انطلقت في التفكير بهذا المقال من حادثة أرويها لكم. كنت أعد وأقدم برنامجاً ثقافياً يُعنى بالأدب في إحدى الإذاعات، وصادف أن استضفت كاتباً لتقديم مجموعته القصصية الصغيرة جداً والتي لم تتجاوز المائة صفحة، وهذا ما شجعني على برمجتها في وقت متأخر من موعد تسجيل البرنامج.
لكن ما إن شرعت في قراءتها حتى وجدتني أمام شحوم كثيرة في كل نص، فانتابتني حيرة، فالنصوص، من ناحية، قصيرة جداً، ومن ناحية أخرى مترهّلة جداً ومليئة بالشحوم، حتى أنك إذا محوت الشحوم لا يتبقى لك حتى العظم، وتكتشف أنك أمام نصوص بلا هيكل عظمي أصلاً، سميتها ليلتها بـ"نصوص الفقمة".
هذا جعلني أستحضر صورة مؤلف الكتاب البدين المحشور طوال الوقت، إما في معطف خشن أو في بدلة الكاكي للموظف الستيني في أعمال نجيب محفوظ، وهو بالمناسبة، مرح، ما يؤكد أن لروح الدعابة علاقة أيضا بالبدانة، لكني آخر الليل، وبعد أن أجهزت على المجموعة، ولم أقرأ كتاباً بذلك التركيز، شعرت أن هناك شيئاً ما مر من أمامي وأنا أقرأ ولم أوليه اهتماماً كثيراً وهو: غذاء الشخصيات القصصية.
فعدت إلى القراءة من جديد. عندما أنهيت القراءة في الثانية فجراً، وأنا مسلّح بقلم رصاص كالعادة، أضع به ملاحظاتي على المقاطع الدالة، وجدتني أمام مسألة صحية خطيرة: كانت كل الشخصيات تأكل بطريقة عشوائية وغير صحية بالمرة، وأغلب غذائها إما لحوم ودهون أو عجين بشتى أنواعه أو سوائل سكرية.
ولأن النصوص كانت على علاقة فاضحة بحياة الكاتب الحقيقية عبر استحلاب الذاكرة، بدأت أفهم ما حصل للنصوص من ترهّل. فالترهل لا علاقة له بطول النص أو قصره، كما لا علاقة للتشحم بطول قامة البشر وقصرهم.
ليلتها طرقت ذهني هذه الأسئلة: هل يؤثر النظام الغذائي للكاتب على الكتابة التي يكتبها؟ وهل البدانة تسبب بدانة في النص؟ هل كان موضوع البدانة موضوعاً مطروقاً في الأدب؟ وإذا كان قد طرق فكيف كُتب البدين في الرواية؟
الرواية؟..."البدانة الروائية"
كان الناقد المغربي سعيد يقطين قد تطرق إلى موضوع البدانة في مقال له بجريدة القدس العربي بعنوان "البدانة الروائية" بتاريخ 29/ 3/ 2016، وتحدث عن الأعمال الروائية الضخمة التي تظهر في العالم العربي، فيقول: "كثيراً ما أقرأ راوية ضخمة، فأجدني واقعياً أمام روايتين لا رواية واحدة. وأحياناً أرى أن العديد من الفصول يمكن أن تزول، من دون أن يكون لها أي تأثير يذكر".
وأعطى الناقد أمثلة للأعمال التي تكتب بالايجاز والتكثيف، وضرب لذلك أمثلة من نحو "الغريب" لألبير كامو و"الخيميائي" لباولو كويهلو، وأرجع ظاهرة البدانة هذه إلى التسرع: "البدانة الروائية نتاج الكتابة السريعة، تماماً كما أن الوجبات السريعة لا تؤدي إلا إلى البدانة: مرض العصر".
يرحب الكثير من الروائيين العرب ،وخاصة المشاهير الذين يكتبون روايات ضخمة، بهذا المقال، واعتبروا أن تقييم الأعمال بأحجامها أمر مغلوط. الحق أن الرواية الطويلة بدأت تعود حتى في العالم الغربي، ويكفي أن نشير إلى أعمال مارغريت أتوود وأعمال دان براون وأعمال هاروكي موراكامي.
