تخطي إلى المحتوى
جسور الترجمة وأعمدتها جسور الترجمة وأعمدتها > جسور الترجمة وأعمدتها

جسور الترجمة وأعمدتها

صادفني مرة تعليق لا أذكر من كتبه، يتحدث عن دور المترجم في نقل النصوص من لغة لأخرى. يقول التعليق إن دور المترجم مهم جدا للذين لا يقرأون إلا بلغتهم الأصلية، أي لا يعرفون لغة أخرى يصلون بها إلى النصوص غير المتوفرة للغتهم. وهو يعني أن القارئ هنا يعتمد اعتمادا كاملا على المترجم، الذي قد يكون أمينا ومهنيا، ويترجم النص من دون أي تدخل منه، أو يضلل القارئ بإضافة مقاطع غير موجودة في النص الأصلي، وقد تكون آراؤه شخصيا، وقام بدسها في النص المترجم، الذي يتوجه به للقارئ الجديد.
هذا رأي مهم جدا، ولطالما اعتمدنا على مترجمين كثيرين، ترجموا لنا من الروسية، والإسبانية، والتشيكية، وغيرها من اللغات التي لا يتداولها العرب كثيرا، أما الإنكليزية والفرنسية إلى حد ما يقرأ بها أشخاص كثيرون في الوطن العربي، وهما لغتان منتشرتان طبعا.
ولقد راودتني كثير من الظنون وأنا أقرأ أعمالا إبداعية مترجمة من البولندية والتركية مثلا، كنت أجد مقاطع لا تتناسب مع جودة النصوص، وبالطبع لا أستطيع سوى الاعتماد على المترجم، بسبب عدم معرفتي باللغة التي ترجم منها. ولذلك نجد كثيرا في تعليقات القراء، على مواقع القراءة أشخاصا لم يعجبهم نص ما، مترجم من لغة أخرى إلى العربية، ويأتي من يرد بأن النص ممتاز، لكن الترجمة ظلمته. وأنه قرأه بلغته الأصلية وأعجب به.
حتى في ترجمة الأفلام والمسلسلات تجد أخطاء فادحة، وغير منطقية، وكتبت لأن المترجم لم يتمهل في فهم ما يترجمه. وكان مرة في أحد الأفلام، شخص يبحث عن أعواد ثقاب ليشعل سيجارته، وسأل أحد العابرين إن كان معه «ماتش»، أي عود ثقاب، وترجمها المترجم: مباراة، بناء على ثقافته الشخصية، من دون أن يدقق أن لا مباريات في ذلك الفيلم، ولا مناسبة ليسأل أحد في فمه سيجارة مطفأة، عن مباراة.
وأذكر مرة منذ سنوات أن أحدهم ترجم كتابا لكاتب أمريكي معاصر، لصالح مكتبة جرير المعروفة، والمهتمة بنوع معين من الكتب، تلك التي تسمى كتب التنمية الذاتية أو التنمية البشرية. وهي كتب كثيرة جدا ولديها مؤلفون في شتى اللغات، ولا أدري ماذا يكتب فيها لأني لم أقرأ منها كتابا قط، ولكن أسمع عن مدربين ومدربات، في هذا المجال، وكتب تترجم للغات كثيرة وتحقق أعلى المبيعات.
الكتاب الذي ترجم لصالح جرير، ورد فيه مقطع عن الكسل، وعدم القيام بالمهام في الوقت المناسب، وضرب مثلا للكسل بالشخصية السودانية، التي لا تنجز أي شيء. وكانت إساءة بالغة لشعب متحضر، ومتعلم منذ القدم، ولديه حضارة لا تقل عن أي حضارة أخرى، كما أن السودانيين، أنجزوا كثيرا حين اغتربوا في بلاد العالم، وحين كتبوا في الأدب، وحين تعلموا الطب وعلموه لشعوب أخرى، وحتى حين كانوا دعاة للإسلام مثل الداعية ساتي ماجد الذي رحل إلى أمريكا مبكرا في بداية القرن العشرين.
