في ليالي ألف ليلة وليلة، تراهن شهرزاد، الراويةُ التي لا يُشق لها غبار، على قوة السرد في إنقاذ حياتها، ففي مواجهة القتل على يد سلطان غاضب عازم على قتل نساء المدينة، تجد أن الطريقة الأنسب لوقف هذه المذبحة هي من خلال سرد القصص. هنا تبدو رواية القصص ليس مجرد لعبة، أو مكانا للتسلية، بل قبل ذلك بمثابة أداة لإدامة الحياة.
وفي موازاة شهرزاد، التي كما يعتقد بعض الباحثين لليالي العربية، أنها تطورت بالشكل الذي نعرفه اليوم في الفترة المملوكية والعثمانية. كتب المؤلف الإيطالي جوفانّي بوكاتشيو في منتصف القرن الرابع عشر، مجموعةً من القصص مؤطرة بموقف سردي مماثل لمجموعات القصص الكلاسيكية. ففي مجموعته «الديكاميرون» المكونة من مئة حكاية، يجعل بوكاتشيو حكاياتِهِ تدور أيضا في سياقٍ يهدد الحياة. لكن نراه بخلاف شهرزاد لا يواجه حاكما غاضبا، بل كارثة وبائية تجلت في ما عرف بالموت الأسود سنة 1348. وقد أرسى بوكاتشيو أسس تقليد استخدام السرد وسيلة للوقاية إبان انتشار العدوى، فمن سمات القصص أنها تُلهي وتسلي، وهكذا لا تعزز الصحة العاطفية فحسب، وإنما تعزز الصحة الجسدية أيضاً.
يشير مارتن مرفيوتي أستاذ اللغة الإيطالية في جامعة بيس الأمريكية، في كتابه المترجم حديثا للعربية بعنوان «سرد القصص للوقاية من الأوبئة في إيطاليا العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث»، ترجمة موسى الحالول، كلمة للترجمة، إلى أنه على مرّ السنين، تطورت «الديكاميرون» فصارت نموذجاً يُحتَذى ليس فقط في تقليد الأسلوب الخطابي لأستاذ من أساتذة الأدب، وإنما يحتذى لتخفيف مخاوف المجتمعات التي ضربها الوباء أيضاً.
اختار بوكاتشيو بدايةً لكتابه وصفاً لتفشي مرضٍ جماعيٍ مرعبٍ ووفياتٍ بالجملة: الوباء الفلورنسي عام 1348، كان بإمكانه أن يبدأ عمله بموقف متخيل، وهنا يعتقد بعض النقاد، أن بوكاتشيو اختار أن يبدأ كتابه بالوباء لأسباب بنيوية بحتة، لأن الوباء كان حدثاً مهماً. فقد عاش تجربة الوباء العظيم. وسواء أكان في نابولي أم في فلورنسا إبان تفشي الوباء أول مرة عام 1348 (ما زال النقاد غير متفقين)، فلا بد أنه تأثر به، إذ انتشر الوباء بسرعة وهدد وسط شبه الجزيرة الإيطالية وجنوبها بالكامل. لم يكن بوكاتشيو أول كاتب يتناول الوباء، أو الأوبئة في عمل أدبي، لكنه كان أول من جمع موضوعاتِ ظرفٍ يهدد الحياة مع مشكلة صحية عامة مثل الوباء الأسود، وكان بالتأكيد أول مؤلف استعمل رواية القصص لتكون وسيلة للوقاية في زمن الوباء. ففي عمله نرى مجموعة من الشباب والفتيات يكرسون أنفسهم لرواية القصص من أجل إبعاد أفكارهم عن البيئة التي ضربها الوباء. وهنا تبدو للقصص وظيفة وقائية؛ فهي تشغل عقول الرواة كيلا يستسلموا للوباء. والقيمة الوقائية للقصص واضحة: تشتيت أذهان الرواة، بدلاً من السماح لأفكارهم (وأجسادهم) بالاستسلام للخوف والمرض والموت. يبدأ بوكاتشيو في «اليوم الأول» من عمله في سرد قصته الإطارية الخيالية، ويصف بالتفصيل الدقيق وباء عام 1348.
