« لكنني بوذي منذ زمن طويل… ولم أعد يهودياً!»
في زمن بقاء إسرائيل موضوع تساؤل في عقد الثمانين من وجودها، وفي غمرة العدوان الإسرائيلي على كل الحقوق الفلسطينية الدينية والمدنية والسياسية. وفي ظل دولة ولدت من صراع تفكيك الاستعمار، أسيرة أطروحاتها ولم تعد قادرة على التخلص منها، كالسلام بالقوة والتطبيع مع دول الأطراف العربية ما عدا فلسطين. يعد إدغار موران، صوتا قادما من أعماق ثقافة تاريخية منفتحة على كل ما هو إنساني في الثقافات الأخرى، لفك شيفرة ذاكرة خصبة في صراع وجودي في أرض فلسطين التاريخية.
يعتبر إدغار موران، آخر المفكرين والفلاسفة المثقفين العالميين الأحياء في هذا القرن، الذين يخوضون معركة الأفكار والمعرفة، فهو ينظر إلى دور المثقف المعاصر بالإضافة إلى نشاطه ككاتب أو فيلسوف أو أديب، يتوجّه إلى الرأي العام، كحامل لرؤية إنسانية تغوص في المشاكل الجوهرية والشاملة والمرتبطة بالمصير الإنساني وبالسياسة والعدالة والقانون، للدفاع عن النزاهة الثقافية. وكذلك يلعب دورا أساسيا في الكتابة والتفكير بالمستقبل الآتي، في سياق إعلامي وعالم أكثر تخصصا، لتوحيد معايير الفكر في قضايا عالم سائر نحو الهاوية. وأن يكون المثقف عضويا بالمفهوم الغرامشي، يكتب عن الظلم والمظلومية التي لحقت بشعوب معينة في هذا العالم.
لقد كان طلائعيا في اتخاذ مواقف صريحة من معظم القضايا المطروحة عالميا، ساعيا إلى تفكيك سيرورتها وفهم تناقضات كينونتها، عاش تجربة المقاومة في شبابه، غادر الحزب الشيوعي اعتراضا على فظائع الستالينية. وأيّد بقوة وبلا هوادة استقلال الجزائر، وكان من القلائل الذين ناصروا القضية الفلسطينية وتعاطفوا معها وكتبوا عنها. لقد عاش المفكر والفيلسوف إدغار موران تجربة الإقصاء، هذا المفهوم الذي استخلصه من تجربة عن وفاة والدته، لقد تعرض إلى الإبعاد من طرف الأسرة حينما لم تكشف السبب في وفاة والدته، وهو في عمر العاشرة، فتركته يبحث عن الحقيقة لوحده، ولذلك يرفض إدغار موران كل ما له علاقة بالإقصاء، فكما تعرض للإهانة من طرف أسرته تعرضت القضية الفلسطينية للإهانة من طرف الأسرة الدولية التي ترفض معاقبة الكيان، وفي هذا السياق ينظر للقضية الفلسطينية على أنها قضية سياسية وليست دينية، وأنه يتم توظيف الدين فيها لأهداف سياسية، فالكيان الصهيوني الذي يستولي على مدينة القدس، يحرم الملايين من المسيحيين والمسلمين الفلسطينيين من حقهم فيها. حتى وصلت بها المغالاة إلى اعتبار الأعياد الوطنية أعيادا دينية، ويجعل من القصة الدينية بشخصياتها أساس صراع سياستها مع الفلسطينيين قائلة: «إن الله يريد ذلك، إن الله وهبنا ذلك».
كما تأثر كثيرا بالظاهرة السيكولوجية المرتبطة باحتقار الشعوب، حينما انتقد الصهيونية باعتبارها منافية لليهودية الحقيقية وتلطيخاً لها، لتجريدها وطن الفلسطينيين وسرقة تاريخية لذاكرتهم. إن المحرقة وإهانتها الإنسانية في حق كل سكان أوروبا بمن فيهم اليهود، والغجر والقاصرون. لم تكن درسا أخلاقيا لهم، بل حملوا كل تبعاتها إلى أرض فلسطين. لقد خاض المعارك الفكرية بلا تردد وعاش حمى الصراعات السياسية للنزاع العربي الإسرائيلي، حتى أوصلته إلى المحاكم في بعض الأحيان بتهمة القذف العرقي، ولاسيما حين كان يجابه المتطرفين اليهود والصهاينة في فرنسا نفسها كما في إسرائيل. وأن يتم التعتيم على كتابه «العالم الحديث والقضية اليهودية» (2006) من كبريات الصحف والمجلات في فرنسا، بسبب مواقفه.
