أتابع هذه الأيام كما يتابع الكثيرون، ما أثارته رواية «رهينة» للكاتبة الشابة سارة رينفز، في فرنسا، وأنها باعت ملايين النسخ، واحتلت أماكن بارزة في سوق النشر في الغرب، لم يحققها روائيون كبار، ولهم تواريخ طويلة وعظيمة في سكة الكتابة.
ما عرفته عن رواية «رهينة» التي لم أطلع عليها بعد، أنها قصة فتاة صغيرة تنتهك جسديا واجتماعيا بواسطة أحد الأشخاص، وتسميه مالكي، ولا تملك حياتها الخاصة، أيضا تساق إلى سكة بيع الجسد بواسطة الشخص نفسه، إنها تبدو قصة عادية قد تكون كتبت عشرات المرات، بأقلام شتى، وقد تكون في سبيلها لأن تكتب مجددا، لكن سارة فقط حققت بهذه القصة، التي كتبتها، ما يمكن أن يسمى ظاهرة، غير عادية.
صراحة الأمر ليس له تفسير، وصناعة الظواهر تبدو شاقة إلى حد ما، إنها ليست صناعة نجوم فقط، لكن صناعة ظلال وشموس وأقمار وميادين ثرية، تسير فيها حياة أحدهم، سواء كان كاتبا أو غير ذلك، في واحدة من المهن أو المجالات الإبداعية.
نحن نلحظ ذلك حتى في الوطن العربي، البلاد التي يقال دائما إنها الأقل قراءة للكتب، وإن توزيع أفضل كاتب هنا لا يتعدى بضعة آلاف من النسخ من أي كتاب ينشره، على أكثر تقدير، وحتى نجيب محفوظ نفسه، لا تجد هذا الهلع، وهذا التدافع لاقتناء مؤلفاته على الرغم من أنه حاصل على أعلى جائزة أدبية يمكن لمبدع الحصول عليها.
وسط هذا الكم الكتابي، ستجد كتابا قليلين يعدون على أصابع اليد الواحدة، يكتبون ولا يحملون هما للنشر، أو لا يكترثون أصلا لأن كتبهم وبنسخ كثيرة جدا، يتم بيعها قبل أن يصدر الكتاب بالفعل، ولو دخلت إلى صفحات هؤلاء الكتّاب في مواقع التواصل الاجتماعي، ستجد جملة مثل صباح الخير، التي يمكن أن يكتبها أي شخص، وبالحروف والإيقاع نفسه، ولا يحقق منها شيئا، تأتي بمئات الآلاف من الإعجابات والتعليقات، كأنها صباح خير أخرى مكتوبة بالذهب أو الجواهر.
هؤلاء الظواهر يعرفون بالفعل أنهم غدوا كذلك، وأنهم يملكون سوقا، يمكن أن تتسكع فيه كتابتهم كما تشاء، تغفو وتصحو كما تشاء، ودائما ما تجد من يتتبع طريقها ومن يقتنصها، مهما كانت ضعيفة وبلا روح، وفي حفلات التوقيع المعروفة التي تقام غالبا في معارض الكتب، يفرح الكاتب المبدع لو وقع عشرين أو ثلاثين نسخة، بينما الظاهرة يأتي متأخرا عادة، يطالع المتجمهرين في انتظاره بكثير من الرضا، ولا يخرج حتى يوقع مئات أو آلاف النسخ. لنتأمل بجدية مادة الكتابة نفسها.
لماذا هناك كتابة عظيمة جدا، يعرف القارئ جيدا أنها كتابة عظيمة، لا تحظى بما تحظى به كتابة قد تكون عادية لكاتب تحول إلى ظاهرة؟ لا إجابة.
لماذا هناك كتابة عظيمة جدا، يعرف القارئ جيدا أنها كتابة عظيمة، لا تحظى بما تحظى به كتابة قد تكون عادية لكاتب تحول إلى ظاهرة؟ لا إجابة.
وصراحة لا أحد يعرف، ولا أحد يستطيع أن يعرف، وكما قلت إنها ليست صناعة إعلامية لنجم، لكن قفزة هائلة، لا يستطيع حتى الإعلام صناعتها، إنها حظ أو نصيب، يأتي هنا ويغيب هناك.
في أحد المعارض التي حضرتها في منطقة الخليج، كنت أراقب الموقعين على الكتب في أجنحة شتى، كانوا منتشين وهم يوقعون ويلتقطون الصور مع من يفترض أنهم قراء، ثم فجأة مرّ أحد الظواهر متبوعا بموكب من المعجبين، أو المساندين لكتابته أو سمعته، لا أدري، فأسرع كل من يريد توقيعا خلفه، ليصطفوا جميعا في المكان الذي سيوقع فيه كتابه الجديد، تاركين المؤلفين الآخرين في فراغ كبير..
بالنسبة لي ولغيري من الكتاب الذين صنعوا عالما خاصا بهم، على مدى سنوات طويلة، يبدو التوقيع في المعارض، خاصة في وجود ظواهر، أمرا شاقا وعسيرا وغير منصف، إنه مضيعة للوقت صراحة، وعادي جدا أن تجلس ساعتين في جناح إحدى دور النشر، ولا يأتي لك سوى زائر واحد يريد توقيعك. وقد ذكرت مرة أنني كنت أجلس في معرض عربي كبير ومحتشد بالزوار لتوقيع روايتي 366 التي صدرت في ذلك العام، وكان كل من يقف أمامي، يسألني: بكم؟ أقول، اسألوا البائع، أنا أوقع فقط.
فيقلب معظم السائلين الكتاب بين أيديهم يرددون ماذا تعني 366؟ ويذهبون، وقد كان ذلك اليوم بالتحديد، سببا في توقفي عن التوقيع في المعارض، إلا تلك التي تهب الكتاب منصات خاصة، يجلسون عليها، محاطين بالأصدقاء، ولا يهم إن حضر أحدهم ليوقع كتابا أم لا؟
أعود لمسألة سارة، ورواية «رهينة» التي تذكرني برواية كمال داود «معارضة الغريب» التي كتبها، معارضا بها رواية ألبير كامو الشهيرة، واخترع للقتيل في رواية كامو اسما وأسرة وماضيا، ومستقبلا كان سيحدث برفقة حبيبة، لولا أن قتل، لا يوجد شبه في القصة، لكن في الضجة التي حدثت هنا وهناك، فتلك رواية صغيرة ومقتضبة أحدثت تأثيرا أيضا، لكن صراحة كانت قصة فيها كثير من الابتكار وتستحق بعضا مما أحدثته.
في النهاية نحن نكتب وننتظر شيئا ليحدث، قد يحدث هذا الشيء في بواكير الكتابة وقد يحدث في منتصفها أو في نهايات التجربة، لا أحد باستطاعته التخمين، لكن أن يتحول الكاتب إلى ظاهرة وبكتاب عادي إلى حد ما،، فهذا لا يحدث تقريبا إلا نادرا جدا.