يرى مؤرخون ومتخصصون في علوم الآثار، أنّ عمليّات تدوين وتوثيق وكتابة التاريخ في عصر الرّقمنة والتكنولوجيا يمكن أن تستفيد بشكل هائل من القدرات التي تطرحها أنظمة الذكاء الاصطناعي والاتصالات، إلا أن ذلك يأتي دائماً مصحوباً بتحديّات أيضاً، ويتطلب حرصاً مضاعفاً في الدّقة والموثوقيّة والأمانة، لا سيما أن السؤال الجدلي الدائم حول «من يكتب التاريخ؟» سيبقى أبداً محل خلاف وأخذ وردّ، بفعل اختلاف الأجندات والمصالح والآيديولوجيّات والنزاهة الفرديّة في تسجيل الأحداث كما حصلت.
جاء ذلك في ندوة متخصصة تحت عنوان «كتابة التاريخ في العصر الرقمي» التي استضافها معرض الشارقة الدولي للكتاب 2022، ضمن برنامج «إيطاليا» ضيف شرف المعرض؛ حيث استضافت الجلسة كلاً من كريستيان غريكو، عالم المصريات الإيطالي المعروف، وشيخة الجابري، الباحثة والكاتبة الإماراتيّة.
ووصف المتحدثون في النّدوة التحدي الذي يواجه المؤرخين الرقميين بـ«البسيط بشكل مخادع»؛ إذ إنه «عمل تأريخي يجمع بين قدرة الحواسيب المتطورة على البحث والتلخيص والعرض، وقدرة الباحث على التفسير والجدال ووضع الأمور في سياقاتها». وهذا ينطوي بالضرورة على الحاجة لتطوير فهم كافٍ لكيفية استخدام المصادر الرقمية بشكل مناسب؛ لكن الأهم من ذلك تبقى صيغة توظيف تلك المصادر والأساليب الرقمية لتقديم فرص استعادة أفضل للحدث التاريخي على نحو يعزز فهمنا للماضي. ولذلك، فإن الفرص التي تتيحها التكنولوجيا يوازيها دائماً التحدي في كيفية الاستفادة منها لتحقيق غاية التأريخ.
وأشار المتحدثون في النّدوة إلى أن الحواسيب -وإن أصبحت أدوات أساسية في مجالات مثل التأريخ الاقتصادي، والديموغرافيا التاريخية، ومن خلال استخدام نظم المعلومات الجغرافية في الجغرافيا التاريخية- فإن هذه المجالات بقيت محدودة في السياق الكلي لعلم التاريخ، على الأقل بمقارنة بحجم التطور النوعي الذي تمّ في علوم إنسانيّة أخرى، كالاقتصاد وعلم الاجتماع والجغرافيا. وربما يعزى ذلك إلى مركزيّة النصوص في العمل التأريخي. ولكن خلال السنوات القليلة الماضية -كما ذكروا- حدثت تحولات مفصليّة في التقنيات، بحيث انتقلت الحواسيب من كونها مجرّد آلات لطحن الأرقام لتصبح تكنولوجيا معلومات ذكيّة يمكنها توفير كميّة معلومات هائلة من مختلف المصادر: مطبوعات، أو مخطوطات، أو لقى أثريّة، أو نقوش، أو حتى رسوم ولوحات، وتحويلها إلى محتوى نصي رقمي يسهل استدعاؤه ومقابلته مع المصادر الأخرى، ومن أي مكان في العالم، حتى أنّه يمكن الزّعم اليوم بأن غالبية المؤرخين المعاصرين هم بشكل أو بآخر مؤرخون رقميّون.
لكنّ كريستيان غريكو ناشد المؤرخين أن يتذكروا دائماً طبيعة صنعتهم القائمة على التعامل مع مصادر معقدة، وغير كاملة، وغالباً مليئة بالتحيزات والأخطاء، ومن ثمّ تفسيرها بشكل نقدي، وأن ما ينطبق على المصادر التقليديّة ينطبق بشكل أولى على المصادر الرقميّة. ودعا الحكومات والجهات العامّة إلى عدم الاكتفاء بدعم المتاحف والمكتبات كأدوات فعّالة ومهمّة لحفظ التاريخ؛ بل وضرورة أن تتعزز الاستثمارات العامة في ترسيخ التأريخ الرقمي، بعيداً عن الشركات التجاريّة التي لديها دائماً اعتباراتها الخاصة.
ووصف غريكو -من خبرته كعالم مصريّات- الإمكانات الهائلة في التوثيق والحفظ والتحليل التي وفرتها التقنيات الحديثة، بحيث أصبح بمتناول المؤرخ المعني بتلك الحلقة من تاريخ الحضارة الإنسانيّة كميّة غير مسبوقة من النصوص، بما فيها ترجمات ذكيّة لمئات الآلاف من النصوص الهيروغليفية القديمة المتناثرة في متاحف العالم، إلى ما يوجد منها في مصر ذاتها وجوارها.
من جهتها، تحدّثت شيخة الجابري عن الأهميّة الفائقة التي تحملها أدوات التأريخ الرقمي في التجارب العربيّة المحليّة لتوثيق الخبرات التاريخيّة، والفرص التي تطرحها لحفظ ذاكرة الأجيال، ونقلها لليافعين الذين يمتازون بقدرتهم على الاستفادة بشكل فاعل من تلك الأدوات. لكنّها أكدت بدورها ضرورة التزام المؤرخين بالتقييم النّقدي للمصادر الرقميّة بالنهج المعتمد ذاته في تقييم المصادر الأخرى، ووضعها في سياقها كوسيلة لتحقيق غاية وليست غاية في حد ذاتها.
الجدير بالذكر أن ندوة «كتابة التاريخ في العصر الرقمي» أتت ضمن عدد كبير من الفعاليات والندوات الحواريّة حول صناعة المعرفة والنشر والثقافة، على هامش الدّورة الـ41 لمعرض الشارقة الّدولي للكتاب، التي تستمر إلى الـ13 من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، ويشارك فيها عشرات الكُتَّاب والمفكرين والمبدعين والمؤرخين والفنانين العرب والأجانب.