تخطي إلى المحتوى
الرواية العربية في أفق «العالمية» المستحيلة؟ الرواية العربية في أفق «العالمية» المستحيلة؟ > الرواية العربية في أفق «العالمية» المستحيلة؟

الرواية العربية في أفق «العالمية» المستحيلة؟

«العالمية المستحيلة»؟ حتى بعلامة الاستفهام التي تذيّله، يبدو هذا الكلام ثقيلاً ومحزناً من كثرة ترديده في كثير من «الحلقات الثقافية» العربية الفاشلة إبداعياً للأسف. كيف يمكن أن نحكم على تجربة عربية متسعة الامتداد جغرافياً وإنتاجاً، بهذا الشكل المستخف لدرجة أن تبدو الرواية عربياً كزائدة دودية يجب استئصالها؟ متأكد من أن الذين يقولون بهذا الكلام دون تحليل حقيقي، لا يعرفون شيئاً عن الرواية العالمية. كلمة عالمية ثقيلة ومتسعة، كلام مثل هذا وإصدار حكم قطعي يقتضي بالضرورة معرفة كبيرة لكل الآداب العالمية وعبر مختلف القارات، من آداب الأمريكيتين، إلى الآداب الإسبانية، إلى الأدب الصيني، والهندي بمختلف لغاته، والألماني، وآداب البلدان المغمورة غير المحسوبة على الخرائط، إلى السويسري بمختلف لغاته، أو الكندي، والآداب الإفريقية بمختلف لغاتها المكتوبة، وآداب الأقليات الألبانية، والأمازيغية، والكردية، والهندية، والتامولية، وغيرها. عن أية عالمية نتحدث ونسترخصها؟ كم نحن في حاجة إلى المزيد من القراءة والتريث والتأمل فيما يبدو سهلاً ومسلماً به. أكثر من هذا كله، كم هي النصوص المنشورة عبر العالم بلغاتها الأصلية التي لم تصلها الترجمة؟ كم من لغة أجنبية نتقن ونقرأ بها لنصدر أحكاماً بلا أي ضابط وكأن العوالم اللغوية المنتجة أدبياً كلها بين أيدينا؟ أستغرب دوماً من أين يأتي كل هذا الكم من الجلد الذاتي ومن احتقار الذات العربية واعتبارها عاجزة «جينياً» عن كل تمايز فكرياً؟ مع أن تأملاً بسيطاً وساذجاً للتاريخ يبين أن هذه الذات لم تكن فقط منتجة مهما كانت انكساراتها عبر التاريخ، ولكن أيضاً قائدة للعالم معرفياً؛ إذ منحته سبل التغيير والارتقاء باتجاه تحرير المعرفة من كل المعوقات المحيطة بها، وكان ابن رشد فاعلاً أساسياً فيها بكتاب صغير غيَّر وجه العالم «فصل المقال فيما ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» الذي تم اعتماده غربياً ضمن حلقات نقاشية واسعة، أفضت بالفكر إلى ما يخيفنا عربياً اليوم:

