الامتناع عن الطعام وسيلة احتجاج قديمة قدم الإنسان، فهي وسيلة متوفّرة وفي متناول اليد، وكل ما تحتاجه هو القرار والإرادة.
بتقديري أن أوّل من استخدم هذا السّلاح هو الطفل بصورة غريزية، ليعبّر لوالديه أو لمربّيه عن احتجاجه على أمر ما، كذلك فهو سلاح المراهقين في أزماتهم العاطفية، وقد يستخدمه المسنون احتجاجاً على تصرفات الأبناء أو على من يرعاهم، وربما استخدمه الشريك في الحياة الزوجية احتجاجاً على شريكِه.
رفضُ الطعام هو إعلان عن الأذى الذاتي البطيء للجسد، ويحمل رسالةً إلى من يهمهم الأمر.
أذكر رجلاً مسناً من إحدى قرى الجليل، أضرَبَ عن الطعام في بيته احتجاجاً على معاملة أبنائه السَّيئة له، وعلى تصرفاتهم الاجتماعية التي لم تُرضِه، وجلبت له الحَرج والعار، كان طويل القامة ونحيلاً وحسَّاساً جداً ومُقلاً في الكلام، يتكلم بعينيه أكثر من لسانه وفمه، ولديه عزة نفسٍ حادّة، استلقى في فراشه رافضاً الطعام والشراب، وحاول وسطاء إقناعه بالعدول عن هذا، ولكنّه واصل إضرابه بعناد وإباء غريب حتى جفّ جسده وأسلم الرُّوح.
كانت هذه أقسى عقوبة ممكنة لربِّ أسرة أن يعاقب فيها أبناء أسرته، الذين لن يغفروا لأنفسهم ما فعله بنفسه بسببهم.
عرفتْ شعوبٌ كثيرة، في نضالها التحرّري من احتلال أجنبي أو من حاكم ظالم سلاح الإضراب عن الطعام، وهو نضال سلمي غير عنيف.
هذا السّلاح فعّال في أنظمة تعمل حساباً لما يسمى الرأي العام المحلي والدولي، أما الأنظمة المارقة التي ليس لديها أي اعتبارات للقانون الدولي، فهي قد تسخر وتبادر هي بنفسها إلى تجويع الأسرى في سجونها وتقتلهم.
الهدف من الإضراب هو إثارة الرأي العام كوسيلة ضغط، قد تكون الوحيدة والأخيرة التي يملكها الأسير أو صاحب الحق.
في الهند، كان الإضراب عن الطعام أمام بيت أحدهم وسيلة للمطالبة بحقٍّ ما، مثل دَيْن، وهذا كان يكفله القانون لصاحب الدَّيْن.
كانت هذه وصمة على صاحب البيت المطالَب بتسديد دينه، وكان عليه أن يسدّد دينه أو يتعهد بتسديده أمام مجموعة من الوسطاء، لوقف الإضراب. وذكر الصيام كوسيلة قديمة في الهند قبل 750 قبل الميلاد للضغط لتحقيق أهداف سياسية.
الحكومة الهندية ألغت القانون الذي يسمح لصاحب الدَّيْن بالإضراب أمام بيت المَدين، وذلك في العام 1861.
يُذكر في هذا السِّياق أن المهاتما غاندي زعيم الهند، كان يضرب عن الطعام عندما يعتقله البريطانيون، وغيره من الهنود مثل بهجت سِنغ من البنجاب، وبعضهم مات مضرباً عام 1929.
عرفت الهند بعد استقلالها شخصيات أخرى أضربت عن الطعام طالبت باستقلال إقليمي على أساس اللغة داخل الهند نفسها.
كذلك خاضت نساء سجينات في بريطانيا الإضراب عن الطعام عام 1909 مطالبات بحق الاقتراع للنساء. وأسوةً بهن، أضربت نساءٌ أمريكيات في السُّجون عن الطعام، مطالبات بحقِّ المرأة الأمريكية في الاقتراع.
اشتهر السجناء السياسيون الإيرلنديون بالإضرابات عن الطعام منذ مطلع القرن العشرين، كوسيلة ضغط على السلطات البريطانية.
