يعد الارتفاع غير العادي لنسب "العيش وحيدا" من بين أهم التغيرات الاجتماعية في العالم الحديث. حتى منتصف القرن العشرين، لم يواجه البشر تلك المشكلة التي تصفها بعض الدراسات العلمية بالوباء العالمي الجديد. أما اليوم؛ فتنتشر الوحدة في كل مكان في المجتمعات المتقدمة والمفتوحة؛ حيث تمثل الأسر المكونة من شخص واحد أكثر من 40 في المئة من جميع الأسر في الدول الاسكندينافية مثل السويد وفنلندا، كما أن أكثر من ثلث جميع الأسر في فرنسا وألمانيا وإنكلترا، ونحو ربع الأسر في الولايات المتحدة وروسيا وكندا وإسبانيا واليابان مكونة أيضا من شخص واحد.
هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن هذا الارتفاع الكبير لتلك النسب، يؤثر على الصحة بشكل جذري وخطير.
إذ تقول الدراسات العلمية إن العزلة الاجتماعية تزيد خطر الموت المبكر، وتساهم في اضمحلال الصحة العقلية، وتلعب دورا في الإصابة بطيف واسع من الأمراض في مقدمها أمراض القلب والأوعية الدموية المسؤولة عن وفاة أكثر من 19 مليون شخص سنويا.
كشفت دراسة جديدة منشورة في الدورية الطبية للأكاديمية الأميركية لطب الأعصاب عن عرض خطير من أعراض العزلة الاجتماعية، فكبار السن الذين لديهم تواصل اجتماعي أقل مع الآخرين أكثر عرضة لفقدان الحجم الكلي للدماغ، مما قد يؤدي الى الإصابة بالخرف بنسبة أكبر بكثير من الأشخاص الذين يتمتعون بشبكات اجتماعية واسعة ويعيشون وسط زمرة من الأصدقاء.
ما هي العزلة الاجتماعية؟ وما هي أنواعها؟
تشير العزلة الاجتماعية إلى الحالة التي يكون فيها للفرد تفاعلات أو اتصالات اجتماعية محدودة أو معدومة مع الآخرين. ويُصبح الشخص معزولا اجتماعيا عندما يفتقر إلى الاتصال المنتظم والمشاركة مع أفراد الأسرة أو الأصدقاء أو الشبكات الاجتماعية الأوسع. كما يمكن أن تكون العزلة الاجتماعية تجربة ذاتية، حيث يرى الفرد نفسه على أنه يشعر بالانفصال عن الآخرين، أو يمكن أن يكون حالة موضوعية، حيث يوجد نقص ملموس في التفاعلات الاجتماعية.
ويمكن أن تظهر العزلة الاجتماعية في صور عدة؛ منها العزلة الجسدية التي تحدث عندما تكون لدى الفرد فرص محدودة للتفاعل مع الآخرين بسبب عوامل مثل العيش بمفرده أو المسافة الجغرافية من العائلة والأصدقاء أو مشاكل التنقل، والعزلة العاطفية التي تعني عدم وجود علاقات وثيقة وذات مغزى ودعم عاطفي من الآخرين.
في العصر الرقمي، قد يعاني الأفراد من العزلة الاجتماعية بسبب الاستخدام المحدود للتكنولوجيا أو عدم التمكن من الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الاتصال عبر الإنترنت بسبب ضعف الخبرة، أو قلة الموارد، أو انعدام الخدمات.
على مدى العقود القليلة الماضية، تزايد اختيار الأشخاص، خصوصا في المناطق الحضرية، للعيش بمفردهم، بعدما أدت هجرة الناس من المناطق الريفية إلى المدن إلى تغييرات في نمط الحياة والهياكل الأسرية، إذ توفر المناطق الحضرية المزيد من فرص العمل والمزيد من الاستقلال، وتجذب الأفراد للعيش بمفردهم.
ومكّنت الفرص الاقتصادية المحسنة الأفرادَ من العيش بشكل مستقل، وتقول الدراسات إن الاستقرار المالي وزيادة الفرص المتاحة للمرأة في القوى العاملة أديا دورا مهما في هذا الاتجاه.
