تخطي إلى المحتوى
الخط العربي..فن في مواجهة التحديات 1/3 الخط العربي..فن في مواجهة التحديات 1/3 > الخط العربي..فن في مواجهة التحديات 1/3

الخط العربي..فن في مواجهة التحديات 1/3

شكل الخط العربي على مدى قرون طويلة عنوانًا أساسيًّا للحضارة الإسلامية. حمل أفكارها وفلسفاتها ومبادئها في جماليات رسوماته وتعدد مدارسه وخطوطه، عابرًا بها حدود الجغرافيا والتاريخ والأمم. واحتل الخط العربي مكانة أساسية في الفنون الإسلامية التي عكستها جدران المساجد وقصور السلاطين وبيوت الأثرياء، أو متون الكتب وهوامشها وسوى ذلك من فضاءات تجلت فيها فنون الخط العربي.

غير أن هذا الخط بات مهددًا في ظل الضربات المتلاحقة التي توالت عليه؛ بدءًا من ظهور المطبعة، ومرورًا بالتقنية الحديثة التي جعلت برامج الخطوط على الحاسب الآلي تحل محل آلاف فناني الخط. ولم يعد للخط العربي من مكانة إلا في اللوحة التي يرسمها فنان عاشق لتداخل الحروف وسموها. فإلى أي مدى يمكن للخط العربي أن يصمد؟ وكيف يمكن أن يواجه تحديات الرقمنة؟

لا بد للكاتب من دراية بهندسة الحروف
أحمد مصطفى / فنان وأكاديمي مصري

كان عهد العرب بالخط قصيرًا حين نزل القرآن الكريم، وكانت المصادر التي تعتمد عليها مصادر كلامية غير مكتوبة. هذه العوامل عملت على تحديد الحرف العربي في الحدود الذاتية جدًّا، بمعنى أنه لم يكن هناك توثيق ولا تطبيق. ثم إن العرب لم تكن تعرف أي شيء عن الدور الذي تقوم به عملية الكتابة في المدى الزمني القصير نسبيًّا. ولم يدركوا هذا إلا بعد وفاة الرسول بنحو مئتين وخمسين عامًا أو ثلاث مئة عام. ولم يكونوا على دراية بطول الطريق ولا بمفهوم المعنى، ومن ثم فالتحديات تفرض نفسها في صورة قوالب قانونية.

كل حرف يلزمه توثيق هندسي، والعرب لم تكن تعرف أي شيء عن الهندسة، لكنها بعد عام ثلاث مئة من الهجرة أدركت ما المراد من الهندسة، فالكون الظاهر غير الكون الباطن، وهذا أمر يحتاج إلى نوع من الوعي لإدراكه. وحين وعوا هذا الأمر عرفوا كيف يهندسون هذا الكون. وعملية الكتابة وراءها دراية بهندسة الحروف، والكاتب الذي ليس لديه دراية بهندسة الحرف فإنه يعتمد على أمشاق يساوقها أو يرسم مثلها يمينًا ويسارًا حتى ينبعث الحرف، من دون علم بالمسار والقدر والكمية والعرض والطول وكل هذه الأمور. لكن المهندس الذي فهم هندسة الحروف يمكنه أن يلقي بمعانٍ أعلى من معاني المزاول للأمشاق.

سنة مقدرة

لم أقدم نظرية عن الأسس العلمية للحرف في رسالتي للدكتوراه، وانتساب هذه النظرية لـ«ابن مقلة» انتساب أجمعت عليه المصادر كلها. وليس ضرورة أن يمثل ذلك حقيقة معينة، فما يمثل الحقيقة في هذا المجال هو المسار الذي اتخذته علاقات الحروف بعضها ببعض. فحين نقول: «النون حرف مكن من نصف دائرة، وفيها سنة مقدرة بالفكر». فماذا يريد السياق من هذا الوصف في قوله «بالسنة المقدرة في الفكر»؟ السنة هنا بمعنى القانون، ومن ثم فلا بد أن نعرف القوانين التي قامت عليها أشكال الحروف وعلاقاتها بعضها ببعض. ولعلنا حين نسأل من يسمون أنفسهم بالخطاطين، وهم مجرد مزاولين للأمشاق، عن أيهما أسبق في التعامل مع الكتابة، هل هو القلم أم غير ذلك؟ نجدهم لا يعرفون شيئًا، فهم يعتقدون أنه طالما ليس لديهم قلم فإنهم لا يستطيعون الكتابة. بينما الكاتب الحقيقي فإنه وهو جالس وحده، حسبما نعتقد ذلك، يعيش في عالم الحروف والصياغات الخطية؛ إذ إنه يرتب وينسق فيه حتى من دون أن يطلب منه شيء. هنا ندرك مدى صعوبة الموقف أو المسار الذي يتخذه الرجل الذي لا يعي علاقة الحروف بهذه الأمور، فيكتبها مثل أية كتابة، ولا يعي أن عملية الجمال عملية لها أسباب.