كان من سوء حظ المترجم أن أشخاصا قرأوا الكتاب باللغة الإنكليزية، حين صادفهم ذلك المقطع الغريب، ولم يجدوا في الكتاب الأصلي أي إشارة للسودان وغيره من البلدان العربية، وأصلا لم يكن هناك من تحدث عن الكسل.
القضية تصعدت ووصل بعض الناشطين إلى المؤلف الذي اعتذر لهم بشدة، وأظن أن الكتاب سحب حسب ما أذكر، وكان المقطع المجحف من تأليف المترجم، وبالطبع كان هذا رأيه في الشخصية السودانية. وهو رأي نعرف من يتداوله، ومن يستخدمه في حق تلك الشخصية، وكتبنا مرارا أن هذه المسائل بحاجة لوضع حد لها.
ما ذكرته كان مثالا لما قد يقدمه المترجم للقارئ الذي يترجم له، والمترجم هنا قام بتضليل القارئ الذي لا يتقن الإنكليزية، ولن يقرأ بها، كما أنه تبنى وجهة نظر مرفوضة، وسيئة، ولا ينبغي التعامل معه مرة أخرى.
وحين أقرأ مثلا كتبا من ترجمة صالح علماني أو معاوية عبد المجيد، أو خالد الجبيلي، أو عبد المقصود عبد الكريم، وعبد القادر عبد اللي عن التركية، أحس باطمئنان أنني أقرأ ترجمات حقيقية، أنجزها هؤلاء بمهنية واقتدار. ولا يوجد فيها أي آراء شخصية مخترعة، أو دخيلة، على العكس تكون الإضافة إبداعية خالصة، حين تستخدم اللغة العربية بإمكانياتها الثرية، في تزيين المقاطع المترجمة.
أعتقد في منظومة الترجمة، توجد ما تسمى بالمراجعة، أي أن النص لا ينشر مباشرة بعد ترجمته، إلا لو راجعه شخص يجيد اللغة التي ترجم منها، إضافة للغته الأصلية. وهذه المراجعة إن وجدت ومورست بمهنية، يمكنها أن تجرد النصوص المترجمة من الأهواء، التي قد تطالها.
بالنسبة لنقل النصوص العربية، إلى لغات أخرى، أعتقد الشيء نفسه يحدث، ربما يخترع مترجم هناك معان وفقرات غير موجودة في النصوص الأصلية، وربما ينقل بمهنية تامة، وأيضا يوجد قارئ يعتمد عليه هناك، سيقدم له معرفة حقيقية، أو مضللة، حسب المترجم.
هناك أخطاء تحدث في نقل النصوص من لغة إلى أخرى، خاصة النصوص الإبداعية، وهذا ناتج لاختلاف الثقافات، وينبغي التنبيه لها، وإن كان هذا مممكنا لنا نحن العرب، مراجعة نصوصنا باللغة الأخرى التي نعرفها، لكن نقف عاجزين أمام لغات لا يعرفها إلا القليل مثل الكورية والصينية، والمقدونية، والسويدية. وهذه اللغات في الغالب يلجأ مترجموها إلى نصوص موجودة في الإنكليزية للترجمة منها، وهنا أردد أن اللغة الإنكليزية مهمة فعلا، وإن كان الكاتب العربي يجيدها، عليه مراجعة الترجمة قبل أن تنشر.
وقد  حول مترجم مثلا مرة كلمة الخال، التي تستخدم عندنا غالبا كصفة لشقيق الأم، إلى الشامة التي على الوجه. ولم يكن ذلك خطأ ناتجا عن ضعف، وإنما عن اختلاف الثقافة.
الترجمة مهمة، إنها جسر حقيقي، لنشر المحبة والثقافة والمعرفة الأخرى، ولتكن هكذا دائما، والمترجم الحقيقي، يعبر بنا تلك الجسور من دون أن نحس برعشة أو فقدان للاتزان.

المصدر: 
القدس العربي