تخطي إلى المحتوى
الإبداع والنقد وجها لوجه الروائى محمد جبريل والناقدة د. زينب العسال فى حوار «مشترك» لا تنقصه الصراحة.. والمواجهة الإبداع والنقد وجها لوجه الروائى محمد جبريل والناقدة د. زينب العسال فى حوار «مشترك» لا تنقصه الصراحة.. والمواجهة > الإبداع والنقد وجها لوجه الروائى محمد جبريل والناقدة د. زينب العسال فى حوار «مشترك» لا تنقصه الصراحة.. والمواجهة

الإبداع والنقد وجها لوجه الروائى محمد جبريل والناقدة د. زينب العسال فى حوار «مشترك» لا تنقصه الصراحة.. والمواجهة

 جبريل: المبدعون والنقاد أصبحوا يتعاملون بالقطعة مراعاة لمساحة النشر فى الصحف
◙ العسال: الإبداع ظلم النقد واستولى على فرص النشر فى وسائل الإعلام

 

 

كانت الفكرة أن نجمع بين مبدع وناقد فى حوار واحد، بحيث يناقشان معا كل ما يتعلق بالطرفين من تنظيم العلاقة بين النقد والإبداع، والمسئولية المشتركة بينهما فيما يختص بمستوى الأعمال الأدبية فى الوقت الحالي؛ وتراءى لنا أن تكون البداية مع زوجين يعيشان فى بيت واحد ويمثلان فى الوقت نفسه الإبداع والنقد، وهما الروائى الكبير محمد جبريل، وزوجته الناقدة د. زينب العسال.

وفى منزلهما وضعنا اللبنة الأولى للحوار وأرسينا قواعده، ثم تركناهما يتناقشان ويتحاوران، فتحدث كل منهما بلسان المجال الذى ينتمى إليه، موضحا وجهة نظره فى القضايا المطروحة، ثم تحول الحوار، برغبة منا، إلى الحديث عن إبداع جبريل وحالته الصحية، وكان حوارا ثريا، ننقله للقارئ فى السطور التالية..

بدأنا بالسؤال الأبدي: «من المتسبب فى هبوط مستوى الإبداع؟».. وهو اتهام يتبادله المبدعون والنقاد، فهل شبهة هبوط مستوى الأدب تأتى نتيجة أن الإبداع حقاً رديء، أم بالعكس: السبب هو عدم مواكبة النقد لحركة الإبداع المتدفقة؟

د. زينب العسال: لا يمكن تعميم الحكم. فهناك نماذج غير جيدة من الإبداع، ومع ذلك يتم الترويج لها، ويكتب عنها مرات ومرات؛ وهناك إبداع ممتاز يتم تجاهله، وبعضه لشباب غير معروف. فالمسألة لا تتعلق بمستوى الإبداع، لكنها تتعلق بمن يكتشف المبدع الحقيقي، وكيف تُكتشف هذه المواهب ومتى يتم تقديمها.

محمد جبريل: أما أنا فأرى أن حركة النقد لا تواكب, ولا تستطيع أن تواكب, حركة الإبداع؛ لأن قاعدة المبدعين اتسعت، فصار من الصعب على أى ناقد أن يلاحق أو يستوعب الحركة الإبداعية. لذلك فأنا شخصيا ضد طريقة أفعل التفضيل التى نلجأ إليها نهاية كل عام باختيار أفضل رواية أو مجموعة قصصية أو ديوان شعر، ولا أظن أن من يختار سيقرأ كل ما صدر، بل سيختار من أشياء قليلة هى ما استطاع متابعته من إبداع، وبذلك يكون قد ظلم من لم يقرأه, لأنه من الممكن أن يكون أفضل. و أيضاً النقد يشبه إعطاء عمرك لغيرك؛ لهذا فكثير من النقاد يتحولون إلى الكتابة الإبداعية، وأنا قد أعطيهم العذر فى ذلك، لأنهم يشبهون مخرج السينما الذى يقدم النجوم بينما يقف هو خلف الكاميرا. لكن الناقد الحقيقي، الذى يحب العملية النقدية، يمكن أن يحيل نقده إلى إبداع أصيل، وهذا هو من نطلبه، فلا يمكن أن أنسى شكرى عياد وعلى الراعى ولويس عوض, وغيرهم كثيرون ممن أبدعوا فى النقد، ولم يكتبوه كنظريات مدرسية، بل قدموا وجهات نظر وعالجوا بأقلامهم الأعمال التى أحبوها، وكانت لهم عليها ملاحظات المُحِب، وذلك لأنهم أحسنوا اختيار الأعمال التى تناولوها بالنقد، ولم يصفوا حسابات أو يرفعوا من قيمة من لا يستحقون، وهذا كله يحتاج نقادا حقيقيين. والمشكلة هي: كيف نبحث عنهم؟، ولكنى متفائل؛ لأنى أرى فى طليعة شباب النقاد من أتوسم فيهم الجدية والاجتهاد والرغبة فى تحقيق شيء جيد، وهؤلاء هم الأمل فى مستقبل نقدى حقيقي.