النسبة والتقدير

علاقتي بالخط كانت علاقة مرسومة. هذه العلاقة هي التي أثارت لديّ سؤالًا: لماذا هذا الإنسان بهذا الحجم بالنسبة إلى هذه الشجرة أو غير ذلك من العناصر الأخرى؟ ومن ثم يقول رب العزة «إنا كل شيء خلقناه بقدر»، أي على النسبة والتقدير. والإنسان في واقع الأمر لا يفهم كيف يأتي التقدير وكيف تأتي النسبة، ولا كيف يعود مرة أخرى إلى هذه الماهيات؛ كي يدركها بشكل سليم مهما كان سنه. ومن ثم حين تعاملت مع الخط لم أكن أعي أي شيء عن الكتابة أو القلم، ولا لماذا يجب تحريف القلم، ولا من أين يأتي هذا التحريف. والتحريف يعني أنه غير مستقيم بحيث لا يتوازى الخط الرأسي مع خط الأفق. فلماذا ينحرف وما الأسباب؟ والإجابة عن هذه الأسئلة هي التي تضع الكاتب على الطريق الصحيح. لم أدرك مفهوم الكتابة على النحو السليم إلا بعدما عشت في هذه الصحراء التي يظنها الرعاة جرداء، لكنها غير ذلك، فمرجع الأمر في النهاية هو إدراك الإنسان للماهيات نفسها فيه.

 

 

التقنية فتحت المجال لـ«الغش» بين الخطاطين
صلاح الدين شرزاد/فنان وأكاديمي عراقي مقيم في تركيا

بدأتُ تعلم الخط العربي منذ أن كنت في المدرسة الثانوية. قبل دخولي الجامعة التقيت الخطاط الأستاذ عبدالغني العاني الذي كان أستاذًا لي في المدرسة، والأستاذ قاسم البغدادي الذي خلفه في مكانه عندما سافر إلى أرمينيا مشرفًا على طباعة مصحف الأوقاف العراقية، والذي تعلمت منه الخط بشكل منهجي بعدما كنت أتعلم وحدي من الكتب واللافتات. وبعد سنة تقريبًا غادر أستاذي عبدالغني إلى باريس لإكمال الدراسات العلمية. انتقلت إلى الأستاذ هاشم البغدادي الذي عاد واستقر في مكتبه ببغداد، وواصلت الدراسة على يده حتى وفاته، على أمل أن يمنحني الإجازة بعد عام من ذلك التاريخ، لكن المنية وافته قبل أن يحقق أمنيتي. بعدها عندما أُوفدت إلى تركيا لإكمال الدراسات العليا في جامعاتها التقيت الأستاذ الكبير حامد الآمدي رحمه الله، وترددت عليه كثيرًا لأزداد تعلمًا منه، ومنحني إجازة الخط. وبقيت ملازمًا له حتى وفاته عام 1982م.

إلى جانب الخط تعلمت الزخرفة من المزخرفين الكبار في إسطنبول. بعدها ذهبت إلى دولة الإمارات العربية، وتحديدًا إلى إمارة الشارقة. وهناك أسهمت في تأسيس أول جماعة للخط في الوطن العربي، وباشرت بإصدار نشرة حول الخط العربي باسم «الخطاط». صدر عدد منها تحت مظلة جمعية الإمارات للفنون التشكيلية. لكن بعد العدد الثاني توقف الإصدار لأسباب فنية. وبعد ذلك بسنوات استطعت أن أجد فرصة لإصدار مجلة جيدة للخط العربي، مجلة متكاملة الأركان. وذلك من خلال ندوة الثقافة والعلوم بدبي تحت عنوان «حروف عربية». كنت مدير تحريرها لمدة ثلاث سنوات. ثم تركت العمل بها وعدت إلى العراق. وبعد ثلاث سنوات ذهبت إلى تركيا حيث عينت مدرسًا في جامعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول؛ كي أدرّس مادة تاريخ الفنون الإسلامية، وهي تخصصي الذي نلت فيه الدكتوراه، وإلى الآن أنا مقيم في إسطنبول.

