تخطي إلى المحتوى
الكتابية والحروفية.. فن أصيل في روح الحداثة الكتابية والحروفية.. فن أصيل في روح الحداثة > الكتابية والحروفية.. فن أصيل في روح الحداثة

الكتابية والحروفية.. فن أصيل في روح الحداثة

انتشر استعمال الخط العربي في التصوير الحديث والنحت بصورة واسعة وبسرعة لافتة حتى أصبح الحرف العربي من أهم عناصر العمل الفني التجريدي، والذي يضفي على العمل الفني قيمة جمالية عالية، وبعدا جديدا له خصوصيته كمفهوم وكمضمون يرتقي بالعمل الفني التجريدي إلى مستوى متفرد من الناحية الشكلية.

فما الذي جعل الفنان العربي المعاصر يقحم الحرف في عمله الفني التشكيلي؟ وهل هذا الأمر مجرد صيحة جديدة في التشكيل العربي الحديث أم أن للأمر جذوره التاريخية والثقافية والفكرية؟

إنه لمن غير العدل والإنصاف النظر إلى تجربة الفنانين الحروفيين على أنها مجرد محاولة متسرعة لتأصيل الفن التشكيلي الحديث الذي يعتبر صناعة غربية تماما، والحق أن انتشار هذه الظاهرة الفنية في الآونة الأخيرة والتي يمارسها العديد من الفنانين التشكيليين العرب المعاصرين، لها أبعاد فكرية وتاريخية لا يمكن إهمالها، فهي التي تحدد أهمية هذه التجربة التي كان لها بالغ الأثر على نفس المتلقي العربي والذي كان يرى في الفن التشكيلي الحديث مجرد خطوط وبقع لونية لا معنى لها، فأصبح يقف أمام العمل الفني ويعطيه ما يستحقه من إجلال وتقدير ويستشعر في نفسه القيم الجمالية الكامنة فيه.

في الحقيقة إن إدخال الحروف والكتابات على المنحوتات والتماثيل والصور وتوظيفه في خدمة العمل الفني ليس بالأمر المستجد، فقد ظهر قديما في بلاد الرافدين ومصر وسوريا التي تضمنت فنونها كتابات مسمارية أو هيروغليفية، وكانت هذه الكلمات تحمل دلالات معنوية مكملة للفكرة والمضمون المراد تمثيله في العمل الفني، وأداة جمالية في نفس الوقت تتخذ صفة زخرفية للتأكيد على الطابع الإبداعي للعمل ولإخراجه عن أصله الواقعي، ما يضفي عليه بعدا روحيا وجماليا خاصا.

الخط العربي في العصور الإسلامية

وبعد الإسلام، نال الخط العربي مكانة خاصة جدا، حتى أنه أصبح رمزا للجمالية الإسلامية ودخل في جميع مناحي الإنتاج الفني الإسلامي، فنرى لوحات كتابية ضخمة نقشت أو حفرت على مداخل المساجد والقصور وعلى المنابر والمحاريب، وأيضا نجدها على الزخارف الخشبية وعلى ألواح القيشاني، وتكون أحيانا مستقلة بذاتها أو تكون مختلطة مع أنواع الرقش العربي المجرد وبانسجام مدهش حتى يظن من لا يعرف العربية أنها من ضمن العناصر المجردة المتممة للعناصر الزخرفية الأخرى النباتية أو الهندسية. وأصبح الخط العربي بمختلف أنواعه من أهم العناصر الزخرفية في الفن الإسلامي حتى أن بعض المخطوطات بما فيها من تزويق وتلوين وتنميق أصبحت قطعا فنية خالصة يتناقلها المقتنيون وتعرض في المتاحف لما تحمله من قيمة فنية وجمالية عظيمة.

وإذا أردنا أن نعزو هذا الاهتمام المفرط بجماليات الخط عند العرب والمسلمين، ذلك أن القرآن الكريم أشار إلى أهمية ورمزية القلم في أكثر من موضع فأصبح للقلم قدسية خاصة في ذهنية المسلمين حيث يعتقد المسلم حسب النصوص أنه أول ما خلق الله سبحانه وتعالى القلم وذلك قبل خلق السماوات والأرض وجميع الخلائق، وهو الأداة التي تساعد على نقل المعرفة بين الناس على مختلف العصور والأماكن من خلال الكتابة والتدوين.

