لم تُثِر لغة أجنبية سجالا في الأوساط السياسية والعلمية والتربوية في فرنسا بقدر ما أثارته اللغة العربية وأثاره تعليمها لـ "المسلمين الفرنسيين العرب". فمسألة تعلم اللغة العربية وحق ما يسمى "الإسلام الفرنسي"، أو "المسلمين الفرنسيين" على وجه الخصوص، بتعلمها، غالبا ما نُقِلت من حقل المعرفة والتعلم والثقافة إلى حقل الدين والسياسة والأيديولوجيا. فجرى خلط مستمر بين اللغة العربية من جهة، والدين الإسلامي ولغته، "لغة القرآن"، من جهة أخرى، حتى كادت تختفي الحدود بين الوجهين. وربما أُهمل عن قصد السياق التاريخي الذي يؤكد أن اللغة العربية أقدم من الإسلام، الذي لا يعدو كونه جزءا من تاريخ اللغة العربية.
دراما استعمارية وأمنية؟
يترتب على هذا الخلط الذي غالبا ما تتبناه أوساط التيار الشعبوي واليمين المتطرف الفرنسيين، خوف فرنسي من تغلغل الإسلام السياسي وما يرافقه من تطرف في أوساط الفرنسيين الناطقثين بالعربية. أما الأوساط السياسية الفرنسية الأقل شعبوية وتطرفا يمينيا، فتخلط بين اللغة والثقافة العربيتين وبين الهوية العربية والإسلامية، لتحذِّر من نزعة "الإسلام الفرنسي" إلى انفصال محتمل عن الدولة الفرنسية وعن هوية الجمهورية الفرنسية. وهذا ما يقف عائقا من جملة عوائق أخرى في وجه تكيف "المسلمين الفرنسيين" (اندماجهم؟) الاجتماعي، ويدفع بالراغبين في تعلم اللغة العربية إلى مزيد من التقوقع والعزلة والانغلاق.
ولخص مدير قسم تعليم اللغة العربية في معهد العالم العربي بباريس، محمد قرقور، الحال هذه فقال لـ"المجلة" إن "تعليم لغة الضاد في فرنسا يعاني من مشاكل عدة، بينها نقص في الإرادة السياسية الفرنسية التي تتقاعس عن إتاحة تعلم اللغة العربية لكل الراغبين من الفرنسيين والمقيمين في فرنسا، بلا عوائق وبلا مخاوف أيديولوجية. ومنها أيضا انتشار الصور النمطية الخاطئة عن الإسلام واللغة العربية لدى بعض الفرنسيين الذين يطابقون بين تعليم اللغة العربية والدين الإسلامي، وأحيانا بينهما وبين التطرف والإرهاب. وهذا غير صحيح مطلقا"، حسب قرقور.
لكن في نواة أو عمق مسألة تعلم العربية وما يسمى" المسلمون الفرنسيون"، يكمن تاريخ العلاقة الاستعمارية المأسوية المعقدة بين فرنسا والجزائر التي تنحدر منها كبرى جاليات "الإسلام الفرنسي". ففرنسا في الحقبة الاستعمارية كانت تعد الجزائر أرضا فرنسية، وأقدمت على تكريس رغبتها في فرنسة الجزائر. وقد نجم عن ذلك تدمير المجتمع الجزائري المحلي وهويته ولغته في تلك الحقبة التي لا تزال الجزائر تعاني من آثارها حتى اليوم.
هناك تاليا استقدام فرنسا من بلاد المغرب العربي، وتحديدا الجزائر، ما تحتاج إليه من عمالة رخيصة للأعمال القاسية والمضنية. شكل أولئك العمال وعائلاتهم منذ الحرب العالمية الثانية جالية مهمشة ومقصية في فرنسا، ينطوي وجودها على "دراما استعمارية" متناسلة شديدة التعقيد. من وجوهها أن "الإسلام الفرنسي" يعدّ اللغة العربية والدين الإسلامي من عناصر هويته التي يخاف منها جمهور فرنسي واسع على هويته الفرنسية. وتشير الإحصاءات إلى أن عدد "المسلمين الفرنسيين" يتجاوز الستة ملايين نسمة.
منذ مطلع الألفية الثالثة استجد في أوروبا كلها الخوف من التطرف الإسلاموي وما يرافقه من عنف. وقد أُضيف هذا إلى قلق فرنسي مما يسمى "النزعة الانفصالية" لدى "مسلمي فرنسا"، ومما تنطوي عليه من تهديد لبنى المجتمع الفرنسي ووحدته وتماسكه الاجتماعي والوطني.