وعلى غرار الرسائل الطبية، يسرد معلومات عن طبيعة المرض وأصله: يقول بعض الناس إن هذا الوباء حل بالجنس البشري بفعل الأجرام السماوية، ويقول آخرون إنه عقاب رباني عادل، لما اقترفنا من ذنوب في حياتنا. ولكن أياً كان سببه، فقد نشأ قبل بضع سنوات في الشرق، حيث أودى بحياة عدد لا يُحصى من البشر قبل أن ينتشر غرباً.. نسمع في هذا التفسير صدى الأقسام التمهيدية من كتيبات الوباء التي وضعها العديد من أطباء القرن الرابع عشر. بعد ذلك يبدأ برواية القصص القصيرة لصرف أذهان الشباب عن الواقع المأساوي المتمثل في تفشي الوباء في وطنهم، وبهذا، ينتقل من الجانب النظري إلى الجانب العملي بتقديم مثال على كيفية عيش الناس الحقيقيين وتعاملهم مع العدوى.
تُقَدِّم لنا القصةُ الأولى في «الديكاميرون» فكرةَ قوة اللغة، وهي فكرة تظل أصداؤها تتردد في ثنايا العمل. ففي هذه القصة الأولى، تعكس عدة مستويات من السرد القصصي الفكرة الأساسية نفسها. فسير تشابليتو يحل صراعه بوساطة الاعتراف (أي، بالكلمات). وحين يسرد بانفيلو القصة، يصرف انتباه مستمعيه عن الحقائق المأساوية المحيطة بهم في فلورنسا المجاورة التي أصابها الوباء. ونرى في القصة الرابعة من اليوم السادس مثالاً آخر على قدرة الكلمات على تغيير المَصير، كما في حكاية نيفله عن كيكيبِيوـ وهو طاه أبله من البندقية يعمل لدى كورَّادو جَنفِلْياتسي ـ الذي يتفادى عقاب سيده البدني الشديد بالرد على أسئلته بذكاء وسرعة. وحين يطلب كورادو من كيكيبِيو أن يشوي طائراً (كركي) لحفل عشاء، يشرع الطاهي بطهو الطائر. لكن حبيبة كيكيبِيو، وهي فتاة ريفية جميلة تدعى برونيتَّا، تطلب إحدى ساقي الكركي. ولأن كيكيبيو لا يستطيع أن يرفض طلبها، يعطيها ما تريد، ثم يقدم الطائر بساق واحدة فقط. وحين يسأله كورادو بصرامة عما حدث للساق الأخرى، يجيبه كيكيبِيو على الفور بأن الكركي له ساق واحدة فقط: «سيدي، ليس للكركي إلا فخذ واحدة وساق واحدة».
وفي القصة الثامنة من اليوم الثاني، تذكر الراوية إليسا الوباء في حكايتها عن كونت أنتويرب وطفليه. في بداية القصة، تبدو إليسَّا وكأنها ملتزمة بما نص عليه في الحكاية الإطارية؛ فهي تُسلي الشخصياتِ بقصة بعيدة كل البعد عن وضعهم الحالي. إذ حدثت قصتها منذ سنوات عديدة. وهي تمهد الطريق لسردها بوصف أحداث تاريخية وترتيبها ترتيباً زمنياً. واقتداءً بإليسَا، يدرك المستمعون أن القصة حدثت حين انتقلت الإمبراطورية الرومانية، التي كانت تحت حكم شارلمان، إلى أوتو الأول ملك سكسونيا عام 962 ميلادية. تخلق هذه المعلومات التاريخية مسافة بين الحكاية ومستمعيها. ويحث الإطار الزمني البعيد المستمعين على متابعة السرد إلى عالم بعيد عن عالمهم. ومع تكشف أحداث القصة، نكتشف أيضاً أن الأحداث تجري في فرنسا وإنكلترا وويلز وإسكتلندا، وهذه مسافة بعيدة من خطر الوباء الذي يستشري داخل أسوار فلورنسا. يأخذ هذا الفضاء السردي البعيد فكرهم إلى أراضٍ بعيدةٍ، إلى الماضي، إلى زمن ومكان أسطوريين.