التحدي الأكبر

بعد خفوت الحركة الخطية في العالم العربي، في الثلث الأخير من القرن العشرين، دب النشاط مرة أخرى في هذه الحركة. وذلك بسبب بعض المسابقات والملتقيات والفعاليات التي أقيمت في بعض الدول. مثل المسابقة المعروفة التي أقامها مركز «إرسيكا» للأبحاث في إسطنبول. وفي بعض الدول الأخرى كالإمارات، نشط الخط من جديد وظهر خطاطون جدد يقتفون آثار الأساتذة الذين كانوا في تركيا والشام والعراق إبان العصر العثماني. ومؤخرًا ظهرت التقنيات الجديدة، وبخاصة المرتبطة بالحاسوب، وقد حاول بعض الخطاطين الاستفادة من هذه التقنية المتطورة، وهو أمر جميل لو استُخدم بشكل مشروع، ولكن ما حدث أنه فتح مجالًا للغش في الخط من ضعاف النفوس من الخطاطين، عن طريق شف الخطوط عبر الحاسوب. فتصدروا المشهد واحتلوا المراتب الأولى في المسابقات. وهو ما دفع كثيرًا من الخطاطين الآخرين لأنْ يحافظوا على مكانتهم بالطريقة نفسها. فأصبح هذا الاستخدام غير المشروع تحديًا لفن الخط العربي، وإشكالية أمام النقاد والمحكمين الذين يميزون بين المستويات. وما زال هذا التحدي قائمًا ويحتاج إلى وقفة من جهات متعددة كي يجدوا له حلًّا، وكي يستطيعوا أن يقيّموا المستويات بشكل صحيح من دون أن ينخدعوا بما يقوم به بعض من غش. وهذا هو التحدي الأكبر.

يمكن القول: إن توفير المواد الخاصة بكتابة الخط العربي، هو نوع من التحدي الذي يواجه بعض الخطاطين. فالخطاط يحتاج إلى أدوات خاصة مثل الورق المطلي المخصص لرسم الخطوط عليه، فضلًا عن الأقلام المعدة بطرق معينة وخامات معينة. إضافة إلى الأحبار التي لا يستخدمها سواهم. وعلى الرغم من أن هذه المواد يستطيع بعض الخطاطين المهرة والمتمرسين تجهيزها بأنفسهم، وبخاصة الأقلام والأحبار التي يجهزونها من خامات طبيعية، فإن الخطاطين في العموم صاروا يحتاجون إلى التفرغ للعمل، وهو ما يجعلهم يحتاجون لمن يجهز لهم أدواتهم، فيقتنونها جاهزة، من دون أن يهدروا أوقاتهم. وهو ما يجعل من الضرورة وجود مختصين بتحضير أدوات الكتابة، فيوفر على الخطاطين الوقت ويساعدهم على إنجاز فنهم بشكل أكبر، وذلك في وقت لم يعد فيه الكثيرون مهتمين بصناعة أدوات الكتابة.

فن الخط العربي له جمالياته، وارتبط ببعض الفنون الأخرى، كالزخرفة التي رافقت لوحاتها لوحات الخط العربي، كأنهما فنان في ميدان واحد. وكذلك العمارة، وبخاصة العمارة الدينية، كالمدراس والأسبلة وما إلى ذلك، وهو ما أسهم في تنمية الذائقة الدينية لدى الناس، وإثراء الثقافة البصرية لديهم، والتعريف بالخط لدى الكثيرين؛ لأنهم يجدونه في كل ما حولهم.

الدور التركي

كان لتركيا دور مهم في الحفاظ على الخط العربي وانتشاره في العصر العثماني؛ لأن المركز الحضاري والفني في هذا العصر تمركز بالدرجة الأولى في إسطنبول. وإن كانت هناك مراكز أخرى مثل مصر وشمال إفريقيا وإيران، وبخاصة المنطقة الشرقية منها. لكن فن الخط العربي كان يمارس في إسطنبول بتركيز أكبر. وقد استمر الخطاطون العثمانيون بما فيهم العرب المقيمون هناك في الحفاظ على الخط العربي حتى بعد انتهاء السلطنة العثمانية بسنوات. ثم شهد الاهتمام بالخط العربي مرحلة من الضمور؛ نتيجة لاستبدال الحروف اللاتينية بالعربية هناك. وخرج الخطاطون إلى مختلف الدول العربية والإسلامية، واتبعوا من فيها في أساليبهم وطرائقهم. لكن بعد المسابقات التي استمرت كما ذكرنا في مركز «إرسيكا» عاد الخطاطون الأتراك الشباب إلى الظهور مرة أخرى بمستويات عالية جدًّا، ساعدهم في ذلك الإرث الموجود في مباني وعمائر إسطنبول والمدن المتاخمة لها، وما زالوا يعدون في الصدارة من ناحية جودة الإنتاج وعلو المستوى. وأحد الأساليب المهمة هي الآثار الجيدة للأساتذة الكبار، سواء في بطون الكتب مثل كتب الأمشاط والمصاحف أو المساجد واللوحات المعلقة فيها، وفي الأسبلة والمدارس وغيرها.

المصدر: 
مجلة الفيصل