يُعدّ كتاب "الحوار في السيرة النبوية" لعبد الباقي أحمد خلف، والصادر عن دار الفكر بدمشق، دراسةً معمقة وقيمة تُلقي الضوء على جانبٍ حيوي وجوهري من جوانب السيرة النبوية الشريفة: الحوار. لا يكتفي المؤلف بسرد الحوارات التي جرت على عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بل يتجاوز ذلك ليُحللها، ويُصنفها، ويُبرز الأبعاد التربوية والدعوية الكامنة فيها، كاشفًا بذلك عن المنهج النبوي المتكامل في إقامة التواصل الفعّال والبناء.
إنّ السيرة النبوية ليست مجرد سجل لأحداث تاريخية، بل هي مدرسة متكاملة تُقدم أنماطًا سلوكية ومنهجية للحياة. في هذا السياق، يُظهر الكتاب أنّ الحوار كان أداةً محورية في بناء المجتمع الإسلامي الأول، وفي الدعوة إلى الله، وفي ترسيخ القيم والأخلاق. يُبرز المؤلف كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مجرد مُبلّغ لرسالة، بل كان مُحاورًا بارعًا يُجيد مخاطبة العقول والقلوب، ويُجيب على الشبهات، ويُذلل العقبات، ويُنشئ جيلًا من الصحابة فهم رسالته وعمل بها. يتعمق الكتاب في تصنيف أنواع الحوار التي مارسها النبي صلى الله عليه وسلم، ما يُثري فهمنا لطبيعة هذا التواصل، فنجد حواراتٍ تعليمية وتربوية تهدف إلى ترسيخ المفاهيم الدينية والأخلاق الفاضلة، كحواراته مع معاذ بن جبل حول حق الله على العباد، وحوارات جدلية وإقناعية مع المشركين وأهل الكتاب لإزالة الشبهات ودحض الأباطيل بالحجة والبرهان، فضلًا عن حوارات توجيهية وإرشادية يُقدم فيها النصح ويُصحح المفاهيم، وحوارات تشريعية يُوضح من خلالها الأحكام الشرعية.
أما عن أساليب الحوار النبوي التي يُبرزها الكتاب، فهي تُشكل دليلًا عمليًا لكل من يرغب في إتقان فن الحوار؛ فقد تميز منهجه بالرفق واللين حتى مع المخالفين، وبالاستماع الفعّال والإنصات الذي يُعطي كل ذي حق حقه من الاهتمام، فضلًا عن وضوح البيان وضرب الأمثال لتقريب المعاني، والتدرج في الطرح، ومراعاة حال المخاطب وظروفه الفكرية والنفسية، واستخدام السؤال البلاغي والاستفهام كوسيلة لتحفيز التفكير وتوجيه الانتباه. لا يكتفي الكتاب بالسرد والتحليل، بل يسعى لاستنباط الدروس والتطبيقات العملية من هذه الحوارات، ما يجعلها مرجعًا حيويًا في حياتنا المعاصرة. يُمكن للمسلمين اليوم أن يستفيدوا من هذا المنهج النبوي في تعزيز التواصل الأسري وبناء علاقات اجتماعية قوية قائمة على الاحترام والتفهم، وتطوير مهارات الدعوة إلى الله بأسلوب مقنع وحكيم، وحل النزاعات والخلافات من خلال اعتماد الحوار كوسيلة أساسية للتفاهم والوصول إلى حلول وسط. بالمجمل، يُعتبر "الحوار في السيرة النبوية" إضافة قيمة للمكتبة الإسلامية، فهو يُقدم قراءة متعمقة ومحللة لجانب مهم من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ويسهم في إبراز الجوانب التربوية والدعوية للحوار في الإسلام، مؤكدًا أن فن الحوار ليس مجرد مهارة، بل هو منهج حياة وسلوك نبوي أصيل.