د. زينب العسال: أوافقك فى أن حركة النقد لا تلاحق حركة الإبداع، و هذا بسبب كثرة ما يكتب من إبداع، خاصة ما يكتب على شبكة الإنترنت، فلو أحصيت مثلا المجموعات القصصية وحدها، ستجد أنه يصدر يوميا ما لا يقل عن عشر مجموعات قصصية؛ نفس الأمر بالنسبة للروايات والدواوين الشعرية، وكل هذا هَم ملقى على كاهل الناقد، فلا يمكن أن أقرأ ثلاثين كتابا يوميا، لكنى أتخير ما يمكننى قراءته، كما أريد أن أقول للأستاذ محمد جبريل إنه لا توجد نافذة لنشر النقد الجاد؛ فكيف يمكن كتابة دراسة متكاملة توفى العمل الإبداعى حقه النقدى فى 350 كلمة كما تشترط بعض الصحف؟!، فأين المجلات الثقافية التى تستوعب دراسة نقدية كاملة عن عمل إبداعى جيد؟ إضافة إلى أن المساحات التى تخصص للثقافة تنشغل بنشر الإبداع على حساب النقد، فأكثر من مرة تعتذر الصحف عن نشر مقال لى بسبب نشر قصة لمحمد جبريل!!

محمد جبريل: أستنتج من هذا الكلام أن النقد أصبح يتعامل بالقطعة. و لكن هذا موجود، بكل أسف، فى الإبداع أيضا. وأظن أن هناك ليس أقل من ثمانين بالمائة ممن يكتبون القصة الومضة كتبوها مراعاة لمساحة النشر فى الصحف؛ ومنهم من يستطيع أن يسهب ويعمق اللحظة، لكنهم لجأوا لهذه الوسيلة، واختزلوا المواقف والأفكار فى سطور قليلة لكى ينشروا أعمالهم, بينما فى الستينيات كنا نقدم قصصا فى جريدة المساء على صفحة كاملة؛ فكان مبدعو الجيل كلهم يكتبون قصصا على مساحة صفحة فى جريدة، لأنها كانت الوسيلة الأهم للنشر، الآن لا يؤدى هذا الدور إلا الأهرام, فيفرد قصة على صفحة كاملة يوم الجمعة، وأخشى أنه, لو غير الأهرام هذا الطقس نتيجة لاعتبارات صحفية، قد تختفى هذه النوعية من القصص. الخلاصة: أنا أقول للدكتورة زينب إن أمر المساحات الضيقة للنشر لا يقتصر على النقد فقط، بل يمتد للإبداع أيضاً.

وهنا انتزعت د. زينب العسال دور المحاور فسألت جبريل: ما العمل الذى تصورت أنه سينال تقديراً نقدياً ووجدت أنه لم ينله؟ وفى المقابل, ما العمل الذى كتبته ولم تكن تتوقع أن ينال المساحات النقدية التى كُتبت عنه؟

محمد جبريل: خشيت دائماً أن أعامَل معاملة «القنديل» ليحيى حقي؛ فقد عومل على أنه صاحب القنديل (نسبة إلى روايته قنديل أم هاشم)، ومات حزينا لأنه كان يرى أن رواية «صح النوم» أجمل، وقد قال لى إنه يتمنى أن يقرأ الناس «صح النوم» ويروا فنياتها وتقنياتها الكتابية، بينما يصعب تصنيف «قنديل أم هاشم» كرواية، لكنه عومل دائماً على أنه صاحب القنديل، رغم روعة أعماله الأخري. أما بالنسبة لي, فأنا كنت أتصور أنى لما كتبت رواية «أهل البحر» تفوقت فيها على «رباعية بحري» التى عوملت على أنها روايتى الرئيسية، وأنا لا أرى ذلك، بل أرى أن «أهل البحر» تمثلنى تمثيلا جيدا.

بعد أن يصدر لى عمل، فأنا أنصت وأقرأ جيدا آراء النقاد والأصدقاء والقراء العاديين، وأحاول أن أتفهمها، وحين أخلو إلى عمل جديد أحرص على أن يكون إضافة إلى المشروع الذى أتبناه، سواء على مستوى فلسفة الحياة أو التقنية أو علم الجمال أو اللغة.

