في مقابلاته التلفزيونية الأخيرة، قدر قائد الإدارة الجديدة في سوريا، أحمد الشرع، الفترة المطلوبة ليشعر المواطن السوري بتحسن ملحوظ في معيشته بسنة، وبنحو ثلاث سنوات لصياغة دستور جديد، وأربع سنوات لإجراء انتخابات. إلا أن هناك تساؤلا عن أولويات الاقتصاد السوري خلال هذه الفترات، في ظل التحديات الكبيرة التي يواجهها نتيجة سنوات من الصراع والعقوبات الاقتصادية والانهيار الهيكلي في القطاعات الإنتاجية والخدمية بسبب الدمار والنزوح والهجرة.
يشكل سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول فرصة تاريخية للعمل على إصلاح اقتصادي شامل يركز على إعادة بناء دولة حديثة وتحقيق الاستقرار الاقتصادي والتخلص من الفساد والإفساد. إعادة الإعمار بعد الحروب والنزاعات، عملية معقدة تتطلب جهودا شاملة لإعادة بناء البنى التحتية والاقتصاد والنسيج الاجتماعي. يسلط المقال الضوء على أولويات الإصلاح الاقتصادي، وتحديد المشاكل التي يجب معالجتها على المديين القصير (سنة) والمتوسط (2-5 سنوات)، وتوقعات معدلات النمو الاقتصادي والناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات الأربع أو الخمس المقبلة.
ليشعر المواطن بتحسن ملموس في معيشته، هناك أربعة إجراءات سريعة وفاعلة (quick fixes) يجب اتخاذها:
أولاً: تحقيق الاستقرار الأمني ووقف دائم لإطلاق النار، وكذلك تحقيق السلم الأهلي في عملية سياسية شاملة لخلق بيئة مواتية لإعادة الإعمار.
ثانياً: إعادة تشغيل المرافق الحيوية في الاقتصاد السوري مع التركيز على قطاع الطاقة والعمل على توفير المشتقات النفطية.
الكهرباء في أول سلم الأولويات
تغرق البلاد منذ سنوات في تقنين للكهرباء يتجاوز العشرين ساعة يومياً، كما عانت البلاد من شح في واردات النفط بسبب العقوبات الاقتصادية وشح الموارد المالية بالعملات الأجنبية. تعتبر الطاقة الكهربائية في أعلى سلم الأولويات، ليس فقط للمواطنين بل أيضا لتنشيط عجلة القطاعات الاقتصادية، وهي تطرح تحديات في الانتاج، والتوزيع والقدرة على الشراء لدى الناس في ظل نية السلطة وقف الدعم للسلع والخدمات. كذلك، من المهم إعادة إدارة شؤون الحياة اليومية وتوفير السلع الأساسية وتشغيل القطاعات الحيوية بما في ذلك قطاعا الصحة والتعليم.
ثالثاً: تنفيذ مرحلة أولى من الإصلاح الإداري واتخاذ إجراءات أولية للتعامل مع الفائض في العمالة أو ما يعرف بالبطالة المقنعة في القطاع العام وإدارات الدولة، والبطالة الناجمة عن تسريح عناصر الجيش السوري وتأمين متطلبات زيادة الرواتب بنسبة 400 في المئة التي وعدت بها السلطة والتي تتجاوز تكلفتها مليارا ونصف المليار دولار، مما قد يوازي إجمالي الموازنة العامة للدولة.
حلول للعسكريين والعمالة الفائضة في الإدارة
صحيح أن تسريح عناصر الجيش، وهو الذي كان يستنزف أكثر من 50 في المئة من نفقات الموازنة العامة، سيوفر نفقات كبيرة، لكن لا بد من تقديم حلول للعسكريين المسرحين الذين قد يواجه بعضهم الجوع، ولا بد من وضع حل للعمالة الفائضة في الإدارات العامة والقطاع العام وهم بعشرات الآلاف بل ربما مئات آلاف الموظفين الذين كانوا على جداول الرواتب والأجور دون عمل. لذلك، لا بد من حلول إسعافية، وعلى المديين المتوسط والطويل، هناك حاجة لتأسيس صندوق لتسديد معاشات شهرية خلال فترة انتقالية وإطلاق مبادرات لتشغيل هؤلاء لتجنب مشاكل اجتماعية جدية قد تمس بالاستقرار الاجتماعي، أو ربما تؤدي إلى ارتفاع معدل الجريمة.