وهاتان الحجتان (الإرهاب الإسلاموي، والنزعة الإنفصالية) هما الأساسيتان اللتان جعلتا من تعلم اللغة العربية والحق في تعلمها أمرا شديد التعقيد في فرنسا. وهذا ما أخّر إلى حد بعيد إدراج اللغة العربية في مناهج التعليم الوطنية أسوة بسواها من اللغات الأجنبية المدرجة في نظام التعليم، كالروسية والصينية والألمانية، علما أن أعدادا كبيرة من سكان فرنسا يتحدثون اللغة العربية التي تتصدر المرتبة الأولى بين اللغات الأجنبية في فرنسا، وتأتي بعدها اللغة الصينية، بسبب كثرة أعداد الجالية الصينية المقيمة في فرنسا.
هذا كله أدى إلى أن تكون المقاربة الفرنسية لتعلم اللغة العربية "مقاربة أمنية" حسب ميما شهال، وهي طالبة دكتوراه علوم سياسية في مدينة مرسيليا الفرنسية. والمقاربة الأمنية غالبا ما تقود إلى ربط تعلم اللغة العربية بمسائل الإرهاب والإسلام السياسي.
متاهة أسباب سلبية
على الرغم من كل الاعتراضات التي واجهت إدراج اللغة العربية في مناهج التعليم الرسمية الفرنسية، أصبحت العربية "رسميا"، بحلول عام 2017، خيارا متاحا لمن يشاء تعلمها في المدارس. لكن تنفيذ ذلك على أرض الواقع لا يزال بعيد المنال إلى حد كبير.
لماذا؟ أولى المشكلات التي تبرز أمام تعلم العربية تكمن - حسب شهال - في النقص الشديد في كوادر تعليمها في فرنسا. يوازيه نقص في خبرات المعلمين. فقد بلغ عدد مدرسي اللغة العربية في عموم فرنسا نحو 200 مدرس، موزعين على المدارس الفرنسية كافة. وهذا رقم قليل. وهو ناجم عن طبيعة الإهمال التاريخي لتعليم اللغة العربية في المدارس والجامعات الفرنسية. وهي المؤسسات المخصصة لإنشاء الكوادر القادرة على تعليمها.
إضافة إلى الإهمال، هناك القطيعة بين التعليم الثانوي والجامعي في مجال تعليم اللغة العربية في فرنسا. وهذا أمر "مدهش" على حد تعبير الباحث المتخصص باللغة العربية، ميلود غرافي. والباعث على هذه القطيعة ثقافي ونخبوي. فالمستعربون الفرنسيون والباحثون ومدرسو الإسلاميات والحضارة والثقافة العربيتين والإسلاميتين في الجامعات، لا صلة لهم بالتعليم ما قبل الجامعي. وغالبية طلاب الدراسات الجامعية العليا من أصول عربية، غالبا ما كانوا يعودون للعمل في بلدانهم بعد حصولهم على الشهادات من جامعات فرنسا. أما أبناء المهاجرين من بلدان مغاربية فلا يقبِلون إلا في ما ندر على دراسات عريبة وإسلامية في فرنسا.
ويقول السيد أبو سلمى - هكذا رغب التعريف بنفسه، وهو مدرس لغة عربية أكاديمي قدم من سوريا إلى فرنسا في العام 2015 - لـ "المجلة": "بعد وصولي إلى فرنسا واستقراري فيها، تواصلت مع رئاسة قسم اللغة العربية في جامعة جان جوريس في مدينة تولوز جنوب البلاد للانضمام إلى كادر التعليم، خصوصا أن لدي الخبرة والمؤهلات الكافية لذلك. إلا أن المعوقات التي وُضعت أمامي كانت من الصعوبة التي حملتني، بعد مضي بعض الوقت، على التخلي عن الفكرة. فإدارة المدارس والتعليم عموما شديدة المركزية والبيروقراطية في فرنسا، وهي غالبا ما تستريب من إرادة المهاجرين العرب والمسلمين واقبالهم على الانخراط في تعليم لغتهم في المدارس الرسمية".