فصل الدين عن الدولة، التي لا تعني إلحاداً كما أشيع عبر القرون عربياً وإسلامياً، ولكن تمكين المعرفة البشرية من التحرر من نير الكنيسة التي دمرت التأمل الثقافي والعلمي في القرون الوسطى. لا يعني هذا الكلام تمجيداً للماضي وتقديساً له، لكن فقط من التأكيد على أن المعرفة ليست حكراً على الآخر، ويجب كسر هذه الرؤية الكولونيالية نهائياً والعودة إلى المفاهيم التي طورها فرانز فانون، وإدوارد سعيد، وهومي بابا وغيرهم، عن فترة ما بعد الكولونيالية التي اعتمدت الرؤية النقدية بما في ذلك نقد الحقبة الاستعمارية التي صنَّعت للعربي صوراً عنصرية، التي ما يزال يعاني منها حتى اليوم، وهي صور الغرب ومخياله، وليست الحقيقة، فوضعته في درجات أقل من الحيوان. وإذاً، لماذا هذا الجلد الذاتي كلما تعلق الأمر بالرواية العربية ومقارنتها بالرواية الغربية؟ الرواية العربية ضعيفة؟ الرواية العربية لا ترقى إلى الرواية العالمية؟ الرواية العربية تحتاج إلى قرون لكي تصل إلى ما وصلت إليه الرواية عند الأمم المتقدمة؟ لا يوجد لدينا كاتب واحد ارتقى إلى العالمية؟ نجيب محفوظ قادته قناعات سياسية إلى نوبل؟ الكثير من هذه التصنيفات الواصفة للرواية العربية دون دراسة حقة للحقل الروائي العربي والتمعن فيه، ودون قراءة حقيقية للمنتَج العالمي الذي يرتكز عليه «نقدة آخر ساعة» كما يقول المثل الفرنسي. هناك مفتاح صغير يمكّننا من فتح الأبواب المغلقة لفهم هذه الظاهرة، ظاهرة الجلد الذاتي. أولاً يجب أن نعرف أن التجارب الروائية عربية كانت أم عالمية، هي في النهاية تجارب فردية، قد تعبر عن معنى وطني أو قومي، لكنها تظل في الأفق الفردي والإنساني أيضاً، وهو ما يمكنها من التعبير عن الأعم والأكثر شمولية. يمكننا أن نجد كاتباً كبيراً في بلد صغير ومتخلف وحتى ديكتاتوري مثل إسماعيل كداري في ألبانيا. قد يقول قائل «سنونو واحدة لا تصنع ربيعاً» صحيح، لكنها تبشر به. كم من روائي فرنسي يمثلون اليوم الرواية الفرنسية؟ الرواية اليابانية؟ الرواية الأمريكية؟ الروسية؟ الصينية؟ الهندية؟ الإفريقية؟ عدد محدود سمحت به المؤسسة الإعلامية، لأسباب تاريخية وثقافية أو سياسية أو تجارية، بالمرور نحو دائرة الضوء، لكننا عندما نفتش في أعماق الكيانات الروائية سنجد موجات من الأسماء التي تمثل مختلف الحقول والبلدان: الرواية الجديدة، الرواية الاجتماعية، الرواية النفسية، الرواية البوليسية، الرواية التاريخية، وغيرها كثير، في كل البلدان. السويد وهي بلد صغير، أصبح اليوم على رأس منتجي الرواية البوليسية مثلاً. ونجد على رأس كل نوع أسماء لا تحصى في ظل إصدارات تتخطى متوسط الـ 500 رواية سنوياً في البلد الواحد. لا يوجد في اليابان كواباتا أو يوكو ميشيما، أو موراكامي فقط، يوجد بجانبهم ما لا يقل عن 100 روائي معروفين في بلدهم، مترجمين إلى عشرات اللغات العالمية. ماذا نعرف عن كواغوتشي؟ عن إيتو أوغاوا بعشرات الروايات؟ إيجي يوشيكاوا؟ هيرو أريكاوا؟ دوريان سوكيغاوا؟ هذا مثال صغير عن روائيين يابانيين يحققون اليوم أعلى المبيعات؟ الشيء نفسه عن الرواية الصينية. بجانب الصيني مويان يوجد في بكّين وحدها أكثر من 600 روائي بأسمائهم المرموقة من أمثال شي نايلان، شوانغ هوا، يان ليانكو، دونغ كسي، شي زيان، تشاو شينغ لي، يو هوا، لاو شي، يي جين صاحبة «مذكرات سيدة بلاط في المدينة الممنوعة» وغيرهم. السؤال الكبير: أي جهاز يوصل هذا ويترك ذاك، ووفق أية مقاييس؟
سهولة الأحكام مدمرة للنسيج الروائي العربي، لأنها لا تنتقد عن معرفة معوقات الجنس الروائي عربياً وهي كثيرة، ولكن تنبع من تصورين، الأول الإحساس بالفوقية المرضية، والحكم بلا ضوابط علمية ولا حتى قرائية. والعمل تحت مظلة ترى في الآخر مطلق الكمال، وهي رؤية كولونيالية مبطنة أو مدركة سلفاً. أقرأ بلغات متعددة ما ينتج عربياً، أتابع عن قرب ما تقذف به المطابع الفرنسية لكتاب فرنسيين أو كنديين أو بلجيكيين أو سويسريين أو مغاربيين يكتبون باللغة الفرنسية. وأقرأ بالإنكليزية من الأدب الأمريكي والإنكليزي والمستعمرات القديمة والتابعة للتاج البريطاني سابقاً، وأقرأ بالإسبانية ما تنتجه إسبانيا وأمريكا اللاتينية وما يصلنا منه أو نطلبه مباشرة من أسواق الكتب العالمية عن طريق أمازون أو غيرها. لم أصادف في قراءاتي نقاداً أو «كتبة» يجلدون ثقافتهم بالشكل الذي رأيته ولمسته عربياً. صادفت روايات ساحرة ومهمة عالمياً، ولكني صادفت أيضاً روايات لا تحمل من حيث القيمة إلا عناوينها. والرواية العربية لها ما لها وعليها ما عليها. الكثير من الروايات العربية ترتفع بقرائها نحو حالة الإدهاش، وهناك روايات تجعل المرء يتساءل كيف وصلت إلى هذه الدرجة من الاهتمام والمتابعة. حتى النقد العربي في هذا تبعي، يسير وفق إملاءات القوة التي تأتيه من فوق ثقافياً. يكفي أن تشتهر رواية عربية في العالم الغربي، في الأغلب الأعم لأسباب سياسية مخبرية، لينزلق النقد العربي نحوها ممجداً، مع أن الرواية كانت نفسها أمامه لسنوات طويلة، ولم يبد أي اهتمام بها حتى سقطت في النسيان.
فجأة، وكأننا «اكتشفنا البارود»، تتابع المقالات في الارتفاع بالرواية عالياً دون رؤية إبداعية أو نقدية. الرواية العربية لا تعاني من القيمة الإبداعية ولكن من غياب قنوات التوصيل الإبداعي عربياً وعالمياً. في ثقافتنا ننسى شيئاً مهماً، هو الماركتينع. لكن هل منطق السوق بكل هذه الأهمية وهذه القيمة في الحكم عن الجدوى؟ الكثير من الروايات المسوقة عالمياً وعربياً لا تخضع لأي تقييم جمالي، ولكن لأغراض أخرى كثيراً ما تكون علاقاتها بالأدب واهية. المهم هو القالب والمقاييس الثقافية والإيديولوجية أحياناً التي وضعت سلفاً ليتم إدراج نص روائي معين الأدب داخلها. عقلية «الرجل الأبيض» المتحضر والمشيع للمعرفة لم تتبدل بعد حقب العبودية والحروب الكولونيالية. لهذا لا يمكن فهم فكرة «الجلد الذاتي» والرفض الكلي خارج أي جهد تاريخي أو معرفي، ولا الإجابة عن عدميتها إلا بالعودة إلى مفهومي الكولونيالية وما بعد الكولونيالية. أدمغتنا مستعمرة ومحتلة كلياً، فكيف لها أن تفكر بحرية، وترى بتبصر عميق؟

المصدر: 
القدس العربي