كشفت مصادر من المحكمة الشرعية في دمشق لـ«القدس العربي» عن تسجيل تراجع إضافي في معدلات الزواج بنسبة وصلت إلى نحو 25 ٪ عما كانت عليه قبيل سقوط النظام، على الرغم من إزالة شرط إنهاء الخدمة الإلزامية وانتهاء مبرر حالات «الزواج المكتوم».
تراجع فرص العمل
ودفعت الأوضاع غير المستقرة على مستوى عموم البلاد في سوريا، إلى عزوف الشباب عن الزواج بنسب ليست بالقليلة، نتيجة ارتفاع التكاليف وتراجع فرص العمل، ومحاولة قسم كبير من الشبان الهجرة بحثا عن فرص عمل كريمة، وهي عملية بدأت منذ سنوات الثورة الأولى وما تلاها من قمع وحشي للنظام، وما زالت على حالها رغم سقوط نظام بشار الأسد قبل أكثر من ثلاثة أشهر.
وقالت مصادر المحكمة الشرعية في العاصمة السورية إن «المحكمة، وخلال ساعات عملها كانت تقوم يومياً، قبل سقوط النظام، بتسجيل ما يعادل 100 معاملة زواج إضافة إلى عدد من دعاوى تثبيت الزواج، وهذا رقم متواضع إذا ما أخذنا بعين الاعتبار عدد سكان العاصمة، وأن المحكمة الشرعية فيها تستقبل سوريين من كل المحافظات وخصوصا من ريفها القريب».
وأكدت المصادر أن «الوضع ذهب نحو تسجيل تراجع إضافي في الفترة الحالية حيث انخفض الرقم إلى 75 معاملة زواج يومياً، ما يعني أن المعدل السنوي تراجع من نحو 26 ألفاً إلى 19500 حالة زواج».
وتشير آخر أرقام للمكتب المركزي للإحصاء في سوريا، أن تقديرات عدد السكان داخل وخارج البلاد، وصل منتصف عام 2023 إلى نحو 28.24 مليون نسمة، منهم أكثر من 14.4 مليون من الذكور و13.8 من الإناث، وبلغ عدد سكان العاصمة للفترة نفسها أكثر من مليونين، في حين بلغ عدد سكان ريفها أكثر من 6.5 مليون نسمة.
وحسب مصادر «القدس العربي» فإن «معظم حالات الزواج في الريف يقوم أصحابها بتسجيلها في المحكمة الشرعية في دمشق ما يشكل ضغطاً عليها» مبينة أن «التراجع في حالات الزواج، أظهر وكأن معدلات الطلاق قد ارتفعت في السنوات الأخيرة، لكن هذه المعدلات لم تتغير كثيراً في حقيقة الأمر».
وحسب أرقام المجموعة الإحصائية الرسمية التي تعتمد على سجلات الأحوال المدنية، فإن عدد عقود الزواج لنهاية عام 2022 وصل في كامل المحافظات السورية إلى نحو 230 ألفاً، أما عدد شهادات الطلاق فبلغ أكثر من 46.8 ألف شهادة شكلت نسبته 12.4 ٪ من عقود الزواج، وبالنسبة لمدينة دمشق فقد وصل عدد عقود الزواج للفترة ذاتها إلى نحو 25.1 ألف عقد، وشهادات الطلاق إلى أكثر من 8.5 آلاف بنسبة بلغت نحو 34 في المئة وهي الأعلى من بين كل المحافظات السورية.
وأوضحت المصادر المسؤولة في المحكمة الشرعية أن «إجراءات معاملات الزواج لم تتغير وما زالت الأوراق المطلوبة ذاتها من إخراجي قيد للزوج والزوجة وتحاليل طبية لهما ما قبل الزواج، ولم تعد المحكمة تشترط الحصول على موافقة شعبة التجنيد، التي كانت تطلبها قبل سقوط النظام، ما كان يؤدي إلى تفاقم مشكلة «الزواج المكتوم» أي غير المسجل رسمياً وإنما المشهر فقط عبر المشايخ، وكان يلجأ إلى هذه الطريقة الفارون من الخدمة الإلزامية أو المتوارون أو اللاجئون خارج البلاد عند عقد قرانهم مع فتيات مقيمات داخل البلاد».
وتوقع المصدر أن نسبة عقود «الزواج المكتوم» كانت «تقدر بنحو 4 ٪ على الأقل قبل سقوط النظام، ومع مرور الوقت كانت حالات الزواج هذه تفاقم من المشاكل وخصوصاً بعد أن ترزق هذه العائلات بالأطفال ولا يستطيعون تسجيلهم رسمياً، وتصبح المشكلة معقدة في حال وفاة أحد الوالدين».
