يظل للرسائل بريقها دائماً، فهي الكاشفة عن خصوصية ما، تربط بين المرسل والمرسل إليه، هذا البريق يزداد توهجاً عندما يكون للاثنين بصماتهما في الحياة، من هذه الزاوية نظر طارق الطاهر في كتابه «بخط اليد وعلم الوصول.. تاريخ جديد للسيرة المحفوظية» إلى الإهداءات التي وجهت إلى الأديب الكبير نجيب محفوظ (2011 – 2006) من قبل شخصيات أدبية ونقدية ودينية وسياسية ورجال قضاء وسينمائيين وفنانين ومستشرقين، وباحثين، على أنها رسائل، بل وثائق، في أمسّ الحاجة إلى قراءتها مجتمعة بعناية.
تروي تلك الرسائل تاريخاً مجهولاً، أو شبه مجهول، للأديب العربي الوحيد الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1988.
ويقول طارق الطاهر إن نجيب محفوظ اعتبر هذا التاريخ شأناً خاصاً، لكن الحقيقة أن هذا الكنز المدوّن، بخط يد أصحابه، هو سيرة جديدة لنجيب محفوظ، حافظ على كتمانها لسنوات طوال، وعدّها جزءاً من تاريخه، يعود إليه هو في اللحظة التي يراها، يعيد قراءة سيرته بأقلام آخرين، ربما لم يشاهده بعضهم، أو يقترب منه.
وعلى مر عقود صاغ محفوظ علاقته الخاصة بهؤلاء الذين أهدوا إليه إصداراتهم في أزمنة مختلفة، فاحتفظ بها، وأصبحت جزءاً من سيرته، روتها أقلام ليست كلها منصفة في نظرتها إلى شخصيته وأدبه، ومع ذلك اعتبرها جزءاً منه، لا يملك برحابة صدره الإنساني أن يتجاوزها، أو يستبعدها، كأنه يقاوم ما ذكره في روايته «أولاد حارتنا»: «آفة حارتنا النسيان».
هو لا يريد لنفسه أن ينسى، فاحتفظ بهذه الإهداءات، وتعامل معها على أنها رسائل، تشكل في مجموعها سيرة له، قد يأتي من يحسن قراءتها يوماً ما، ودلالات هذه الإهداءات لم تغب عن ذهنه، ومما يبرهن على هذه الرؤية ما ذكره بنفسه للروائي جمال الغيطاني، عن إهداء جاءه في الثمانينات من مصطفى أمين، ليعود بذاكرته إلى الأربعينات، ويسترجع القصة وراء هذا الإهداء.
يتذكر محفوظ هذا الإهداء، ويتعامل معه على أنه رسالة دوّنها مصطفى أمين، فيسجل الغيطاني في كتابه «نجيب محفوظ يتذكر» القضية التي أثارها هذا الإهداء: «لا لم تمثل السينما إغراء مادياً في أي يوم من الأيام، سأقول لك ما هو أكثر، الأستاذ مصطفى أمين أهداني آخر كتاب له، وقد صدّره بإهداء قال فيه: «إلى الكاتب الذي أردته أن يكتب يوماً في «أخبار اليوم» فرفض».
ولهذا الإهداء قصة، إذ كنت موظفاً في الأوقاف سنة 1944 وكان مرتبي ثمانية جنيهات، أرسل مصطفى أمين إليّ مع إحدى قريباتي التي كانت تعمل في «أخبار اليوم» وطلب مني أن أكتب قصتين في الشهر مقابل خمسة عشر جنيهاً. كنت في أشد فترات حياتي إرهاقاً من الناحية المادية – الكلام لمحفوظ - فمرتبي ضئيل، وأنا مسؤول عن البيت، بعد وفاة الوالد، كان إغراء مادياً قوياً، وبخاصة أنهم لم يطلبوا قصة ذات مواصفات معينة، رفضت لماذا؟ لأنني لم أكتب القصة القصيرة، بدافع كتابة القصة القصيرة إلا في الستينيات، بعد «أولاد حارتنا»، وكنت في هذا الوقت مشغولاً بكتابة الرواية، الأستاذ مصطفى أمين لم يصدق أنني رفضت العرض، لرغبتي في التفرغ للرواية، ففسر الأمر على أنني وفدي».
هذا إهداء فسّره محفوظ بنفسه، باعتباره رسالة موجهة إليه لها قصة، يقول طارق الطاهر: «من جانبي سعيت إلى الحصول على هذا الكنز، كنت أدرك خطورة أن نتوقف عند هذه الإهداءات مجتمعة، فإذا لم يكن محفوظ قد حكى بشكل مباشر إلا عن هذا الإهداء، فإن الواقع يؤكد أن لكل إهداء في المكتبة المحفوظية قصة، تقف وراءه، حاولت الوصول إلى هذه القصص، التي نسجت لي في النهاية حكايات عن نجيب محفوظ، جديرة بأن تروى مجتمعة بكل أشخاصها ودلالتها.
يتضمن الكتاب كذلك معرضاً بخط يد كبار المثقفين والأدباء ومحبي نجيب محفوظ من أمثال: توفيق الحكيم، زكي نجيب محمود، حسين فوزي، لويس عوض، على الراعي، حنا مينه، إميل حبيبي، عبد الوهاب البياتي