حتى لو رغبت إدارة المدرسة في إدراج العربية ضمن صفوفها، فإن المشكلة تتعلق بقلة عدد التلاميذ الذين يختارون دراسة العربية
لا تقتصر المشكلة على عدم توفر الكادر المطلوب. فالمدارس في المناطق التي تتحكم بإدارتها المحلية هيئات يمينية، على سبيل المثل، قد تقرر إدارتها استبعاد تدريس اللغة العربية من الخيارات المتاحة للتلاميذ. وحتى في حال عدم استبعاد إدارة المدرسة اللغة العربية لأسباب أيديولوجية ودينية، فإن عدد طلاب اللغة العربية الضئيل يلعب دورا في استبعادها. وتقول شهال: "حتى لو وجد مدرس للغة العربية، وحتى لو كانت إدارة المدرسة ترغب في إدراج اللغة العربية في صفوفها، فإن المشكلة التي قد تواجه الإدارة تتعلق بقلة عدد التلاميذ الذين يختارون دراسة اللغة العربية. والقلة هذه تحمل إدارة المدرسة على عدم فتح صف لهم".
طالبة في مدرسة تولوز الثانوية (16 سنة، تنحدر من أسرة مغاربية) قالت لـ "المجلة": "لم أكن أعلم أن اختيار دراسة اللغة العربية متاح في المدرسة. لذا اخترت اللغة الإسبانية عندما كنت في المرحلة المتوسطة. وفي مرحلة التعليم الثانوي علمت أنني أستطيع دراسة العربية عوضا من الاسبانية. وعندما باشرت التسجيل علمت أن عليّ أن أحضر صف اللغة العربية في مدرسة أخرى، تبعد كثيرا عن الحي الذي أقطنه. زيادة على ذلك وجب على والديّ دفع مبلغ من المال ليس بالقليل، من أجل حضوري في الصف. لذا تخليت عن الفكرة وتابعت تعلم الإسبانية".
أرقام وخيارات وجهات
تشير الأرقام الإحصائية إلى أن عدد تلامذة اللغة العربية في العام 1986 في فرنسا، لم يكن يتجاوز 13 ألف تلميذ. وفي العام 2000 تقلص العدد ليصل إلى 7 آلاف تلميذ فقط في عموم فرنسا. وارتفع العدد تدريجيا ليصل إلى نحو 14 ألف تلميذ في العام 2019. وذلك من إجمالي نحو 5.5 مليون تلميذ فرنسي. وهذا ما يشكل زيادة نسبية، مقارنة بعدد تلاميذ اللغة العربية في العام 2007، الذي وصل إلى نحو 6500 تلميذ، حسب صحيفة "لوموند" الفرنسية.
على الرغم من أن تعلم اللغة العربية في المدارس الرسمية الفرنسية هو الخيار الأفضل للتلامذة على المستويات كافة، لكن المعوقات التي أوردناها أعلاه، أدت إلى بروز المدارس والمعاهد الخاصة كملاذ أكثر استقطابا لتعليم اللغة العربية.
تأتي المساجد في فرنسا وسفارات الدول العربية فيها في مقدمة الجهات التي تقدم دروسا في اللغة العربية. وحسب تقرير صادر عن "المعهد الفرنسي للاندماج"، درس في العام 2015 نحو 75 ألف تلميذ اللغة العربية في الصفوف الخاصة التي تنظمها السفارات. لكن هؤلاء يظلون خارج الجسم التعليمي الفرنسي، أي خارج إشراف وزارة التربية.
معهد العالم العربي
يعد معهد العالم العربي أحد أهم مراكز تعليم اللغة العربية خارج إطار التبعية السياسية والأيديولوجية، وهو يركز بشكل خاص على تعليم العربية وما يرافقها من نشاطات ثقافية وفنية الطابع.
ويعد معهد العالم العربي في باريس، بإدارة جاك لانغ وزير الثقافة السابق، من أهم الجهات الفرنسية في تعليم اللغة العربية. وقد يكون الجهة الوحيدة المخولة منح شهادة في اللغة العربية معترفٍ بها فرنسيا ودوليا. وهي شهادة "سمة"، معترف بها رسميا منذ العام 2019. ويتخرج سنويا من المعهد عشرات الطلاب الحائزين شهادة رسمية في تعلم اللغة العربية، وتعترف بها وزارة التربية الفرنسية.
وكان المعهد قد خصص قسما خاصا لتعليم اللغة العربية، وهو "مركز اللغة والحضارة العربية" الذي يهدف إلى النهوض باللغة العربية لغة للتواصل، وإلى المساهمة من خلال اللغة في فهم أفضل للعالم العربي المعاصر. وهذا إضافة إلى تنظيم دورات لغة عربية لفئات الجمهور المختلفة. وحسب مدير المعهد عبد الغني سباطة، أقيم المركز من أجل تطوير وتعميق تعليم العربية وفهم العالم العربي وثقافاته المتعددة.