لقد حاول في مقالاته العديدة، البعيدة عن المنحى العاطفي، بتشخيص دقيق للصراع العربي الإسرائيلي. من بينها مقالة «فلسطين الرؤية المزدوجة» (في جريدة ليبراسيون الفرنسية سنة 1997) قدم فيها الحجاج الإسرائيلي والفلسطيني حول الحق التاريخي بالأرض. وكذلك في مقال «البسيط والمركب» (اللوموند، 2 فبراير/شباط 2001) حيث عالج ظاهرة المضطهِد الإسرائيلي القوي والمضطهَد الفلسطيني في أرضه التاريخية، ووقع سنة 2002 مع دانييل سالناب والمفكر الجزائري الفرنسي سامي ناير في منبر حر لجريدة «اللوموند» الفرنسية مقال «إسرائيل ـ فلسطين: السرطان». ضد الحكومة الإسرائيلية اعتبرته المنظمات الصهيونية «معادياً للسامية»؛ (لقد أخفقت محاكمة حركها مؤيدون لإسرائيل، ضد المفكر إدغار موران والكاتبة دانيال صالوناف والمحلل السياسي سمير ناير، وبرأتهم محكمة التعقيب باسم حرية التعبير بسبب هذا المقال في 2002).
ويتفق موران مع طارق رمضان في نهاية الحديث عن الصراع العربي الإسرائيلي، في أن الحل الأقرب والمنصف جزئيا، هو حل الدولتين، في استقلال شبه تام ودون هيمنة إسرائيلية.
وفي سنة 2013 كان له لقاء متميز مع الأكاديمي الإسلامي طارق رمضان في مراكش، كان لقاء الإنسانية في عمقها الحواري البناء، حيث ناقشا قضايا مختلفة حساسة تخص العالم المعاصر. وكان يدير الحوار الفيلسوف كلود هنري ديبور، تناول اللقاء عدة قضايا معاصرة، وكانت ثمرته طباعة كتاب تحت عنوان «قضايا في مخاطر الأفكار، الأسئلة الكبرى». شجب فيه موران الغطرسة الإسرائيلية والجرائم التي ترتكبها في حق الفلسطينيين، وتأسف على وضع الفلسطينيين في المخيمات المأساوية، كما استنكر انقسام وتشتت مواقف واستراتيجيات الحركات السياسية الفلسطينية، ما دفع موران إلى القول في إحدى صفحات الكتاب: «عندما يدخل الله كرمز للأديان في الواجهة، لا يمكن آنذاك تصور حدوث مصالحة» إن الله في نظره يتحول إلى شماعة للصراع بين الأديان، كما يحصل الآن بين إله الصهاينة وإله الفلسطينيين، فبدل الوحدة من أجل الأرض المغتصبة، صار الصراع على مستوى السماء بين مؤمن وكافر، حيث يكاد البعض يخفق في تحديد طبيعة الصراع، أهو ديني أم سياسي من الجانبين، حيث يرى اليهود «أن الأرض عطية من الرب» وأن إسرائيل تتقوى أكثر كلما تضاعفت وتفككت الدول المحيطة بها كسوريا ولبنان والعراق، واستعار موران قولة لفيكتور هوغو يقول فيها «مظلوم الأمس، هو جلاد الغد». إن منح الشعب الفلسطيني حقه ينبغي أن يكون من منطلق إنساني بعيدا عن أي تخندق ديني أو سياسي أو اقتصادي. إن إصابة القضية الفلسطينية بالعزلة لا يجعل المثقف الحر يشعر باليأس، فيجب عدم الكف عن الشهادة لصالح المهزومين يقول في الكتاب: «إن الشيء الذي يؤثر في نفسي كثيرا في هذا التاريخ، ليس هو ظاهرة السيطرة، بل الظاهرة السيكولوجية المرتبطة بالاحتقار».
ويتفق موران مع طارق رمضان في نهاية الحديث عن الصراع العربي الإسرائيلي، في أن الحل الأقرب والمنصف جزئيا، هو حل الدولتين، في استقلال شبه تام ودون هيمنة إسرائيلية. إن هذا الالتزام الأبدي بعدالة القضية الفلسطينية، يأتي من شعوره الإنساني بالانتماء إلى الأرض وارتباط شخصيته منذ طفولته ومراهقته بها، كما كان بسبب عدم تلقيه من أسرته ثقافة يهودية، سواء تعلق الأمر بالدين أو السياسة أو الأخلاق، كانت أسرة علمانية تؤمن بالعلم ومبادئ الأنوار (الشيء الذي دفعه لرفض الانضمام إلى جيش الحرب الصهيوني باعتباره تشكيلا مسلحا لكيان صهيوني في أرض فلسطين التاريخية). ترسخت فيه قيم التضامن والتسامح والحوار مع الآخر. هذا المنطلق المتجذر في إنسانيته وكينونته، جعله يتضامن مع جميع المضطهدين في العالم، بما فيها معاناة اليهود في الماضي منذ آلاف السنين، وحاليا مع الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي. هذا العمل الفكري والثقافي من أجل التعريف بالقضية الفلسطينية، كقضية إنسانية وكونية تعكس معاناة شعب تعرض للاضطهاد والاستبعاد، وجرد من أرضه وحكم عليه بالرحيل، ولهذا يعتبر إدغار موران نصير الملعونين والمضطهدين والمظلومين في العالم أجمع، قائلا: «علينا أن نعترف بأولئك الذين لا يحظوْن بالاعتراف: المُحتَقرين، والمُهانين. ليكنْ لديْكم حسُّ الأخوة تجاهَ جميع الذين يتألَّمون».
القدس العربي