وتحدثت المصادر عن دعاوى تثبيت الزواج اللاحقة لمثل الحالات السابقة، وقالت إنها «تختلف عن معاملة عقد الزواج الإداري، ودعاوى التثبيت التي يلجأ إليها الطرفان عندما يكون هناك نقص في معاملة الزواج الإداري، كأن يكون الشاب خارج البلاد وغير قادر على إرسال وكالة قضائية خاصة بالزواج إلى أحد ذويه لإتمام معاملة الزواج، وهذا ما حدث مع الكثير من الشباب السوريين الذين هاجروا وخصوصاً أولئك الذين تركوا البلاد بطرق غير شرعية».
المهور الغالية
وعلى الرغم من اشتداد الأزمة الاقتصادية، إلا أن قيمة المهور لم تتأثر كثيراً ولم تشهد تراجعات ملحوظة لتشجيع الشباب على الزواج، بل صارت المهور واحدة من معوقات الزواج، وبينت المصادر القضائية أن «الكثير من المهور، ومع عدم استقرار سعر صرف الليرة السورية، باتت تُسجل في المحكمة الشرعية بـ«الليرات الذهبية» التي تزن الواحدة منها 8 غرامات، ويصل سعر الغرام الواحد اليوم إلى نحو 85 دولاراً، وقمنا بتسجيل مهور بقيمة 50 ليرة ذهبية وأحياناً أكثر من ذلك» موضحة أن «المهر في القانون السوري ليس له سقف محدد، وبالتالي فإن المحكمة الشرعية تسجل المهر مهما كان مقداره».
وعلق المحامي المعروف فواز خوجة على قضية المهور المرتفعة وقال إن «أحد هذه المهور على حد علمي، وصل إلى ألف ليرة ذهبية، أي ما يعادل نحو 6.85 مليار ليرة أو 675 ألف دولار، وهذه ثروة كبيرة، وبالتالي فإن ارتفاع قيمة المهور وتراجع فرص العمل دفع إلى تراجع معدلات الزواج».
ولفت خوجة إلى الظروف المادية الصعبة التي يعاني منها الشباب السوري عندما يقدمون على خطوة الزواج، وقال: «إن إيجار صالة الأفراح من المستوى المتوسط بحدها الأدنى من الممكن أن تصل إلى 20 مليون ليرة، والرقم قد يتضاعف في الأحياء الراقية، ونحن لم نتحدث بعد عن الذهب المخصص للعروس وإيجار المنازل المرتفعة جدا، وأثاثها.
أما أثاث المنازل فقد بات هو أيضاً بأسعار باهظة جداً، فبات الزواج مرهقاً لأي شاب».
إضافة إلى ارتفاع إيجارات المنازل وغلاء الأثاث وارتفاع إيجار صالات الأفراح، والذهب المخصص للعروس، وهو ما رفع كلفة الزواج إلى عشرات الملايين من الليرات.
ورأى خوجة أن «سوريا باتت تعاني من نقص كبير في الشباب وهذا أحد أسباب انخفاض حالات الزواج التي استمرت إلى ما بعد سقوط النظام» موضحاً أن «مرد هذا النقص في الشباب الذكور هو في هجرة الكثير منهم هرباً من الخدمة الإلزامية وإصرار معظمهم على الاستقرار في بلدان المهجر وخصوصاً في أوروبا» لافتاً إلى أنه «وحتى بعد سقوط النظام لم تبدأ بعد عودة الطيور المهاجرة لعدم تحسن الأوضاع في البلاد» وقال: «تراجع معدلات الزواج ترافق في بعض الأحيان بارتفاع في معدلات الطلاق بسبب الحالة المادية الصعبة».
واستطلعت «القدس العربي» آراء العديد من الشبان، فأكد سالم، وهو حاصل على شهادة الدكتوراه من كلية الاقتصاد ولم يتزوج على الرغم من تجاوزه الـ42 عاماً من العمر، أن «المبلغ الذي جناه من عمله وفره لدفع بدل خدمة الجيش الإلزامية الذي وصل إلى 8 آلاف دولار وهذا ما بخر كل مدخراته».
زاهر، وهو موظف حكومي أكد أنه غير قادر على الزواج وقال إنه «في حاجة إلى ما يقارب 50 مليون ليرة حتى يقدم على هذه الخطوة، أي ما يعادل 5 آلاف دولار، وهذا المبلغ الكبير مقارنة براتبه الذي لا يكفيه سوى أيام معدودة، لا يمكن له تأمينه».
وأشار إلى أنه تجاوز الـ 38 عاماً وقال إنه «لن يستطيع الزواج حتى في السنوات الخمس المقبلة، وتكوين الأسرة بالنسبة لي أصبح حلماً».
يوسف شاب عشريني، وعلى الرغم من أن لديه محلاً لبيع الألبسة في منطقة الصناعة في دمشق، وهي من أحياء العاصمة شبه الفقيرة، قال إنه «بحاجة إلى عشر سنوات أخرى حتى يقدم على خطوة الزواج».