في العام 1923 أضرب حوالي 8000 سجين إيرلندي، توفّي بعضهم نتيجة للإضراب، وعادت ظاهرة إضراب السجناء الإيرلنديين في سبعينيات القرن الماضي، وتوفّي بعضهم نتيجة إضرابهم الطويل.
كذلك عرفت سجون جنوب إفريقيا خلال فترة حكم الأبرتهايد العنصري الإضرابات عن الطعام، والتي كان أحد أشهر قادتها نلسون منديلا.
عرفت سجون كوبا أيضاً إضرابات عن الطعام نفذها سجناء معارضون للنظام الشيوعي في سنوات السبعينيات من القرن الماضي. كذلك عرفت السجون التّركية إضرابات عن الطعام عام 1996 لمدد طويلة.
كذلك عرفت معظم السّجون في البلدان العربية إضرابات عن الطعام.
عرفت الحركة الأسيرة الفلسطينية الإضرابات عن الطعام في سجون الاحتلال احتجاجاً على الاعتقالات الإدارية، كذلك لتحسين ظروف السّجن مثل الزيارات و»الفورة» والطعام وغيرها، وهي أكثر من أن تحصى، بعضها إضرابات جماعية شارك فيها كلُّ الأسرى، وفي أحيان أخرى بمشاركة قسم منهم، وأحياناً بصورة فردية احتجاجاً على الاعتقالات الإدارية، مثل سامر العيساوي الذي خاض إضراباً عن الطعام وصل إلى 227 يوماً. وبلال الكايد، ومحمد القيق، ومحمود عيسى وغيرهم كثيرون.
لم تكن المرة الأولى التي يخوض فيها الشهيد خضر عدنان إضراباً عن الطعام، لأنّها لم تكن المرة الوحيدة التي يعتقل فيها إدارياً، فقد اعتقل قبلها ثلاث مرات، وأضرب في كلِّ مرة، هذه المرَّة أضرب مدّة سبعة وثمانين يوماً، إلى أن ارتقت روحه الطاهرة إلى باريها.
يبدو أنَّه أدرك هذه المرّة اقتراب رحيله ودنوّ أجله، فكتب وصيّته التي نشرت في مختلف وسائل الإعلام، وهي كلمات تحمل زبدة الإيمان المطلق الواثق والعميق الذي لا يتزعزع، يقول فيها «أحمد الله على نِعَمِه التي لا تحصى»، فأيُّ إيمان وروح صلبة هذه التي ترى النعم التي لا تحصى وصاحبها على فراش الموت في زنزانته!
ثم يوصي زوجته بصلة الأرحام وبحق الجار، وغيرها من القيم الإسلامية الأصيلة.
إضافة إلى طلبه عدم السماح للاحتلال بتشريح جثته.
«جريمة» الشّهيد خضر عدنان وغيره من سجناء الحرّية الفلسطينيين أنّهم قاوموا من يحتل وطنهم. ومثل عادة كل احتلال، يُتّهم المقاومون بالإرهاب، حتى عندما لا توجد إثباتات مادية لممارستهم هذا «الإرهاب»، يجد الاحتلال وكل احتلال مثله، وكل حُكم ظالم مستبّد، وسيلة اسمها الاعتقال الإداري أو الاعتقال بحسب قوانين الطوارئ.
في الواقع لا يوجد إرهاب أخطر وأشدّ أذى من الاحتلال في كل زمان ومكان، الاحتلال يعني السّيطرة بقوة السّلاح والقمع على حيوات الآخرين، وعلى ممتلكاتهم وحرمانهم من حقهم في أرضهم ومائهم وهوائهم وفي تقرير مصيرهم، وإهانتهم وإذلالهم في تفاصيل حياتهم اليومية، وسجنهم، وقتلهم وهدم بيوتهم. الرسالة هي أن مقاومة الاحتلال عقوبتها الإعدام، وكم من جريح أجهزوا عليه، وكم شهيد ارتقى وهو يحاول دفع الأذى عن نفسه أو عن أبناء أسرته، أو لأنه رفض الإهانة، أو رفض الابتعاد عن أرضه أو وقف بصدرٍ عار مدافعاً عن بيته أمام مجرمي وعصابات الاحتلال.
خضر عدنان شهيد آخر في قافلة الشُّهداء الطويلة التي لن تتوقّف، ما دام هنالك احتلال.