رابعاً: فرض السيادة على المنطقة الشرقية التي تحوي ثروات النفط والحبوب والقطن. ستوفر عودة إنتاج النفط الطاقة اللازمة لتشغيل محطات الطاقة الكهربائية، ومصافي المشتقات النفطية. كذلك، سيصار إلى توفير استيراد القمح وتشغيل معامل النسيج.
خامساً: رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا. وهي فرضت عندما تم تصنيف سوريا كدولة راعية للإرهاب. كان لهذه العقوبات دور كبير في انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تفوق 50 في المئة مقارنة بما قبل 2011، وارتفاع التضخم المالي إلى مستويات قياسية بسبب نقص السلع الأساسية. وأدت العقوبات إلى إضعاف البنية التحتية وعرقلة جهود إعادة الإعمار نتيجة القيود على واردات المواد الأساسية. كما أدت إلى فرض قيود على صادرات التكنولوجيا المتقدمة وعلى المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأميركية.
ثم كان قانون محاسبة سوريا بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في عام 2005، الذي أدى إلى تجميد أصول المسؤولين السوريين السابقين وفرض قيود على الاستثمارات الأجنبية. تلا ذلك العقوبات التي صدرت في عام 2011 بموجب الأمر التنفيذي رقم 13582 الذي منع عمليا التعامل مع سوريا،
وأخيرا "قانون قيصر" الصادر في عام 2020، الذي وسع العقوبات لتشمل أي شخص أو كيان أجنبي يقدم دعما للحكومة السورية. وهناك عقوبات أوروبية شملت تجميد أصول وحظر تصدير النفط وقيود على التعاملات المصرفية.
قدر البنك الدولي تكلفة الخسائر في سوريا في عام 2016 بأكثر من 216 مليار دولار. وفي غياب مسح دقيق، تقدر تكلفة إعادة الإعمار بين 300 و500 مليار دولار
بعد العلاجات السريعة خلال السنة الأولى، ينبغي خلال الفترة المتوسطة الأمد، التي ربما تغطي أربع سنوات أو أكثر، معالجة ملفات مهمة لتأمين الأموال اللازمة لإعادة الإعمار، حيث قدر البنك الدولي تكلفة الخسائر في سوريا في عام 2016 بأكثر من 216 مليار دولار. وفي غياب مسح دقيق، تقدر تكلفة إعادة الإعمار بين 300 و500 مليار دولار. يستند النجاح في المدى المتوسط الى القدرة على إعادة بناء الدولة السورية وتأهيل الاقتصاد على نحو شامل والتركيز على بناء الصناعات الثقيلة وإعادة تأهيل البنى التحتية. ومن هذ الملفات:
أولا: التعامل مع ملف الديون الخارجية
نتيجة العقوبات الاقتصادية العربية والدولية، خصوصا بعد طرد النظام السابق من الجامعة العربية، انحصرت التعاملات المالية للنظام بعدد محدود من الدول في مقدمها روسيا وإيران. ومدت إيران النظام بمساعدات مالية وعينية، منها عبر خط ائتماني جدد لمرات عدة وتم بموجبه استيراد نفط وسلع ومواد من إيران. وقدمت حكومة النظام البائد في مقابل ذلك امتيازات لإيران في قطاع الفوسفات والمرافئ ورخصة لتشغيل الخليوي.
أما روسيا، فقد تم منحها امتيازي التنقيب عن الغاز وتشغيل مرفأ طرطوس لتسعة وأربعين عاما قابلة للتجديد. لذلك، لا بد من حصر المديونية مع هذه الدول، وإعادة النظر في شرعية العقود والتعاملات المالية السيادية التي أنجزت بعد عام 2011، كون هذه الأموال والمديونية نتجت من تدخل خارجي في نزاع بين النظام وفئة واسعة من الشعب السوري. كما أن التدخلين الروسي والإيراني عطلا تطبيق القرار الدولي 2254 وكلفا الشعب السوري ثلاث عشرة سنة من النزاع والدمار. والطائرات الروسية أكبر شاهد على حجم الدمار التي تسببت به الغارات حيث تم القاء ما يقدر بسبعين ألف برميل مواد متفجرة من الطائرات.