وعلى الرغم من أن جمال الخط ليس شرطا لتحقيق الوظيفة الأساسية للكتابة، فإن فكرة (الخط الجميل يزيد الحق بيانا) التي أطلقها ابن عباس دفع بالخطاطين إلى ابتكار أنواع من الخطوط المتميزة وخلق ذلك بيئة تنافسية بينهم، وشجع ذلك أيضا الملوك والسلاطين لما رأوا فيها من مظهر لقوة السلطة وعظمتها.

فالخط الجميل اتخذ صيغة فنية ذات مضمون معنوي وخرج عن وظيفته الكتابية فأصبح صورة فنية خالصة ذات طابع شكلي تماما، وإن أهم ما دعم هذا التوجه هو رفض الإسلام لجميع أنواع التمثيل والتصوير المباشر فسعى الفنان بالمقابل إلى التجريد المطلق ووجد في الحرف العربي وما يرافقه من أشكال مجردة هندسية كانت أم نباتية ما يخدم ويشبع المنتج الفني جماليا شكلا ومضمونا، حيث أن الشكل مرتبط بأنواع الخطوط وأنماطها والمضمون مرتبط بالمعنى اللغوي للمكتوب، وتقييم الخط العربي يتم من خلال المفاهيم الفنية التشكيلية؛ فالشكل يحتل الحيز الأهم في العمل الفني وذلك أن المضمون متروك للتقييم الأدبي والفكري.

وعليه فإن الخط العربي فن تعبيري له خواصه الجمالية المتفردة وهو فن قائم بذاته له قواعده وأنماطه الثابتة كالخط الكوفي والرقعي والثلث والديواني... إلخ. هذا الفن الإبداعي الذي اعتمد النقطة كوحدة قياس ثابتة في كل أنماطه فتقاس الأحرف في كل نوع من أنواع الخطوط بعدد النقاط وبها تحدد أبعاد الأحرف لتخلق التوازن والشكل المميز لكل نمط وأي خلل بهذه الأصول الإنشائية للحروف تعرضها للخلل وتخرجها من سياقها الجمالي.

إن القيمة الجمالية التي يضمنها الخط العربي لها بعدها الروحي والحضاري. فإذا كانت اللغة العربية هي روح الأمة الإسلامية، فالخط الجميل هو الفن المعبر عن روحها وشخصيتها ومقوماتها الحضارية والثقافية.

إن هذا الموروث الفني العظيم بما يحمله من قيم جمالية وروحية وثقافية كان لا بد من أن يؤثر على وجدان الفنان العربي المعاصر بشكل لا يمكنه من تجاهله على الإطلاق، كيف لا وقد وصل تأثير جماليات الخط العربي إلى فنون الغرب منذ بدايات عصر النهضة في كثير من الأماكن، فعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر الكتابة العربية المطرزة على حافة عباءة الملك روجر الثاني. وحتى أنه في أوج تطور الفن التشكيلي الحديث في أوروبا كان للخط العربي نصيبا من التوقير ومحاولات عديدة لتوظيفه في العمل الفني، فهذا (بول كللي) يحاول تعلم الكتابة العربية ليضمنّها في لوحاته التي أنتجها بعد زيارته لتونس، وغيره كثر. ولنا هنا أن نورد العبارة الشهيرة المنسوبة لبيكاسو عندما قال: "كلما كان لدي شيء مفقود في الفن عثرت عليه في الخط العربي".
إن الفن التشكيلي الحديث الوافد على المجتمعات العربية والإسلامية في بدايات القرن العشرين جعل الفنان التشكيلي العربي يجد نفسه غريبا في مجتمعه الذي لم يتقبل جماليات الفن التشكيلي الغربي والتي في الغالب كانت مستندة إلى فلسفات وأفكار غير مقبولة في المجتمعات العربية والإسلامية كالعدمية والعبثية... إلخ. فكان اللجوء إلى استعمال الحرف العربي في الفن التشكيلي نتيجة بديهية لهذا الواقع ومحاولة لخلق فن عربي حديث، أو بعبارة أخرى محاولة لتعريب الفن التشكيلي الحديث وإخراج الفن التجريدي من صيغه المبهمة التي لا يجد فيها المتلقي أي معنى واضح يتمكن من فهمه، حيث أن الحرف العربي ظهر غالبا في أعمال الفنانين التجريدين.