قادني البحث إلى أن البدانة، على عكس الشعر العربي القديم الذي احتفى بها وفق الذوق العام وقتئذ لجمال الأنثى، مثلت واحداً من المواضيع النادرة التي وقع التطرق لها في الرواية العربية والعالمية. فهذه المواضيع لا تستهوي القراء وهي مواضيع مسكوت عنها مقارنة بحضور البدين في صورة أخرى مشتهاة في السينما، وهي صورة المهرج أو الغبي في الأفلام.
البدين لم يكن إلا تابعاً في الرواية أو في السينما، فهو دائماً يضطلع بدور سانشو المُتعِب للبطل دون كيشوت أو للدون جوان، وهو مسل في الغالب أو في شخصية المومس المتقاعدة أو القوادة.
ومن ثم سقط البدين والبدينة في الكليشيه والدور الواحد، فهو إما تابع في الرواية أو كومبارس في السينما والدراما، باستثناءات هي الأعمال الكوميدية.
غير أن روايات نادرة تمكّنت من مقاربة هذه الشخصية في أوضاع أخرى ومواقف أخرى بعيداً عن الكوميديا، ومن هذه الروايات رواية "فتاة بدينة" (ترجمت للعربية بـ"بدينة ولكن") للروائية لدانيال ستيل، ورواية "ميزري" لستيفن كينغ، ورواية "تحالف الأغبياء" لجون كندي تول.
ميزري لستيفن كينغ والجسد المتراكم
البدينة التي تأكل الكتب وقع استثمار بدانتها لنوع الرواية وتوظيفها لإنتاج الرعب، فالبدين إذا تحول إلى عنيف هو المعادل للطفل. إنه الكائن الناقص أو غير العاقل، إذا ما توحش يصبح أكثر إثارة للرعب من سواه، لذلك تنتشر أفلام الرعب التي يكون أبطالها أطفالاً أو بدناء مصابين بأمراض عقلية كالتوحد وغيرها.
البدين عادة أليف كطفل، لذلك لا يظهر البدين عادة في أفلام الغواية أو البورنو، جسمه لا يؤهله لانتزاع تلك الأدوار عادة. لكن يحيى الفخراني مثلاً حطم هذا الاعتقاد، عندما كان البطل أمام ليلى علوي، فاتنة السينما وقتها، في فيلم "خرج ولم يعد"، ومع ذلك فقد كان المخرج أسير الصورة النمطية للبدين المعتوه أو المريض النفسي.
ولعل هروب منة شلبي من بدانتها بطريقة وصلت إلى حد الهوس بالنحافة دليل آخر على فوبيا البدانة والسقوط في الدور النمطي في السينما والدراما. وحتى ليلى علوي، الممثلة التي اشتهرت ببدانتها المستحبة، تخلت عنها في سنواتها الأخيرة.
وكذلك الأمر مع الفنان الاماراتي حسين الجسمي والمطربة الأمريكية أديل، وفي المقابل، تبقى تلك الفنون تنتظر ظهور الممثل البدين بعد أن رحل سريعاً علاء ولي الدين في مصر، وسفيان الشعري (صاحب الدور الشهير "السبوعي" في سلسلة "شوفلي حل") في تونس.
أما مع ستيفن كينغ في "ميزري"، فالقارئ أمام البراءة والأمومة والطمأنينة التي تنقلب إلى نقيضها، حيث تتحول إلى ماكينة لإنتاج الرعب والعنف، عبر المعجبة البدينة والتي تلتقط كاتبها المفضل العالق في الثلج إثر حادث مرور، وتحاول الاستيلاء عليه وتحويل وجهته أثناء فترة معالجته، بإعادة برمجته الأدبية وفق رغبتها.
إن هذه الرواية رواية خطيرة، فات النقاد التطرق إليها بسبب حكمهم على الكاتب المعروف بأدب الرعب، ونظرتهم لأدب الرعب على أنه درجة ثانية من الأدب.