يضاف إلى ذلك أن كلتا الدولتين لم تستقبل اللاجئين السوريين. وبالتالي، لا بد من مسح للدمار الحاصل شبيه بالمسح الذي تم عند الغزو العراقي للكويت، والعمل على المطالبة بالتعويض على المتضررين من الغارات الروسية والتدخل الإيراني المسلح، هذا بالإضافة إلى تجميد كافة الامتيازات التي منحت لإيران وروسيا، لا سيما تلك المتعلقة باتفاقات التنقيب عن الغاز في البحر المتوسط ومناجم الفوسفات.
ثانيا: توفير بيئة للأعمال جاذبة للاستثمار الخارجي والداخلي
من منظور اقتصادي بحت، فإن ما يقال عن خطة للتحول السياسي تتطلب ثلاث سنوات لصياغة الدستور وأربع سنوات لإجراء انتخابات عامة، قد تكون له مبررات نتيجة ظروف التحول والواقع السوري. لكن هذا التأخير سيؤدي إلى حالة من عدم اليقين السياسي التي من شأنها أن تزيد الأخطار السيادية وتحول دون تدفق الاستثمار وترفع تكلفة إعادة الإعمار والوصول إلى الأسواق الدولية للتمويل والاستثمار الأجنبي المباشر. فأي مستثمر أجنبي يهمه أولاً الاستقرار السياسي والقانوني وهما شرطان أساسيان، مما يستدعي إيجاد حلول تطمئن المستثمر وتعزز اليقين حول الاستقرار السياسي.
لا بد من تعزيز الاحتياط من العملات الأجنبية، وجذب تحويلات المغتربين وزيادة الصادرات، ومحاربة السوق السوداء، من خلال تنظيم أسواق الصرف وتعزيز دور البنك المركزي
ثالثا: عودة اللاجئين
يصل عدد اللاجئين خارج سوريا إلى نحو 6,5 ملايين يتوزعون على دول الجوار وبعض الدول الأوروبية. تحتاج عودة اللاجئين إلى موارد كبيرة لتوفير الطاقة الكهربائية والخدمات وبناء المساكن التي دمرتها الحرب، والمدارس والمستشفيات، والرعاية الطبية، والتعليم في مختلف مستوياته وفرص العمل. لذلك، لا بد من برنامج عملي وشامل وتأسيس صندوق يمول من الأمم المتحدة والدول المانحة لتمويل عودة اللاجئين واستقرارهم وتوفير الوظائف لهم. في هذا الإطار، من المهم النظر في تأسيس هيئة لإعادة اللاجئين والمهجرين إلى مناطقهم وقراهم وأن تتواصل هذه الهيئة مع دول اللجوء لترتيب عودتهم لمن يرغب في ذلك. وعلى الدولة السورية أن تبادر إلى وضع خطة واضحة الأهداف والإطار الزمني لعودة اللاجئين.
رابعا: سياسة التجارة الخارجية
تحت عنوان الاقتصاد الحر، يدور حديث عن اعتماد تعرفة جمركية واحدة وفتح باب الاستيراد. تعاني سوريا، منذ فجر استقلالها، من عجز تجاري. وبسبب الفشل في إدارة الاقتصاد، استمر تقنين الاستيراد الى درجة أدت إلى خنق الاقتصاد السوري.
هناك حاجة لوضع سياسة تجارة خارجية تنظم الاستيراد بما يتناسب مع الاقتصاد السوري كاقتصاد نام وتشجيع الصادرات وتطوير الصناعات الزراعية والنسيجية والدوائية لتكون منافسة في الأسواق الإقليمية والعالمية. تضاف إلى ذلك، إعادة فتح طرق التجارة والعمل على تحسين البنية التحتية للنقل لربط الأسواق المحلية بالدول المجاورة وتعزيز العلاقات الاقتصادية وتنويع الشركاء التجاريين والعمل على جذب الاستثمارات الأجنبية. سيكون فتح باب الاستيراد على مصراعيه في غياب سياسات اقتصادية متناغمة مدمرا للاقتصاد السوري.