ومع تطور الأعراف الاجتماعية المحيطة بالزواج والأسرة، والتركيز على تحقيق إنجازات فردية في العمل؛ تأخر الزواج وانفصل الأبناء عن منزل الأسرة مما ساهم في زيادة عدد الأشخاص الذين يعيشون بمفردهم.
العزلة الاجتماعية وضمور الدماغ
تقول منظمة الصحة العالمية إن العزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة منتشران على نطاق واسع، حيث أفادت بعض البلدان أن ما يصل إلى واحد من كل ثلاثة من كبار السن يشعر بالوحدة.
وتظهر مجموعة كبيرة من الأبحاث أن العزلة الاجتماعية والوحدة لها تأثير خطير على الصحة البدنية والعقلية لكبار السن يمكن مقارنته بتأثير عوامل الخطر الأخرى الراسخة مثل التدخين والسمنة وقلة النشاط البدني.
في الدراسة الجديدة؛ افترض الباحثون أن انعدام التواصل الاجتماعي قد يكون سببا في ضمور الدماغ، وقد يلعب دورا كبيرا في ظهور أعراض الاكتئاب. ولأن العزلة الاجتماعية مشكلة متنامية لكبار السن؛ قرر الباحثون تخصيص دراستهم لفحص تداعيات تلك المشكلة على كبار السن تحديدا. اشتملت الدراسة على 8896 شخصا بمتوسط عمر 73 عاما لا يعانون من الخرف، خضعوا لفحوص التصوير بالرنين المغناطيسي للدماغ والاختبارات الصحية.
انعدام التواصل الاجتماعي قد يكون سببا في ضمور الدماغ، وقد يلعب دورا كبيرا في ظهور أعراض الاكتئاب
ولتحديد الاتصال الاجتماعي، طرح سؤال واحد على الأشخاص: كم مرة تتواصل مع الأقارب أو الأصدقاء الذين لا يعيشون معك، على سبيل المثل، الاجتماعات في المناسبات أو التحدث عبر الهاتف؟ كانت اختيارات الإجابة التي وضعها الباحثون هي: كل يوم، أو مرات عدة في الأسبوع، أو مرات عدة في الشهر، أو نادرا.
وتبين أن لدى الأشخاص الذين يعانون قدرا أقل من الاتصال الاجتماعي حجم دماغ إجمالي أقل بكثير من أولئك الذين لديهم اتصالات اجتماعية بصورة أكبر. إذ كان الحجم الكلي للدماغ، أو مجموع المادة البيضاء والرمادية، كنسبة مئوية من الحجم الكلي داخل الجمجمة، أو الحجم داخل الجمجمة، بما في ذلك الدماغ والسحايا والسائل النخاعي أقل عند الأفراد الذين يعانون من العزلة الاجتماعية. كما كان لديهم أيضا أحجام أقل في مناطق الدماغ مثل الحُصين واللوزة التي تلعب دورا في الذاكرة وتتأثر بالخرف.
كما كان لدى الأشخاص المعزولين اجتماعيا مناطق تلف صغيرة في الدماغ، تسمى آفات المادة البيضاء، بصورة أكبر من الأشخاص الذين لديهم اتصال اجتماعي متكرر.
وكانت النسبة المئوية للحجم داخل القحف المكون من آفات المادة البيضاء 0.30 للمجموعة المعزولة اجتماعيا، مقابل 0.26 للمجموعة الأكثر ارتباطا اجتماعيا. ووجد الباحثون أن أعراض الاكتئاب تفسر جزئيا العلاقة بين العزلة الاجتماعية وأحجام الدماغ.
وتقول الدراسة إن انخفاض معدل الاتصال الاجتماعي يرتبط بانخفاض حجم الدماغ المرتبط بالوظيفة الإدراكية.
ويُعدّ حجم الدماغ سمة مهمة من سمات الدماغ البشري، إذ يلعب دورا مهما في صحتنا العقلية والبيولوجية. فالدماغ هو عضو معقد مسؤول عن معالجة المعلومات وتنسيق وظائف الجسم وتمكين القدرات المعرفية. ويؤثر حجمه، إلى جانب بنيته ووصلاته العصبية، على مختلف جوانب صحة الإنسان وسلوكه.