أهمية الحرف وجماليته الفنية

هذه المحاولة لتأصيل الفن الحديث، إذا جاز التعبير، قد أثمرت فأنتجت فنا بهيجا له خصوصيته الشرقية ويتماشى مع الحداثة الغربية بكل أدواتها، وهنا لا بد لنا من الإشارة إلى أن فكرة استعمال الأحرف في الفن الحديث لم تكن بالجديدة. فقد استخدم بيكاسو وبراك الأحرف اللاتينية في ملصقاتهما، ولكن ما يميز الحرف العربي في أعمال التشكيلين العرب عدا عن جمالية الشكل هو الدلالات العميقة التي تحملها بعض الأحرف في نفوس الناس.

هذه الدلالات المعنوية لها جذورها، حيث أن القرآن الكريم أعطى بعض الحروف خصوصية عن غيرها في افتتاحيات بعض السور كحرف النون مثلا والألف واللام والميم (ألم)... وغيرها. فنجد أن دخول الحرف العربي في العمل الفني يعطيه بعدا روحيا وصوفيا عميقا. وحتى يستطيع الفنان العربي النجاح في إبراز هذه الدلالات كان لا بد له من تجنب استعمال الخط النمطي الذي يدخل اللوحة في الصفة الكتابية ويخرجها من صفتها الإبداعية وكان أيضا يبتعد عن التأكيد على إيضاح المضمون اللغوي للكلمة حتى لا ينشغل المتلقي بمعناها ويصرفه ذلك عن تذوق جمالية العمل الفني ككل.

الفنان السوري أول من أدخل الكلمة في اللوحة التشكيلية

إن أول من استعمل الكلمة العربية كتكوين أساسي في اللوحة التشكيلية هو الفنان السوري الراحل سامي برهان منذ عام 1958 والذي يعد شيخ الحروفيين العرب. وهناك العديد من الفنانين العرب الذين قاموا بمثل تلك المحاولات، نذكر على سبيل المثال أحمد الشرقاوي من المغرب ويوسف سيدا من مصر ووجيه نحلة من لبنان ومحمود حماد من سوريا وغيرهم الكثير من الفنانين الذين جمعهم عشقهم للحرف العربي ولتراثهم العريق، ولكنهم لم يتمكنوا من عقد لقاء جامع بينهم باستثناء جماعة "البعد الواحد" في العراق.

جماعة البعد الواحد

في عام 1971 أقام مجموعة من الفنانين العراقيين معرضا مشتركا تحت شعار: "الفن يستلهم الحرف"، وسمّوا هذا المعرض باسم "معرض البعد الواحد". هؤلاء الفنانون هم: شاكر حسن آل سعيد، جميل حمودي، محمد غني، عبد الرحمن كيلاني، ضياء عزاوي، ورافع الناصري.

وقد أصدروا بيانا جاء فيه: "نجد أنفسنا اليوم، نحن لفيف من الفنانين الذين يساهمون في إدخال الحرف عبر أعمالهم التشكيلية، ملزمين بإقامة معرض فني ووثائقي باسم معرض البعد الواحد وتحت شعار الفن يستلهم الحرف ومن نقطة انطلاق تشكيلية بحتة مثمنين فيه هذا العنصر الهام كجذر أصيل معبر عن روح حضارتنا وفلسفتها معا في أكثر جوانبها إشراقا)

ولتوضيح توجه هذه الجماعة فكريا وفلسفيا نذكر ما قاله الفنان فائق حسن: "لا يهمني في الحرف معناه الكتابي، أي دلالته الرمزية واللغوية، ولا إشاراته الوهمية التصويرية، بقدر ما يهمني ماهيته كخط وحركة وإيقاع وذلك من حيث مكانته الشكلية في الفن المجرد فهو في هذه الحالة مدخل إلى الفن التجريدي".

إن نشاط هذه المجموعة من الفنانين التشكيليين العرب وضع أساسا لمفهوم وقيمة الخط والحرف العربي الجمالية والتكوينية في العمل الفني التشكيلي، وإن ما قدمه الفنانون الحروفيون في أعمالهم الفنية مد جسرا بين الفنان العربي والمتذوق من حيث أن استعمال الحرف في الفن لامس المتلقي العربي في وجدانه وموروثه الثقافي فلم يعد العمل الفني المجرد بنظره غريبا وتافها، فكان ما أنتجوه من أعمال فنية شكلا من أشكال النجاح في تأصيل وتعريب الفن التشكيلي الحديث وخطوة مهمة للوصول إلى هوية فنية عربية خالصة ومتماشية مع تطور الفن الحديث وأدواته.
المصدر: 
تلفزيون سوريا