خامسا: إصلاح القطاع المالي وسياسة سعر الصرف
ترك النظام البائد الخزينة خاوية من العملات الأجنبية، مما يحتم وضع سياسة سعر صرف تشجع على الاستثمار والتصدير بدل التركيز على استيراد الكماليات، إذ لا يمكن أن يستقر سعر الصرف إذا فتح باب الاستيراد على مصراعيه. كذلك، لا بد من تعزيز الاحتياط من العملات الأجنبية وجذب تحويلات المغتربين وزيادة الصادرات، ومحاربة السوق السوداء من خلال تنظيم أسواق الصرف وتعزيز دور البنك المركزي. ويحذر في هذا الإطار من الخطر الذي قد تستدره دولرة الاقتصاد، إذ أنها ستؤدي إلى فقدان البنك المركزي القدرة على إدارة السياسة النقدية. وهنا لا بد من ضبط التضخم وخفض معدلاته من خلال تطبيق سياسات مالية ونقدية هادفة. يضاف إلى ذلك العمل على تعزيز الثقة في النظام المالي وإصلاحه عبر تحديث القوانين المصرفية وإعادة رسملة المصارف القائمة ومنح التراخيص لمصارف جديدة.
ينفرد النزاع في سوريا بكونه أكثر النزاعات العالمية عنفا بعد الحرب العالمية الثانية من حيث عدد الضحايا وحجم الدمار في البنى التحتية والمساكن، وفي عدد النازحين والمهجرين الذين تجاوزت نسبتهم الـ50 في المئة من الشعب السوري
سادسا: تحويل الاقتصاد السوري من اقتصاد انساني إلى اقتصاد ناشئ
مع امتداد النزاع في سوريا، بات العالم ينظر إلى الاقتصاد السوري على أنه اقتصاد يعتمد على المساعدات الإنسانية من مسكن وغذاء وغيره. فمن متطلبات الانتقال من اقتصاد انساني يعتمد على توفير الخيم والسلال الغذائية إلى اقتصاد ناشئ، تحويل الموارد المتاحة لإعادة بناء البنية التحية والعمل على تنفيذ برامج التنمية، والتواصل مع صناديق التنمية للحصول على التمويل اللازم لإعادة الإعمار. في غياب ذلك، ستظل الموارد تصب في خانة المساعدات الإنسانية مما يبقي الشعب السوري على شفا الفقر.
توقعات النمو
ينفرد النزاع في سوريا بكونه أكثر النزاعات العالمية عنفا بعد الحرب العالمية الثانية من حيث عدد الضحايا وحجم الدمار في البنى التحتية والمساكن، وفي عدد النازحين والمهجرين الذين تجاوزت نسبتهم الـ50 في المئة من الشعب السوري، وطول فترة النزاع والعقوبات الإقتصادية. تحتاج توقعات النمو الاقتصادي في الفترة المقبلة 2025 – 2029 الى نماذج اقتصادية تبنى على فرضيات علمية حول إعادة الإعمار، كرفع العقوبات، وإعادة بناء البنى التحتية وتوفر التمويل اللازم.
لكن، وبالمقارنة مع تجارب دول أخرى كألمانيا ورواندا، يمكن أن تكون التوقعات قريبة إلى الواقع. في ألمانيا، تم تدمير 20 في المئة من المساكن، بينما تصل هذه النسبة إلى نحو 50 في المئة في سوريا، عدا الدمار الذي لحق بالبنى التحتية. ويقارب عدد الضحايا الذي يصل إلى نحو مليون سوري (بين ضحايا مباشرة للنزاع وضحايا السجون والمعتقلات) عدد ضحايا المذبحة في رواندا، وعدد الجرحى ومشوهي الحرب. وعلى الرغم من التشابه في عدد الضحايا (800 الف) وفي فظاعة الجريمة، إلا أن المجازر ارتكبت في رواندا في سنة واحدة في العام 1994 دون أن تسبب دمارا كما في سوريا.
وبينما حققت ألمانيا معدل نمو اقتصاديا سنويا خلال الفترة من 1951 إلى 1961 بلغ 8 في المئة، عانت رواندا من انكماش في الناتج المحلي الإجمالي في سنة الحرب عام 1994 بلغ 50 في المئة، وهو العام الذي حدثت فيه المجازر، ثم شهد عام 1995 نموا اقتصاديا بلغ 50 في المئة. ونظرا الى خصوصية الحالة السورية يمكن أن نتوقع قفزة في الناتج المحلي الإجمالي تقارب معدلات رواندا إذا ما تمت مواجهة كافة التحديات وتمت إعادة بناء وتأهيل البنية التحتية والبنية الصناعية والزراعية مع رفع للعقوبات، ويترافق ذلك كله مع اعتماد برنامج مناسب لعودة اللاجئين.