تُعّد المدرسة الحروفية، تياراً تشكيليلاً عربياً خالصاً، له ثقله الكمي والنوعي في الحياة الفنية العربية المعاصرة،حيث استطاعت المدرسة الحروفية العربية، أن تثبت للغة البصرية العالمية، أن وراء الحرف العربي أكثر من صوت، وأكثر من معنى وأكثر من لغة، فالحرف العربي الذي لعب في الحضارة العربية الإسلامية دوراً تشكيليلاً جمالياً، ما زال في الزمن الراهن، يتوافر على موسيقى خاصة، إضافة إلى قيمته الجمالية والصوفية، التي تمنح المنجز التشكيلي العربي، مقومات تفرده واختلافه وهويته، التي تطبعه بسحر خاص، ليس بمقدور غير العاشقين له من الوصول إلى كنهه، فهي المدرسة الفنية الوحيدة، التي كان لنا نحن العرب فضل تكوينها، وإطلاقها في زحمة المدارس والتيارات الفنية، التي جاءتنا من الغرب بكثافة وسرعة قياسية، صابغة حياتنا الثقافية والفنية بصبغتها، وملونة فنوننا المعاصرة بألوانها، هذا الأمر الذي دفع بالفنان التشكيلي العربي، إلى البحث عن الصوت المميز، الذي يعيد الشخصية العربية، إلى اللوحة الفنية بعيداً عن الصيغ التشكيلية الغربية بقوالبها الخاصة، من خلال البحث عن معطيات تراثية نابعة من البعد الحضاري العربي بمقوماته الثقافية والفنية، وهكذا وُلد اتجاه فني تشكيلي عربي معاصر، قائم بذاته ينهل من نبع وأصالة تراثنا العربي والإسلامي، اصطلح على تسميته "الحروفية".
بدايات ظهور المدرسة الحروفية
يغطي الآن تيار الحروفية العربية جميع الحيوات التشكيلية العربية المعاصرة، بإيقاعات متفاوتة الحضور والفعل متلونة الشكل والصياغة، يشتغل عليه اليوم عدد لا بأس به من الفنانين التشكيلين العرب الأكاديميين والهواة، الذين وجدوا ضالتهم المنشودة في هذا الاتجاه الفني، رافعين يافطة أساسية تتلخص في العمل على خلق أثر فني تشكيلي جديد، يوفق بين عصر انتهكته الخروقات التقانية الهائلة، وتراث عريق، اختلفت النظرة إليه وتعددت، لكن الجميع أقرّ بأهمية التمسك به وضرورته، "خصوصاً في هذا العصر الذي تعمل فيه عدة جهات لاقتلاعه وإلغائه، ليس في بلادنا العربية فحسب؛ وإنما في كل البلدان المالكة لمثل هذا التراث المشكل لهويتها وخصائصها ومقومات تفردها، تمهيداً لسيادة العولمة، واجتياحها للشعوب والأمم كافة، بهدف تحويل الإنسان المعاصر، إلى متلق يملك جاهزية دائمة للتحرك وفق توجيهات المستغلين ومصالحهم"1، حتى أصبحت الحروفية حركة فنية قوية لها اتساعها وانتشارها، في قلب الفنون التشكيلية العربية والإسلامية المعاصرة، بداية من ظهورها في أواخر الأربعينيات، ثم بلوغ أوجها منذ السبعينيات من القرن الماضي حتى غمرت عالمنا العربي بأكمله، عن طريق مجموعة من الفنانين التشكيلين العرب، الذين يبحثون عن الأصالة في الفن، ويسعون إلى مزج التراث بالحداثة، فكانت جماعة بغداد للفن الحديث عام 1952م، أو البعد الواحد، وهو اتخاذ الحرف الكتابي، نقطة انطلاق للوصول إلى معنى الخط كقيمة شكلية، والرجوع إلى بعد للخط كانتماء عروبي مناقض للبعد الثلاثي في اللوحة الغربية، حيث كانت هذه الجماعة، أبرز مدرسة فنية عربية، مثلت اتجاه الحروفية، خلال هذه الفترة الزمنية، واهتمت بإدخال الحرف العربي، في عالم الفن التشكيلي المعاصر، وتمكنت من تطويع الحرف العربي، عن طريق إبداع مجموعة من الأعمال الفنية التشكيلية الحروفية الجديدة، زرعوا فيها الكتل اللونية ببراعة لافتة، وقاموا باستثمار فضاء اللوحة بشكل متقن ومعبر، الأمر الذي جعلنا في مواجهة ممتعة، لأعمال فنية عربية إسلامية اليد واللسان، شرقية الهوى والنكهة، أبهرتنا بتقانيتها الفنية والإبداعية العالية، وبتوافق وانسجام العناصر المكونة لها، حيث انتشرت المدرسة الحروفية العربية، انتشاراً كبيراً على طول الجغرافيا والزمن العربيين؛ إذ لا نكاد نجد بلداً عربياً، لم نجد فيه فنانين يمثلون تيار الحروفية، حتى أصبحنا أمام ظاهرة حقيقية هي الحروفية، التي اشتغل عليها عدد كبير من التشكيلين العرب، الذين أصبحت لهم تجاربهم المتفردة شكلاً ومضوناً.