وبدوره سأل جبريل زوجته: لماذا تهتمين بأدباء الأقاليم بهذا القدر؟

د. زينب العسال: هذا بحكم أنى بدأت فى قصور الثقافة، وبحكم علاقتى الطيبة بأدباء الأقاليم، فأنا أقرأ لهم كثيرا، وأرى أنهم يكتبون إبداعا رائعا، حتى لو لم تهتم به الحركة النقدية التى تركز على إنتاج الأدباء المقيمين فى القاهرة، وهناك أسماء كثيرة فى الأقاليم توقفت عند إبداعاتهم، ولا أقول إنى اكتشفتهم. فى مقدمة هذه الأسماء فريد معوض الذى كان مشروعا لكاتب كبير لولا وفاته المبكرة، وميرفت العزونى التى تمتلك صوتا إبداعيا متفردا فى كتابة نسوية هادئة تطرح فيها قضايا المرأة الريفية المتعلمة، وسهير شكرى وحنان سعيد ومنى عارف ومنى سالم، وغيرهم من أدباء الأقاليم الذين أعجبتنى أعمالهم. ففى الأقاليم مبدعون قد يتفوقون على مبدعى القاهرة، لكنهم، للأسف، لا يحظون بفرصة الكتابة عنهم أو تقديمهم فى مؤتمرات أو ملتقيات، لهذا فأنا مهتمة جدا بأدباء الأقاليم.

العالم الإبداعى السكندرى الذى يمثله محمد جبريل.. كيف ترينه ؟

د. زينب العسال: هو عالم ثرى جدا، فمنه محمد جبريل وإبراهيم عبد المجيد وإدوار الخراط ومحمود عوض عبد العال ومصطفى نصر وصلاح بكر، وغيرهم الكثيرون، فعالم الإسكندرية بما كان فيه من جاليات وحركة تجارة وشواطيء وبحارة، كل هذا أثرى الحركة الثقافية هناك واستفاد منه المبدعون، وجعل التجربة الحياتية لهم فيها شمولية ومتسعة ومختلفة عن الواقع فى القاهرة.

أما محمد جبريل فنظرته الإبداعية صوفية إلى حد كبير؛ لأنه من منطقة فيها الأولياء الأربعة الذين كتب عنهم رباعيته، وتمتاز بمساجدها وحواريها وأزقتها، فجاءت تجربته متفردة وثرية.

حدثنا عن فكرة «المقاومة» فى أعمالك..

محمد جبريل: اكتشفت هذا متأخرا، فقد خرجت الفكرة من داخلى دون أن أشعر، وحاولت تفسير ذلك بأنى قرأت كاتبا مثل «هيمنجواي» أبطاله يسقطون دائما سقوطا كأنه الانتصار، لكنى وجدت أن أمر المقاومة موجود عندى قبل التعرف على هيمنجواي، فأنا أرى أن على كل إنسان أن يترك على الحياة بصمة، فأنا ضد أن يستسلم الإنسان للتهميش، أو أن يضع نفسه فى الهامش، وأؤمن بأن عليه أن يقاوم، ليس بمعنى الحرب بالسلاح، بل أقصد مقاومة أى شيء قبيح وفاسد ويستحق أن يبذل حياته فى مقاومته، وعليه أن يقاومه بعيدا عن الهتافات أو الشعارات الرنانة، حتى الموت يمكن أن نقاومه بأن نحيا حياة حقيقية، وأن نترك أثرا على الحياة، ولا أؤمن أبدا بالمقولة القديمة «إن الإنسان خلق ليتعذب ويموت»، فالمقاومة تتلخص فى أن كل شيء صادم أو قاهر أو متعسف استطيع أن أواجهه بشكل ما.

هل معنى هذا أن وجد أديبنا الكبير محمد جبريل فى الكتابة علاجا لمرضه؟

د. زينب العسال: المقاومة ليست جزءا رئيسيا فى كتابات محمد جبريل فقط، بل هو فى حياته إنسان مقاوم، وحتى لو مرت به لحظات إحباط فإنه لا يفقد الأمل، ففى آخر رواية له «مقصدى البوح لا الشكوي» قال إنه لو عاد به الزمن مرة أخرى فسيسير فى كل الأماكن التى لم يذهب إليها، وهكذا فنحن نعالج لحظات التعب التى يشعر بها بكل الوسائل, حتى الغناء، فهو يتألم كثيرا، لكنه ينسى هذا الألم تماما عندما يجلس للكتابة، وعندما أحذره من خطورة ذلك على صحته، يؤكد أنه لو ترك الكتابة واستسلم للمرض ستهاجمه آلام العمود الفقرى التى لا تحتمل، فأصبحت الكتابة علاجا له من الآلام، وذلك رغم أنى أشفق عليه من طول فترات جلوسه للكتابة، فقبل مرضه كان يجلس للقراءة والكتابة لمدة تتعدى 17 ساعة يوميا، لهذا فأنا أعتبر ما يمر به «إصابة عمل».

محمد جبريل: عندما أجلس للقراءة أو الكتابة أنسى آلامى المبرحة. وأنا ضحية طبيب أجرى لى عملية جراحية فاشلة، وهكذا فإنى أعانى آلام العمود الفقرى منذ ثلاث سنوات. لكنى مؤمن بالمستقبل، ومؤمن بأن الله سيفرج الكرب، ولولا ذلك ما استمررت فى الكتابة. لقد واجهت فى حياتى ما لا يواجهه بشر، ولكن كما قال الإمام الشافعى : «ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت، وكنت أظنها لا تفرج»، فأنا، رغم آلامي، لا أشعر بالقلق، وأثق فى رحمة الله.

جريدة الأهرام