سلالة الديكاميرونات:
يعتقد مؤلف الكتاب مرفيوتي، أن المجموعات القصصية التي تشبه «الديكاميرون» استمرت في الظهور. وظهرت سلالة جديدة من الديكاميرونات ـ وهي مجموعات من القصص والحكايات والقصائد وما إلى ذلك مؤطرة في سياق سردي ـ في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر. لم تعد هذه الكتب تتألف من حكايات قصيرة تتناول الحياة اليومية للطبقة التجارية الصاعدة في مجتمع ما بعد الإقطاع، بل كانت ديكاميروناتٍ كُتبت في عصر النهضة، وما بعده، واحتوت على قصص رصدت روح التغيير في العصر الجديد، وكانت مرآةً لطائفة فريدة من الفلسفات والأخلاق والجماليات، وظل محتوى الأعمال يتأثر بحركة الإصلاح المضاد القوية دوما.
وكانت الحرب موضوعا شائعا حاضرا في العديد من القصص الإطارية، وكذلك كانت المجاعة. ومع أن نوبات الأوبئة كانت أقل انتشارا مما كانت عليه في السنوات السابقة، ظل الوباء تهديدا كبيرا لحياة البشر خلال القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، كما يدل على ذلك انتشارُه في الحكايات الإطارية في المجموعات القصصية. وهنا يقف مرفيوتي عند مجموعة تشيليو مالِسبيني (مئتا قصة قصيرة، نشرت سنة 1609) ومجموعة فرانشيسكو أرجِلاتي (الديكاميرونة، نشرت سنة 1751)، إذ نجد أن الوباء، مرة أخرى، هو المحفز على سرد القصص. صحيح أن هذين العملين يختلفان اختلافا كبيرا في الشكل عن «الديكاميرون»، لكنهما سارا في ركاب بوكاتشيو في تصورهما للسرد بوصفه وقاية، وطبَّقا هذا التصور على الأوبئة المعاصرة.
نشر مالسبيني مجموعته القصصية «مئتا قصة قصيرة»، ومنذ المقدمة حاول توجيه رسالة الى «القراء الأفاضل» عن وجهة نظره الشاملة للسرد. إذ وجد أنه بترفيه جمهوره بقصصه القصيرة، يمكنه في الواقع تغيير حالتهم العاطفية، وربما حالهم عموما. تأتي هذه الرسالة بمثابة تعليق نظري على قيمة سرد القصص وإمكانات الحكايات الفردية. يؤكد مالِسبيني رغبته في تسلية جمهوره بقصصه المئتين. وهو واثق أن قصصه ستكون مسلية ومثيرة للضحك، حتى بين أشد المُتزمتين: «أقدم لكم، أيها القراء الأعزاء، مئتي رواية، أو قصة، وأعتقد أنه حتى أشد المتزمتين، لن يقرأها من دون أن يضحك أو يجد فيها متعة».
تشبه القصةُ الإطاريةُ في «مئتا قصة قصيرة» قصةَ بوكاتشيو الإطارية شبها لافتا. فبعد ذكره وباء البندقية باقتضابٍ والإدلاء بآرائه الطبية، ينتقل مالِسبيني من تعليقه العام إلى عالم رواته الخياليين: «وبينما كان العديد من السادة الأفاضل والسيدات الفاضلات ذات يوم بين أناس في تلك المدينة السعيدة ذات يوم، التعيسة جداً اليوم، ويتحدثون عرضاً عن شتى الأمور في مكان ما، وكانوا يحاولون قدر الإمكان إسعاد أنفسهم، والابتعاد عما يكدر الخاطر من هم وغم». يذكر مالِسبيني أن الرجال والنساء بذلوا قصارى جهدهم لتجنب الاكتئاب. ولكنه لا يحدد مكان اجتماعهم، ولا موضوع حديثهم، وانما يركز على الدافع وراء اجتماعهم: الحفاظ على معنوياتهم العالية. وبالتالي نرى أن القرون الوسطى لم تحاول الحد من الأمراض والأوبئة، من خلال الهروب من المدن، أو الانعزال، أو وضع سياسات صحية معينة، وإنما أيضا اعتمدوا على القص لرفع معنويات من عاشوا في تلك الظروف. وربما ما نسجله على كتاب الباحث الإيطالي هنا، أن كتابه لا يوفر لنا فحسب فرصة لفهم دور القص في القرون الوسطى الأوروبية، وإنما قد يبين لنا كذلك سبب انتشار القص في المدينة العربية في الفترة ذاتها تقريبا، وهي فترة أيضا عرفت فيها المدن العربية الوسطية انتشاراً واسعا لقصص ألف ليلة وليلة، وللعديد من القصص الأخرى.