تؤكد الدراسة أن الأشخاص الذين لديهم قدر أقل من الاتصال الاجتماعي لديهم حجم دماغ إجمالي أقل بكثير من أولئك الذين لديهم اتصالات اجتماعية أكثر
ويرتبط حجم الدماغ بالقدرات المعرفية، بما في ذلك الذاكرة وحل المشكلات والتفكير والمهارات اللغوية. بشكل عام، ارتبطت الأدمغة الكبيرة بقدرات معرفية أعلى كما يمكن أن يؤثر حجم مناطق معينة في الدماغ على وظائفها. على سبيل المثل، ترتبط قشرة الفص الجبهي الأكبر، وهي المنطقة المسؤولة عن اتخاذ القرار والوظائف التنفيذية، بمستويات أعلى من قدرات ضبط النفس والتخطيط.
ويمكن أن يكون حجم الدماغ ذا صلة في فهم بعض الاضطرابات والحالات العصبية. تم ربط التغييرات في حجم الدماغ أو التطور غير الطبيعي لمناطق معينة في الدماغ بحالات مثل مرض الزهايمر واضطراب طيف التوحد والفصام.
ولأن الدماغ هو عضو كثيف الاستهلاك للطاقة، يمكن أن يكون لحجمه آثار على التمثيل الغذائي العام للفرد. قد تتطلب الأدمغة الأكبر حجما مزيدا من الطاقة، مما يؤدي إلى اختلافات في معدلات التمثيل الغذائي بين الأفراد. بشكل عام، يعدّ حجم الدماغ عاملا مهما في صحتنا العقلية والبيولوجية.
تجنب العزلة وتعزيز التواصل الاجتماعي
أظهرت بعض الدراسات أن تعريض كبار السن لمجموعات محفزة اجتماعيا تعكس الانخفاض في حجم الدماغ ومهارات التفكير والذاكرة المحسّنة. لذلك؛ من الممكن أن تمنع التدخلات الهادفة لتقليل العزلة الاجتماعية فقدان حجم الدماغ، وتحول دون الخرف الذي يتبع ذلك غالبا.
يتطلب منع العزلة الاجتماعية تضافر الجهود من الأفراد والمجتمعات وصانعي السياسات. فمن خلال تعزيز الشعور بالانتماء الى المجتمع، وتعزيز الروابط الاجتماعية، وتقديم الدعم للفئات الضعيفة من السكان، يمكن اتخاذ خطوات استباقية للحد من العزلة الاجتماعية.
وتقول الدراسات إن تشجيع المشاركة في الأحداث والنوادي والمنظمات المحلية توفر فرصا للأفراد للقاء أشخاص جدد وبناء روابط اجتماعية والمشاركة في الأنشطة المشتركة، كما أن تعزيز التفاعلات بين مختلف الفئات العمرية، مثل تنظيم الأحداث التي تجمع بين كبار السن والشباب والأطفال قد تساهم في رفع مستويات التفاهم المتبادل، وتكافح الصور النمطية المرتبطة بالعمر، وتوفر أنظمة دعم قيمة.
ويمكن أن يؤدي إنشاء مساحات مشتركة ومرافق مشتركة إلى تسهيل التجمعات الاجتماعية وتعزيز تفاعلات الجوار؛ قد يحدث ذلك عبر تصميم مبتكر للأحياء وخيارات الإسكان التي تشجع التفاعلات الاجتماعية وتعزز الإحساس بالانتماء للمجتمع. ويمكن أن يساعد تشجيع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ومكالمات الفيديو والمنتديات عبر الإنترنت الأشخاص على استمرار التواصل، خصوصا عندما تكون التفاعلات الجسدية صعبة، لكن يجب اعداد برامج لكبار السن الذين لا يملكون خبرات تكنولوجية وتقنية لتعليمهم كيفية استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة.
وتشجع الدراسات أيضا على إشراك المتطوعين في دعم الأفراد الأكثر عرضة لخطر العزلة الاجتماعية، مثل كبار السن أو الأفراد ذوي الإعاقة. ويمكن للمتطوعين توفير الرفقة وتقديم المساعدة في المهمات اليومية وتنظيم النشاطات الاجتماعية. كما يجب رفع مستوى الوعي بأهمية الروابط الاجتماعية وأخطار العزلة الاجتماعية عبر تثقيف الأفراد والأسر والمجتمعات حول العواقب المحتملة للعزلة الاجتماعية وفوائد البقاء اجتماعيا.