تحيل المعجبة صاحبة الجسد الضخم إلى شخصية المتلقي النهم الذي يأكل الكتب حين يتحول إلى ند للمبدع وحينما يتحول إلى مستهلك متوحش، فقد لذة الدهشة وأصبح يطلبها بكل الطرق، حتى لو كان ذلك بالتنكيل بالمؤلف .
تحالف الأغبياء والجسد المزدحم المتعالي والمستقيل
أغناطيوس أو "دون كيشوت الأزمنة الحديثة"، كما أطلق عليه النقد الأدبي في الولايات المتحدة، هو بطل رواية "تحالف الأغبياء" لجون كيندي تول، تلك الرواية التي رفضتها كل دور النشر الأمريكية، ليدفع اليأس بصاحبها إلى الانتحار، قبل أن تنشر الرواية بعد انتحاره بإصرار من أمه وتتحصل على جائزة بوليتزر.
هذا البطل المنبوذ من مكاتب الناشرين يتحول في الرواية إلى شخصية مزدحمة بالمعارف في عالم مزدحم بالبضائع، لذلك يشعر البطل بالخيبة. فماذا يمكن أن يفعل الفيلسوف والمفكر في العالم المتشحم؟ هكذا يتعاظم وزن أغناطيوس وهو ممدد على سريره، يتابع، دون اكتراث، هذه السلع التي تلتهم العالم. وحتى عندما أجبرته أمه على العمل، عمل بائع نقانق على عربة عاد بها إلى صاحبها مساء بعد أن أكل كل النقانق مدعياً أنها سرقت.
هكذا التهم البدين ما كان من المفروض أن يبيعه للآخرين. كما الرأسمالية المتوحشة التي تأكل نفسها كل يوم عبر مجتمع الاستهلاك الذي خلقته.
في عالم الفن التشكيلي لا يمكن أن نغفل نساء بيكاسو البدينات وفي العالم العربي، يبدو أن الفنانة المصرية إسراء زيدان، بنسائها البدينات، تخط صورة أخرى للبدانة، بمعالجة شروخها عبر ذلك التبئير الفني وذلك المشروع التشكيلي الذي ينضج يوماً بعد يوم في شكل من النضالي النسوي الفني.
حيث تذهب إسراء باللوحة إلى اليومي والمناسبات العائلية الخاصة، لتحتفي بالأنثى البدينة الفرحة والضاجة بالحياة بعيداً عن البدانة الكئيبة ورسالة ضد التنمر.
ولئن ارتبط التطرق للبدانة أساساً بالمجتمعات الاستهلاكية أو الحالات النفسية والاضطهاد المجتمعي، كما في رواية "دفع" للأمريكية رامونا لوفتون، والمعروفة باسمها المستعار Sapphire، أوالتمييز العنصري في فيلم "فينوس السوداء" المخرج التونسي عبد اللطيف كشيش، فقد جرها الفنان الكولمبي فرنادو بوتيرو إلى منطقة أخرى، عبر مشروعه الفني الاستثنائي في مديح البدانة، فكان يقرأ العالم كله وعناصره من خلالها، وظلت تختفي وراء كائناته ومجسماته الضخمة والبدينة مواقفه السياسية من الديكتاتورية في بلاده، وهكذا أربك بوتيرو النظرة السائدة للبدين، فاليد ضخمة في قلب الساحة والأحصنة بدينة، وحتى الموناليزا صارت بدينة في لوحاته.
غير أن المتأمل في المصير المؤلم لـ Faith Herbert البطلة الخارقة البدينة التي أراد بها صناع الخيال بهوليود أن يتصدوا بها للصورة النمطية للبدين، يجعل التفاؤل بترميم الخيال الجمعي نحو البدين مجرد نضال نخبوي لا ينجح في التغلغل إلى الذهنية البشرية، التي مهما تحضرت يبقى في داخلها بعض رواسب التمييز. ذلك التمييز الذي ليعود إلى الظهور مع أول اختبار حقيقي.