيضا من خلال المعلومات السابقة خلافا داخل المطبخ نفسه. اذ يبدو عبد الناصر في طعامه أكثر محلية وقربا من الطعام التقليدي، بينما نرى السادات يميل أحيانا إلى الطعام الغربي، وهو ربما ما يعكسه مزاجه السياسي أيضا، الذي حاول فيه خلافا لسلفه، القيام بنوع من المصالحة بين العالم والرؤية القومية العروبية الناصرية، والغرب، ولذلك نرى مائدته وهي تحتوي على أصناف ذوقية من كلا العالمين. أما مائدة مبارك، فهي ربما تعكس من خلال بعض الأطباق مثل الجمبري والكافيار، حال وواقع السلطة في مصر بدايات القرن العشرين، التي أصبح فيها الشارع المصري منقسما بين عالمي سلطة سيزر (الطبقة الوسطى العليا والمجمعات)، وعالم الفلافل والفول (في إشارة لتدهور أوضاع الطبقة الوسطى الدنيا والفقراء)، وهنا نرى مبارك وهو ربما يؤسس للطبقة الأولى (آكلي الكافيار)، مع ذلك فإن ما يسجل أيضا أن أطباق مبارك على الفطور بقيت تحتوي على طبق من الفول، وهو الطبق ذاته الذي ظل كل العسكر تقريباً يتناولونه من نجيب وحتى السيسي في مصر، ربما كبقايا من إرث وتاريخ ذوقي، إلا أنهم في الواقع زادوا من الشرخ بين مجتمع الكافيار ومجتمع الفول.