أبرز ممثلي تيار الحرفية من التشكيلين العرب
نستحضر هنا أسماءً عربية بارزة، منحت المدرسة الحروفية شهرة عالمية واسعة، حتى أصبح هذا الفن التجريدي العربي الخالص علامة مميزة للحضارة العربية، على مدى أجيال فنية عربية، نهلت من معين التراث العربي، واستلهمته في أشكال فنية جديدة، ففي العراق نذكر، جميل حمودي، شاكر حسن آل سعيد، مديحه عمر، ضياء الغزاوي، مهدي مطشر. وفي مصر، عمر النجدي، ناده عامر، حامد عبدالله، رمزي مصطفى، يوسف سيده، أحمد فؤاد سليم، عصمت داوستاشي. وفي السودان، أحمد محمد شبرين، عثمان وقيع الله، إبراهيم الصلحي. وفي لبنان الرسام والشاعر إيتل عامر، سلوى شقير، سمير الصايغ. وفي الجزائر، رشيد قريشي، عمر راسم، محجوب بن بللا. وفي الأردن، وجدان علي، ومحمود طه، وفي سوريا محمود حماد، خالد الساعي، وسامي برهان. وفي تونس نجا المهداوي، نجيب بلخومه، عبد القادر الريس، وفي المغرب، جيلاني الغرباوي، أحمد الشرقاوي، وعبدالله الحريري. وفي المملكة العربية السعودية، أحمد ماطر، ناصر السالم. وفي الأمارات العربية المتحدة، محمد مهدي، إلى جانب عدد كبير من الفنانين العرب في مشرق الوطن العربي ومغربه، الذين تعددت إبداعاتهم، في اللوحات الحروفية، وتنوعت أساليبهم وطرائق تعاملهم واستخداماتهم للكلمة والحرف العربي.
أبرز اتجاهات تيار الحروفية العربية
في سبيل إبداع لوحة فنية عربية معاصره لها عناصرها ومقوماتها الخاصة؛ تبنى التشكيليون العرب، أربعة اتجاهات في استلهام الحرف العربي، استلهام جمالي للحرف والخط العربي، استلهام رمزية الحرف العربي، استلهام القيمة التأويلية للحرف العربي، استلهام القيمة التوضيحية للحرف والخط العربي "حيث وجد الفنان التشكيلي العربي، في الحرف العربي قدرات تشكيلية وتعبيرية مطواعة، كانت امتداداً لإبداعات من سبقوه من الفنانين والحرفيين والخطاطين والوراقين العرب خلال عصورهم المختلفة، فقد أبدع الفنانون العرب القدماء لوحات تشكيلية معتمدة على الحروف والجمل العربية المقروءة أحياناً، والغامضة المعقدة أحياناً أخرى".
واستمرت هذه الأساليب حتى العصر الحاضر؛ إذ لا تزال اللوحات الكتابية المتنوعة منتشرة، وتستخدم لتزيين البيوت، والمكاتب والمحلات التجارية، والمساجد والقاعات وغيرها، إلا أن أصحاب تيار الحروفية من المعاصرين، عملوا على ربط التراث العربي بالفنون العصرية، بهدف تحقيق المعادلة الأهم، وهي التوفيق والمواءمة بين التراث والمعاصرة، الأمر الذي جعل المدرسة الحروفية تحظى بمكانة بارزة، داخل الاتجاهات الفنية التشكيلية العربية والعالمية، من خلال اتجاهاتها وصياغاتها وأشكالها المختلفة، بما خلقت من تمازج جميل وفريد، منطلقين من الإمكانيات الغنية للخط العربي، كتجربة الفنان السوري محمود حماد التجريدية، وتجربة الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد العفوية، وتجربة الفنان، السوداني عثمان وقيع الله، وتجربة الفنانة الفلسطينية مليحه أفنان، ذات القيم الروحية.. هؤلاء جمعياً وغيرهم من أصحاب اتجاه الحروفية، استخدموا الخط العربي حروفاً وكلماتٍ وجملاً، كعناصر تشكيلية تساهم في بناء اللوحة، إما أن تكون أساساً في هذا البناء في بعض اللوحات، أو تستخدم في حل أو إشغال الفراغات في لوحات أخرى، من أجل الخروج بأثر تشكيلي عربي، يحتضن شيئاً من ملامح موروثنا الحضاري العربي الأصيل.
أثر تيار الحروفية في الحركة التشكيلية العالمية
في نفس الوقت نجد أن تيار الحروفية الفني، لا يعيش معزولاً عن باقي الاتجاهات والمدارس الفنية السائدة، في الحياة الفنية العالمية، بل نجده يحس نبض العصر الذي ينتمي إليه، ويعيش في ظله، يتعامل ويتعاش معه، بحسب قول باحثة الفن "سيلفيا نايف": "إن الحروفية محاولة لخلق حداثة تغرق في المحلي، لكنها تندمج في نهاية المطاف بالتيارات الثقافية العالمية وهي تعمل على مد هذه التيارات بروافد عربية أصيلة"، حيث ازداد عالمياً مقدار أهمية الحرف العربي واستلهامه تشكيلياً في حركة الفنون التشكيلية العالمية، عندما نعلم أنه أصبح في عصرنا الحالي المقياس الصحيح للفنانين المعاصرين، من خلال المحاولات التشكيلية للاستفادة من مرونة الخط العربي، ابتداءً من "هنري ماتيس إلى بول كلي ومانيلي وميرو، وأطلق على هذه التجسيدات الفنية اسم الفن التجريدي".
الأمر الذي دفع بالفنان بابلو بيكاسو إلى القول: "إن الحرف العربي سبقنا بزمن، ونحن نعتبر حديثين في التجريدية، وأول من استطاع أن يبدع ويبتكر التجريدية هو الحرف العربي أو فن الحضارة الإسلامية"، الأمر الذي يدل على صلاحية هذا الخط للتطور والارتقاء إلى ما لا نهاية، وجعل العديد من نقاد الفن، يصفون الحروفية، بأنها أهم حركة فنية، ظهرت في عالم الفن العربي في القرن العشرين.